مشهد العودة لشمال غزة «ڤيتو» ضد من يعاندون التاريخ، ويسعون لتزييف حقائقه، ومن ثم فإنه «ڤيتو» ضد من ينكرون حلم الفلسطينى فى العودة.. عائدون عائدون إننا لعائدون فالحدود لن تكون والقلاع والحصون فاصرخوا يا نازحون إننا لعائدون ............................... معذرة إيها الرابضون الصامدون العائدون، لا أملك سوى قلمى وكلمتى، ما يجيش بصدرى بركان عارم، ما يعتمل فى قلبى ألم وأمل، ما فجرتموه من مشاعر وأنا أتابع عودتكم تعجز الحروف بكل لغات العالم أن تترجمه فى رسالة، مهما بلغت بلاغتها، أن تعبر تماماً عن روعة وعظمة وعبقرية مشهد العودة الأسطورى، بتفاصيله الملحمية، وملامحه الفياضة، أقصد ما ارتسم على وجه طفل غادر غزة يحبو، وعاد إليها يهرول خلف أمه، تلك التى تجسد صمود جيل من الأمهات ورثن روح الشهادة، وانتقلت منهن إلى جيل الأبناء، والأحفاد، وكأن المقاومة باتت «چيناً» يسكن الأرحام والأرواح. ثم تلك العجوز التى يدفعها ابنها الشاب على كرسى متحرك، ولسان حالها: ليتنى أستطيع أن أمشى، بل أجرى لأعانق الأطلال، فهى على أى حال رمز وطنى. أما تلك الأسرة التى تشابكت أياديها، بينما ارتسمت على شفاههم ابتسامات عريضة، ودموع حائرة فى المآقى، لاشك أنها دموع فرحة العودة، من قلوب تعرف ماذا يعنى الوطن. حشود تتدافع، ترفع تكبيرات العيد، حقاً إن للعودة مذاق العيد، فالعود أحمد، حتى ولو كان ما يعودون إليه أنقاضاً مدمرة، تفتقد لأبسط مقومات الحياة، لكنهم متمسكون بأرض هى الموطن الذى لا انتماء لسواه مهما بلغت الإغراءات أو التهديدات! اتأمل كل وجه تتعامل معه الكاميرا بتقنية «الزوم» ولا يثير تعجبى كل ما تنضح به قسماته من كبرياء وكرامة وعزة وإصرار، وإنما يثير المشهد التلقائى إعجاباً سوف يسكن الذاكرة ما حييت. ومن الذاكرة تقفز كلمة الشهيد ياسر عرفات: «شعب الجبارين». نعم، بعد كل هذا القصف الوحشى على مدى 15 شهراً تنشق الأرض ليخرج هذا الحشد كالمارد، عبر أكثر من عشرة كيلومترات، مارد لا تقهره آلاف أطنان القنابل، بما يفوق ما ألقى على هيروشيما وناجازاكى، قصف متواصل من البر والجو والبحر، لكن ما عساها أن تفعله القوة الغاشمة، والعدو المتغطرس مع صاحب الحق، المؤمن بحقه، المتشبث بأرضه، الذى لا يتصور حياة بعيداً عن وطنه؟! ............................... هذه أرضى أنا وأبى ضحى هنا وأبى قال لنا مزقوا أعداءنا أنا شعب وفدائى وثورة ودم يصنع للإنسان فجره ترتوى أرضى به من كل قطرة ............................... يتردد صدى هذه الأبيات بين جوانحى، وفى خاطرى، وكأنى أستمع أغنية مذاعة فى هذه اللحظة! المشهد الذى ينساب عبر الشاشات يستدعى ما يناسبه - عبر الذاكرة - من كلمات تتناغم مع مقولة: الصورة بألف كلمة، لكن هنا تتضاءل قيمة الكلمات أمام طوفان بشرى يصنع مشهداً أسطورياً، يؤكد أبطاله معانى تفوق فى قوتها كل أسلحة الدمار، والذخائر الذكية والغبية و...و... باختصار، ورغم رسائل بلا حصر يحملها مشهد العودة، فإنى أعتقد جازماً أن أهم وأخطر رسالة، أن ثمة «ڤيتو» على مفهوم النكبة الذى تجذر عبر ثلاثة أرباع القرن، ولم تغادر مرارته الضمير العربى. كانت النكبة نتاج اغتصاب للوطن الفلسطينى، واقتلاع وتشريد الشعب الفلسطينى. اغتصاب الأرض يتلازم مع استبعاد شعب هو صاحبها، بافتعال مقولة تنضح إفكاً، أنها أرض بلا شعب! منذ الفصل الأول للنكبة؛ كان الخروج بلا عودة، اليوم يعود مئات الآلاف من الفلسطينيين إلى بقعة غالية من الوطن، فى شمال غزة. هل أسمح لخيالى أن يذهب بعيداً؟ هل يكون المشهد «بروڤة مبكرة» لعودة مستحقة، على الأقل إذعاناً من المغتصب لقرارات الشرعية الدولية، الضامنة لحق العودة للاجئين الذين اقتلعوا من أرضهم ظلماً وعدواناً؟ ولكن المشوار طويل وصعب وشاق. الفصل الأول من النكبة كتبه الإرهابيون الصهاينة، من خلال مذابح بلا حصر، واغتيالات وعبوات ناسفة، وإغارات على المسالمين، وتفجيرات للبيوت، وقنابل يدوية استهدفت الأسواق و...و... وسجل حافل من الجرائم المروعة، لم يكن لها هدف سوى إجبار الفلسطينيين على النزوح، ليتحولوا إلى لاجئين مشردين! ............................... لا شيء يغنى الناس عن أوطانهم حتى ولو ملكوا قصور الأرض جاهاً.. أو سكن كل الذى نبغيه من أوطاننا أن نستريح على ثراها حين يؤوينا الكفن ............................... العودة بهذا الزخم، والإصرار، والعزيمة التى ظللت مسيرة تاريخية، كانت بمثابة «ڤيتو عملى» يترجم صراع الإرادات المستمر عبر عقود.. «ڤيتو» يؤكد به الفلسطينى أنه لن يقع فى براثن فخ نكبة جديدة، فلا للتهجير، قسرياً أو طوعياً «ڤيتو»، بأثر رجعى يصرخ به الفلسطينى فى وجه الظلم والغطرسة الصهيونية المحمية بسيناريو ترامب المستحيل، الذى تفوق خطورته وعد بلفور. العودة لغزة أراها «ڤيتو» على مشهد النازحين فى نكبة 1948، تؤكد أن الفلسطينى أصبح واعياً تماماً بدرس التاريخ، فمن يغادر أرضه يصعب عليه أن يعود، من ثم فإن هذا «الڤيتو» يقول بصرامة، ووضوح لا لبس فيه: نموت ولا نغادر أرضنا. العودة لغزة أثمنها «ڤيتو» يُعلى قراراً صعباً بالتعايش مع أى خطر، وكل تضحية، فى وجه آلة حرب غاشمة، تتمتع بالدعم غير المحدود أو المشروط من حلفاء يزعمون أنهم متحضرون، لكن شريعة الغاب تحكم كل قراراتهم وتصرفاتهم! العودة لغزة «ڤيتو» يقول من خلاله شعب غزة المقاوم للنهاية، أن حرب الإبادة لن تثنيه عن الاستمرار فى الصمود، حتى لو تحول التهديد بتحويل غزة إلى جحيم، إلى ممارسة وحشية تضاف للسجل الدموى لجيش الاحتلال، ومن يدعمه بلا حدود أو سقف! العودة إلى الشمال، ليست فورة حماس، أو مجرد موسم للعودة، ولكنها «ڤيتو» ضد التطهير العرقى، وانتهاك القيم والقوانين والشرعية الدولية والإنسانية. العودة إلى شمال غزة «ڤيتو» ضد الهجرة مهما تأجلت أو تعطلت جهود إعادة الإعمار، فلن تنكسر إرادة الفلسطينى، ولن تنجح قوة على وجه الأرض فى هز إرادته فى معركة البقاء على تراب وطنه. ............................... عائدون للديار للسهول للجبال تحت أعلام الفخار والجهاد والنضال بالدماء والفداء والإخاء والوفاء إننا لعائدون ............................... مشهد العودة لشمال غزة «ڤيتو» ضد من يعاندون التاريخ، ويسعون لتزييف حقائقه، ومن ثم فإنه «ڤيتو» ضد من ينكرون حلم الفلسطينى فى العودة، بل حقه الذى تترجمه إرادة البقاء مهما كانت التضحيات. مشهد العودة فى جوهره «ڤيتو» ضد أى إعادة لإنتاج مشاريع جديدة للتوطين، والابتعاد عن ثرى الوطن، أو أى محاولة للتذويب، فأبناء حفدة كل فلسطينى غادر، فكان جزءاً من النكبة الأولى، مازالوا يحتفظون بمفاتيح بيوتهم القديمة يرثونها، ويورثونها مع صكوك امتلاك الأرض، ووثائق إثبات ملكيتهم للمنازل، بل إن المخيمات تجسد القرى والمدن التى خرجوا منها. عودة نحو نصف مليون فلسطينى إلى الأطلال فى شمال غزة «ڤيتو» من حيث المبدأ ضد أى مشاريع جديدة للتوطين أو التهجير أو التجنيس، بل هى حض لكل من نزح بالعودة إلى قريته أو مدينته فى فلسطين. العودة إلى شمال غزة «ڤيتو كالسيف» يفضح زيف السردية الصهيونية، بشأن بيع الأجداد لأرضهم طوعياً فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضى للصهاينة، فالتاريخ الحقيقى يؤكد عكس ما تدعيه هذه السردية. العودة الحاشدة من الغزيين لشمال القطاع يجب أن تُقرأ فى سياق تاريخى صحيح وواعٍ، وأن تكون داعياً لفتح ملف العودة بكل ما يتعلق به، عند الحديث عن حل نهائى وشامل للصراع العربى الصهيونى، فما حدث مجرد محطة مفصلية لكن فى مسار طويل حتى بلوغ الغاية النهائية، حين ينتزع الفلسطينى حقه فى تقرير مصيره.