لسيناء قيمة كبيرة فى وجدان كل مصرى، فقد صنع لها التاريخ مكانة خاصة، أضفت الأديان على أرض سيناء قداسة فريدة، وجعلتها باباً نحو السماء، بينما كونها البوابة الشرقية لمصر، ومعبراً للجيوش من وإلى وادى النيل منحها أهمية استراتيجية خاصة وصارت بحسب تعبير العلاّمة جمال حمدان «خط الدفاع الأخير» عن مصر. فى العصر الحديث لم تتراجع قيمة سيناء بل تضاعفت، فنالت نصيبها من كل مواجهات الصراع العربى- الإسرائيلى، وباتت ميداناً لأنبل قصص التضحية والفداء وتجسيد معانى الوطنية المصرية. وعندما أرادت جماعات الظلام وعصابات الإرهاب النيل من إرادة المصريين بعد ثورة 30 يونيو، كانت سيناء هدفهم، لكن فاتهم أن المصريين الذين قهروا الجيش الذى زعموا يوماً أنه «لا يُقهر»، وقادوا باقتدار معركة «التحرير»، قادرون على تكرار الإنجاز فى معركة «التطهير»، والآن يواصلون بعزم معركة «التعمير». ■■■ يمكن أن نسرد هنا أرقاماً كثيرة حول ما قدمته الدولة المصرية لسيناء فى العقد الأخير، فقد زاد إجمالى الاستثمارات العامة الموجهة لتنفيذ مشروعات فى سيناء ومدن القناة نحو 10 أضعاف لتصل إلى 58.8 مليار جنيه عام 2023/ 2024، مقارنة ب 5.9 مليار جنيه عام 2013 / 2014، فضلاً عن مشروعات عملاقة لربط سيناء بوادى النيل عبر شرايين متعددة فوق وتحت الأرض من أنفاق إلى طرق وخطوط للسكك الحديدية وتجاوز إجمالى الاستثمارات خلال العقد الماضى 1٫2 تريليون جنيه. لكن الأهم ليس مجرد الأرقام أو سرد ما تحقق على أرض الفيروز من إنجازات، بل الأهم - فى تقديرى - هو أن تلك التنمية الهائلة دليل عملى على إرادة الدولة المصرية وقدرة المشروع الوطنى الذى يقوده الرئيس عبدالفتاح السيسى على تنفيذ رؤية ظلت لقرون وليس فقط لعقود حبيسة الكتب والدراسات والتقديرات الاستراتيجية، فتنمية سيناء ظلت لقرون طويلة حلماً، لم يغادر مربع التمنى، لكنه الآن يدخل منطقة الواقع بمشروعات عملاقة وتنمية حقيقية تشمل: الحجر والبشر. ساعات قليلة قضيتها فى مدينة طابا الحبيبة بكل ما تحمله من رمزية على تمسك المصريين بأرضهم وقدرتهم على الحفاظ عليها بشتى الصور، تلبية لدعوة اللواء خالد مبارك محافظ جنوبسيناء، وهو رجل يمتلك ناصيتى الرؤية المستقبلية الطموحة والواقعية الشديدة لتنفيذ تلك الرؤية، فضلاً عن دأب ونشاط يمكنه من تحقيق المُستهدفات. الزيارة كانت احتفالاً بالعيد القومى للمحافظة ضمن وفد إعلامى، ومشاركة العديد من الشخصيات الوطنية البارزة، فى مقدمتهم محافظون سابقون لجنوبسيناء فى لفتة تعكس قيمة الوفاء والحرص على تأكيد أهمية امتداد تجربة التنمية، ورغم ضيق وقت الزيارة لكنها كانت كافية للإطلاع على ملامح ما يجرى فى أرض «الفرص الواعدة». ■■■ اللافت فى المشروعات التى يجرى تنفيذها اليوم فى جنوبسيناء، وبالتأكيد مثلها كثير فى شمالها، أنها لا تقتصر على التنمية السياحية التى ظلت هى الأكثر جذباً للاستثمارات طيلة عقود، وإن كانت الرؤية التنموية لا تغفل أهمية القطاع السياحى، فالمنطقة تملك مقومات هائلة لجذب السائحين من كل ربوع العالم، ورغم تأثرها سلبيا بما يجرى فى المنطقة والعالم من تداعيات، لكن تبقى السياحة الشاطئية فى سيناء محل اهتمام ودعم، فالمنطقة تمتلك ثلث ثروة مصر من الشواطئ، فضلا عن أنها الأجمل والأنقى، كما تحظى السياحة الدينية بأولوية خاصة فى واحدة من أقدس بقاع الأرض لجميع أتباع الديانات السماوية، وسيكون مشروع التجلى العظيم فى سانت كاترين هدية مصرية جديدة للعالم. مشروعات التنمية التى يجرى تنفيذها اليوم تتضمن مشروعات زراعية وصناعية وأخرى للبنية التحتية وتوفير مساكن بدوية لأهالى المحافظة، فضلاً عن مناطق صناعية تستفيد من مقومات المنطقة الطبيعية وبخاصة فى قطاع المحاجر والثروات المعدنية، وإقامة صناعات تتناسب وطبيعة الأرض. وبموازاة مشروعات العمران الشامل، تجرى مبادرات لا تقل أهمية لبناء الإنسان، فالمحافظة كانت من أوائل المحافظات التى انضمت إلى منظومة التأمين الصحية، وتضاعف عدد الجامعات فيها خلال السنوات العشر الأخيرة، وبلغت نسبة زيادة عدد المدارس فى سيناء ومدن القناة 22.3 فى المائة حيث وصل عددها إلى 3094 مدرسة عام 2023/2024، هذا إضافة إلى مبادرات لتشجيع المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر التى تخرج المواطن السيناوى من نطاق الأعمال التقليدية وتمنحه فرصاً للعمل والكسب تتناسب والتطور الذى تشهده مختلف أوجه الحياة. ■■■ فى كتابه المهم «سيناء فى الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا»، أشار جمال حمدان إلى دور التخطيط القومى الواعى الفاعل ك «مذيب للعزلة»، مؤكدا أنه «بعد درس العدوان الإسرائيلى المتكرر وتجربة الاحتلال التعسة أصبح ربط سيناء بالوطن الأب ودمجها فى كيانه العضوى وإدخالها فى دائرة كهربائية الحيوية الحياتية بديهية أولية للبقاء، والمواصلات والتصنيع والزراعة والتعمير هى أدوات هذا التخطيط الحضارى الرئيسية». وها هى نبوءة جمال حمدان تتحقق وفى توقيت بالغ الأهمية، تتضاعف فيه الأزمات من حولنا، وتتزايد فيه مصادر الخطر، ولا سبيل للمواجهة سوى بامتلاك قدراتنا الشاملة، وتعظيم إمكاناتنا، وشحذ إرادتنا، وبناء وطننا بأيدينا، وكما كانت سيناء شاهدة على بطولات المصريين وتمسكهم بأرضهم على مر التاريخ وتشبثهم بكل حبة رمل، ودفاعهم عنها بالحرب وبالسلام وبالقانون الدولى، فإنها تشهد اليوم أيضاً على مقدرتهم الملهمة وبطولات لا تقل أهمية فى ميدان البناء والعمران.