الشرقية: إسلام عبدالخالق كان الفجر يتنفس بهدوء فوق قرية كفر الأعصر التابعة لنطاق ودائرة مركز شرطة أبو كبير في محافظة الشرقية، حيث تلامس خيوط الشمس الأولى أسطح البيوت ذات الطوب اللبن وبعض الأبنية الحديثة هناك، وسط تناغم زقزقة العصافير مع همسات الريح التي تداعب الأشجار والزراعات، ورائحة الخبز الساخن تتسلل من الأفران الطينية ممزوجة بروائح الحقول المجاورة التي بدأ الفلاحون يومهم المعتاد بعملهم فيها قبل أن تلسعهم حرارة النهار، لم يكن أحد يتوقع أن هذا الصباح الذي بدا عاديًا سيحمل في طياته أبشع خيانة عرفتها القرية طوال تاريخها؛ خيانة دم لا تُغتفر من أقرب الناس لأقرب الأقربين وجريمة تُعيد للأذهان أول جرائم القتل التي عرفتها البشرية. شقيقان وحقد مدفون تحت رماد الطيبة، ربما هي عبارة تلخص ما بعدها..، كان «بلال»، الرجل الأربعيني، معروفًا بين أهل القرية بطيبة قلبه، رجل هادئ يعيش حياته ببساطة، يكدح في عمله ليؤمن حياة كريمة لعائلته الصغيرة التي تضم ابنته «حور» ذات الستة أعوام، وابنه «عبدالرحمن» ذو الأربع سنوات، وزوجته «فاتن» ربة المنزل التي تصغره ببضع سنين، التي كانت سندًا له في رحلة الحياة بصعابها وعثراتها. الجميع يشهد ل «بلال» بحُسن الخلق وأنه لم يكن ليدخل في خلافات أو يتشاجر مع أحد، حتى مع شقيقه «محمد» الذي يكبره بأربع سنوات، والذي كان وجهه بين الناس يوحي بالهدوء، وكان يُنظر إليه ك «رجل محترم» يعمل مدربًا في مدرسة لتعليم قيادة السيارات،لكن قلبه كان ممتلئًا بالحقد الدفين تجاه شقيقه منذ وفاة والديهما، حيث بدأ الخلاف الصامت على الميراث. كان «محمد» يشعر بأنه لم يحصل على حقه الكامل، وكان يعتبر أن «بلال» قد استحوذ على ما لا يستحقه بيت العيلة وقطعة أرض، لكنه لم يبح بذلك علنًا، لكنه ظل يحرق قلبه بالغل لفترة ليست بالقصيرة رغم أنه حصل على نصيبه من الميراث كاملا مثل شقيقه، حتى تحوّلت نار الحقد إلى قرار مرعب «إن لم يكن الميراث لي فلن يكون له هو أيضًا»؛ هكذا سولت له نفسه ووسوس شيطانه بقتل أخيه. فجر الجريمة.. في ذلك الصباح، خرجت زوجة «بلال» مبكرًا إلى السوق، تحمل سلة صغيرة، تختار الخضراوات والطعام لوجبة الإفطار، لم تكن تعلم أنها تغادر منزلها تاركة وراءها مذبحة لم تخطر ببالها يومًا. داخل المنزل، كان «بلال» يحتسي كوبًا من الشاي في فناء البيت، يجلس في هدوء يتصفح هاتفه، بينما يلعب طفلاه بالقرب منه، كانت الأجواء دافئة، لا شيء يوحي بالخطر. لكن في ذلك الوقت، كان هناك شخص يتسلل عبر الباب الخلفي مرتديًا قناعًا يخفي ملامحه، يخطو بحذر، وعيناه تشتعلان كما ذئب وجد فريسته أخيرًا. وقف «محمد» خلف شقيقه مباشرة، وتردد لثوانٍ.. لحظات معدودة فصلته عن نقطة اللا عودة، عن الجحيم الذي سيُلقي نفسه فيه إلى الأبد.. لكنه فجأة انقض بكلتا يديه على رقبة شقيقه، ضغط عليها بكل ما أوتيّ من قوة، لم يمنحه فرصة حتى للصراخ، لم يترك له مجالًا لطلب النجدة. حاول «بلال» التملص ودفع قاتله، لكن الموت كان أسرع، وخلال لحظات كان جسده قد سكن وقد فارقته أنفاسه الأخيرة دون عودة، ولم يبقَ من صراعه إلا عينان مفتوحتان على اتساعهما، وكأنهما تسألان صاحب القناع: «لماذا؟!»، لكن الأخير لم يكن قد انتهى بعد؛ وبينما يلهث، استدار «محمد» ببطء يستطلع صوتًا كسر صمت الموقف ليجد «حور» واقفة عند باب الغرفة تمسك يد أخيها «عبدالرحمن» وعيناها الواسعتان تملؤهما الصدمة والخوف. كان الصغيران قد شاهدا كل شيء، وارتعشت شفتا الطفلة لكنها لم تستطع الصراخ، فقط كانت هناك دموع تسيل على خديها ووجوم يسيطر على ملامحها، فيما كان شقيقها الأصغر مشدوهًا لا يدري ماذا يحدث، وفي تلك اللحظة لم يكن لدى «العم» خيارًا آخر، وخطوة واحدة إلى الأمام، ثم خطوة أخرى، حتى وقف أمام الطفلة التي لم تتجاوز السادسة من عمرها. كان في عيني الطفلة رجاءً صامتا واستغاثة طفولية، لكنها لم