فوتوغرافيا: منى عبد الكريم فى زيارتى الأولى إلى بيت المبدع محمد جبريل بعد غيابه؛ ولجتُ دون أن أجده مبتسمًا على الكرسى المواجه للباب، لم أجد عامود الكتب الذى يحتل الكرسى المجاور له، ولا أوراقه وقلمه، ولا نظارته التى يضعها – غالبًا – أمامه على المنضدة، ليلتقطها بسهولة وقتما يحتاجها. وجدتُ كثيرًا من الألم تحمله زوجته د. زينب العسال، يتجلى فى صمتها وشرودها، كأنها لا تزال تتأقلم مع فكرة أنه لم يعد هنا، وأن خطواته حلَّت محلها الذكريات. وقفتُ أمام مكتبة جبريل، تلك المساحة التى شهدت على رحلته الطويلة مع الأدب؛ أرفف ممتلئة بكتب تحمل صوته وأصوات الآخرين، تراصَّت بجوار بعضها لتلخص عمرًا من القراءة والتأمل. وفى أحد الأركان وُضِعت أوسمته وشهاداته، وحملت الجدران صورًا له ولزوجته خلال مراحل مختلفة، وبين كل ذلك تناثرت قطع أنتيكة وتذكارات صغيرة جلبها من دول مختلفة خلال أسفاره؛ لكل قطعة حكاية وذكرى، ما بين منحوتات خشبية من أسواق شعبية، أو تماثيل وأطباق أو عرائس ماتريوشكا. كان الوجع حاضرًا بيننا، يخرج من كل الجنبات، لا يقطعه سوى صوت مواء القطط بين حين وآخر. استحضَرت معه د. زينب أوجاع جبريل على مدار حياته، قائلة: «لم تكن أوقات الفرح كثيرة فى عمره، فقد اختارت الحياة أن تمتحنه بالألم أكثر مما منحته من لحظات السعادة، لكنه كان قويًا، وراح يحوِّل المِحن إلى كتابة. قاسى منذ طفولته أمراضاً مختلفة؛ كان أولها مشكلة فى أمعائه وهو فى سنوات الصبا. ومع انتقاله من مكان إلى آخر؛ أصابته قُرحة منهِكة، مصحوبة بتقيؤ دموى، وفى عمان اكتشف الأطباء رمالًا فى كليتيه، لكنه كان يؤمن بأن الجسد له حكمته، وأن الله هو المدبر الأول والأخير، فترك الأمور تسير كما يشاء القدر، خاصة وأنه يحمل منذ ولادته ثقبًا فى القلب، ويتعايش معه بسلام». اعتاد جبريل أن يتعامل مع جسده بإيقاع خاص، وأن يمنحه فرصة لتجديد الطاقة واستعادة شىء من قوته، إلى أن خضع لعملية جراحية فى عموده الفقرى عام 2014، فكانت تلك بداية رحلته الطويلة مع الألم والصبر. تحكى العسال: «تركَت العملية أثرًا بالغ الخطورة، ليس فقط على صحة محمد، وإنما على روحه أيضًا. لجأ لها لأنه كان يعانى من آلام مستمرة فى ظهره، لم تفلح المسكنات فى إخمادها تمامًا، فقد جُلنا على أطباء كُثر، وكان أغلبهم يحذر من إجراء الجراحة، مؤكدين أن مضاعفاتها قد تكون أشد وطأة من المرض نفسه، لكنَّ طبيبًا واحدًا قال بثقة إنه سيجريها، وكل شىء سيكون على ما يرام، ووعد جبريل بأن يتعافى سريعًا ويستعيد حركته فى غضون خمسة عشر يومًا. للأسف، لم يكن ذلك صحيحًا، وبعد الجراحة وجدنا أنفسنا أمام معاناة من نوع آخر؛ ألم شديد فى الظهر، والتصاق بين الفقرات، وصعوبة فى الحركة، شيئاً فشيئاً بات كل جهد بسيط يتطلب منه معاناة مضاعفة. كم تمنينا لو أنه لم يُقدم على تلك الخطوة، وكم ندم هو نفسه على قراره. لذلك، كان