تجدِ نفعًا أمام أخٍ قتل لتوه أخيه وطبق على عنقه بعدما قرر سلفًا وجوب الخلاص منها، وما هي إلا ثوانٍ أطبق خلالها العم يديه على رقبة الصغيرة وخنقها كما فعل مع أبيها، والتي خارت قواها ومقاومتها لتكتفي يداها الصغيرتان بالتحرك تحاولان إبعاد الموت الذي كان حضوره وجوبيًا في أعين القاتل. ترك «محمد» جثة بنت شقيقه ثم جاء دور الصغير «عبدالرحمن»، الذي كان جسده يرتجف، لم يكن يفهم تمامًا ما يحدث، لكنه كان يعلم أن هذا ليس حلمًا، بل كابوسًا لن يستيقظ منه أبدًا، وهو ما حدث في ظرف دقائق عاشها الصغير يحاول الابتعاد بخطوات كانت الفاصلة في المسافة الوقت ما بين موت شقيقته ولحاقه بها على يد عمهما، في الوقت الذي كان المنزل قد أصبح مقبرة صامتة. لم تتأخر الزوجة كثيرًا في طريق عودتها إلى البيت، كانت تحمل أكياس الخضراوات وهي تفكر فيما ستعدّه لوجبة الإفطار، كانت سعيدة بتخطيطها ليوم عادي آخر، لكن؛ عندما وضعت قدمها على عتبة المنزل شعرت أن هناك خطبًا ما، وأن الهدوء هذه المرة يبدو أكثر من المعتاد. «بلال.. حور.. عبدالرحمن».. لا أحد يرد؛ تقدمت إلى داخل المنزل، وما أن خطت بضع خطوات حتى وقعت عيناها على المشهد الذي سيطاردها طيلة حياتها؛ زوجها مسجى على الأرض عيناه مفتوحتان بلا حياة، بجانبه ابنته، وعلى بُعد خطوات منهما بجانبها ابنها الصغير. كلهم بلا حراك. صرخت لكنها لم تسمع صوتها، شعرت «فاتن» أن الأرض تدور من تحتها وأن روحها تُسحب منها، لم تستطع الاقتراب، لم تستطع حتى التنفس. كانت تريد أن تصدق أن هذا مجرد كابوس، لكن رائحة الموت التي ملأت المكان أكدت لها أن هذه هي الحقيقة القاسية، وحين التفتت قليلًا وهي تحاول تكذيب ما تراه رأت ظلًا يتحرك. هناك، في الزاوية، كان «محمد» يقف مرتجفًا، قناعه ينظر إليها وكأنه لم يكن يتوقع عودتها بهذه السرعة، لكنها، وفي لحظة غضب لم تشعر بها من قبل، اندفعت نحوه وأمسكت به بكل ما أوتيت من قوة، صرخت في وجهه، ضربته، غرزت أظافرها حتى خرقت القناع لتجرح خده وسالت الدماء منه، لكنه أفلت منها ودفع يداها بقوة، فسقطت أرضًا وقد جردته من قناعه ليظهر لها، في مواجهة لم تستغرق لحظات حتى فرّ القاتل هاربًا على مرأى ومسمع أحد الجيران الذي لاحظ هيئته من بعيد. لم يستغرق الفرار طويلًا؛ فخلال ساعات تمكنت الأجهزة الأمنية من ضبط المتهم، فيما كانت جثامين الضحايا في طريقها إلى مستشفى «الأحرار» التعليمي في مدينة الزقازيق مصحوبة بقرار النيابة العامة انتداب أحد الأطباء الشرعيين لإجراء الصفة التشريحية عليها لبيان سبب الوفاة وكيفية حدوثها، قبل أن يتم التصريح بدفن الأب وطفليه. اعتراف أمام النيابة العامة، وقف «محمد» صاحب الثمانية وأربعين ربيعًا، هادئًا كعادة القتلة ذوي الدماء الباردة والمشاعر المتبلدة، لم يستطع الإنكار، اعترف بكل شيء، وروى تفاصيل جريمته، لكن روايته صاحبها صوت مرتجف وكأن ما حدث كان كابوسًا حتى بالنسبة له. كانت هذه الجريمة أكثر من مجرد مأساة عائلية؛ كانت طعنة في صميم الإنسانية، أن يقتل الأخ شقيقه بدمٍ بارد، أن يمحو حياة أطفال أبرياء، فقط من أجل الميراث، ذاك ما صاحب «محمد» وهو يستمع إلى قرار النيابة العامة بإحالته إلى المحاكمة الجنائية مصحوبًا بتهمة القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد ل شقيقه «بلال» صاحب الخمسة وأربعين عامًا، وطفليه «حور» بنت الست سنوات، و«عبدالرحمن» البالغ أربعة أعوام، لينتهي الأمر ب «القاتل الطماع» في زنزانته ينتظر أن يواجه مصيره المحتوم، بينما تظل زوجة «بلال» وحيدة، تحمل في قلبها جرحًا لا يندمل، وترى في كل زاوية من منزلها صور أحبابها الذين رحلوا غدرًا فهذا ما بقس منهم الأن، أما «كفر الأعصر» فستظل البلدة الشاهدة على اليوم الذي زُهقت فيه أرواح البراءة على يد أقرب الناس. اقرأ أيضا: حيثيات حكم إعدام عامل قتل شخصًا بسبب خلافات زوجية فى أبو النمرس