دائم النصح لأصدقائه وتلامذته بألا يهملوا صحتهم، فهى أهم من كل شىء، والإبداع لا يأتى إلا من جسد سليم». رغم ما كان يعانيه؛ لم يتوقف محمد جبريل عن الكتابة، بل ظل يكتب لعشر ساعات يوميًا فى الفترات الأولى بعد الجراحة، ويقضى أوقاته المتبقية فى التأمل والقراءة، تقول د. زينب: «كان يرى أن الكتابة الحقيقية لا تولد إلا من التأمل العميق، ويقول لى دائمًا إن التأمل هِبة من الله، وعلى الإنسان أن يبقى متأملًا للحياة وتفاصيلها الخفية. وبعد أن ينتهى من التأمل والقراءة والكتابة، كان لديه طقس يومى أساسى، وهو تصفية الجرائد؛ كان يجمع الصحف التى تصدر أسبوعيًا ويوميًا، يتابعها بعناية، وينتقى منها ما يهمه. كانت الصحافة ركنًا أساسيًا فى حياة محمد جبريل، كوظيفة واطلاع، ولم تمثِّل له عبئًا فى يوم من الأيام أو عائقًا أمام إبداعه، تحكى د. زينب: «لم يرَ أبدًا أن الصحافة قد تؤثر على إبداعه، بل كان يقول لى دائمًا إن «الجورنال» لا يغير شيئًا بالنسبة له، سواء كصحفى أو كمبدع. لم يرَ أن الصحافة تسرق الكاتب كما كان يردد البعض، وإنما يحتاج الأمر – فقط – إلى حسن إدارة الوقت، فوضع لنفسه نظامًا دقيقًا يساعده على الإنجاز، إذ كان يشعر دائمًا أن الوقت محدود وعليه أن يترك منجزًا ذا قيمة». ترك جبريل إرثًا كبيرًا من الروايات، والمجموعات القصصية، والكتابات التأملية – كما اعتاد وصفها – إذ لم يعتبرها نقدًا، بل تأملات فى أعمال الآخرين. تقول د. زينب: «كتب عن جيله، وعن الجيل الذى سبقه، وعن كتاب الستينيات فى مصر، وكان يتابع المشهد الأدبى وكل ما يُكتب، خاصة من قِبل الشباب. وامتلك قدرة مذهلة على تقييم أى كاتب من خلال بضعة أسطر فقط، فيقول لى بثقة إن هذا كاتب جيد أو هذا كاتب ممتاز، أو هذا لا يزال بحاجة إلى وقت». امتلك محمد جبريل طقوسًا لم تتغير على مدار سنوات، وعافر كثيرًا كى لا يتخلى عنها، لكن اشتداد الألم أجبره على ترك بعض عاداته، مثل المشى؛ الذى صار أمنية لم تغادره حتى يوم رحيله. تقول العسال: «تمنى لو يستطيع أن يمشى كما كان؛ أن يذهب إلى الإسكندرية ويرى البحر. لكن قدماه بدأتا تضعفان، ثم أصبحت الحركة بعكاز، ثم بمشاية. لم يحب أن يراه أحد فى هذا الحال، ولم يتقبل فكرة أن يستخدم كرسيًا متحركًا، أو أن يلاحظه أحد وهو يتكئ على العكاز. حاولتُ إقناعه مرارًا كى يخرج، لكنه كان يرفض تمامًا». فى الأيام الأخيرة ازدادت معاناته، إذ انضمت الحساسية إلى آلام العظام، وربما أصيب بكورونا فزادت حالته تعقيدًا. أصبحت كل حركة صعبة، وكل نَفَس مجهدًا، ولم تستجب رئتاه للبخاخات والأدوية. مع ذلك تشعر د. زينب العسال بالامتنان قائلة: «الجيد فى الأمر أنه توفى مطمئنًا فى بيته، ووسط أولاده وأحبائه. كنا نستعد لنقله إلى أحد المستشفيات، لكنه رحل فى نفس اللحظة، بين كتبه وأوراقه. تاركًا وصية لم يُغفِل فيها كتاباته، وأعماله التى لم تُطبَع بعد».