من حين لآخر تستهوينى العودة للقراءة فى كتاب يبدو صغير الحجم، لكنه عظيم الفائدة، والغريب أن هذا الكتاب نُشر قبل نحو 3 آلاف عام، وهو كتاب «فن الحرب» للمفكر الاستراتيجى الصينى «سون تزو»، وفيه يقدم جملة من الأفكار والنصائح المفيدة لمن يريد أن يفهم حقيقة الحرب والتى لا تعنى بالضرورة المواجهة العسكرية، بل تشير إلى كل صور صراع الإرادات. والحقيقة أن الكتاب ثروة حقيقية، فكثير من نصائحه لاتزال قابلة للتطبيق فى عالمنا المعاصر، حتى فى ظل الحروب السيبرانية، ومعارك الجيل الرابع التى تعتمد بالأساس على التلاعب بالمعلومات والتشويش على المواقف، واستخدام المعلومات المضللة، وانتزاع الوقائع والأقوال والأفعال من سياقها لإضفاء معانٍ لا تمت للحقيقة بصلة. العديد من المناورات تحدث عنها «سون تزو» فى مؤلفه التاريخى يجب أن تسبق أية مواجهة، وبخاصة إشارته إلى ضرورة تفتيت الجبهة الداخلية للخصم، والسعى إلى تشتيت جهود الطرف الآخر عبر بث عناصر الفرقة وتفتيت الصفوف، فمواجهة قوة منفردة أفضل كثيرا من التصدى لمجموعة من القوى المتراصة. تذكرتُ تلك الأفكار بينما كنت أتابع الحملة الشرسة التى انطلقت عقب القمة الأمريكية الأردنية، والهجمة الممنهجة على تصريحات منسوبة إلى العاهل الأردنى، دون أن يكلف هؤلاء المهاجمون أنفسهم عناء الإنصات، فضلا عن استيعاب التصريحات كاملة، وفهم السياق الكامل بعيدا عن الانتقاء العمدى والتركيز المدروس على بعض العبارات بانتزاعها من سياقها لتعطى معانى مغايرة تماما للقصد منها، فضلا عما تتسبب فيه الترجمة غير الدقيقة أحيانا من التباس وعدم وضوح للمصطلحات. وقد حرصتُ شخصيا على الاستماع بإنصات مرات عديدة لمجريات الرد الأردنى على أسئلة الصحفيين من داخل المكتب البيضاوى، وكذلك القراءة المتأنية للمواقف التى عبر عنها جلالة الملك عبد الله بن الحسين عبر سلسلة من التدوينات فى أعقاب القمة، وكذلك تصريحات مهمة لمسئولين بارزين فى المملكة، وكلها تؤكد ثبات الموقف الأردنى، والتمسك برفض التهجير ومساعى تصفية القضية الفلسطينية، وأن تلك المواقف لم تتغير أو تتبدل. ■■■ ويقينى أن محاولات النيل من المملكة الأردنية ومواقفها بشأن رفض تهجير الفلسطينيين وتصفية قضيتهم العادلة، لم تكن بريئة أو منزهة من الغرض، وليس مبعثها الغضب مما يُعتقد أنه تحول أو تبدل للمواقف الأردنية، بل إن تزامن الهجمة الشرسة وبتنويعات تبدو مدروسة وغير عفوية يجعلنى أتحسس كثيرا، خاصة أنها تأتى فى توقيت بالغ الدقة والخطورة، تسعى فيه دول عربية وازنة فى مقدمتها مصر والأردن والسعودية إلى تنسيق وبلورة موقف عربى موحد ومتماسك يمكن أن نخاطب به الإدارة الأمريكية الجديدة، التى لا تفوت فرصة دون أن تبدى موقفا يتماهى مع المساعى الإسرائيلية الرامية لاقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم. إن ما تواجهه المنطقة يفرض علينا أن نرص الصفوف لا أن نفككها، وأن نوحد مواقفنا لا أن نفتتها، فما تسرب أعداؤنا إلا من ثغرات اختلافنا، وما نال خصومنا من دمنا ومقدراتنا إلا بتفرقنا وتشرذمنا، واللحظة الراهنة لحظة كاشفة للمواقف وللمعدن الحقيقى للشعوب العربية، ولا مجال هنا لأن نمنح المتربصين بأقدارنا ومقدراتنا الفرصة لكى يطعنونا بسكين الاختلاف، بل علينا أن نواجه مخططهم بتماسك الصف وقوة الائتلاف. لقد دفعت منطقتنا عبر التاريخ ثمنا فادحا لمبدأ «فرق تسُد» الذى اتبعته وطبقته القوى الاستعمارية المغتصبة لأراضينا وحقوقنا على مدى عقود، وكان بث روح الفرقة والتمزق سلاحهم الأقوى ووسيلتهم الأمضى لإشعال الخلافات وتضخيم الاختلافات، فتحول «بأسنا» الذى من المفترض أن يكون شديدا فى مواجهتهم إلى «بؤس» ونحن نتباكى على ما خسرناه نتيجة تفرقنا وتفتتنا. ■■■ مواقف المملكة الأردنية الهاشمية ومنذ بداية الأزمة الراهنة مواقف واضحة ومشرفة، وتتطابق وتتماثل مع المواقف المصرية الراسخة والثابتة، وكانت القاهرة وعمان جناحى الرفض العربى المبكر لمشروع تهجير الفلسطينيين بأية صورة من الصور، وقاد الملك عبد الله بنفسه بعضا من جهود بلاده للمساهمة فى عمليات إنزال المساعدات إلى المناطق التى حاصرتها قوات الاحتلال فى قطاع غزة، سعيا لدعم صمود الأشقاء فى القطاع، وتعزيزا لبقائهم على أراضيهم. كما كان التنسيق بين القيادة الأردنية والمصرية مثالا للمواقف العربية فى مواجهة التداعيات الكارثية للأزمة، سواء عبر عشرات القمم والجهود المشتركة والاتصالات المتبادلة بين كل مستويات القيادة بداية من الرئيس عبد الفتاح السيسى والملك عبد الله، مرورا بالدوائر الدبلوماسية ووزراء الخارجية، ووصولا إلى المؤسسات السياسية والشعبية، وهو ما يكشف أن الإرادة الصلبة للبلدين لم تتزحزح، وأن التمسك بحماية الأمن القومى لكلا البلدين والعمل على حماية السلم والأمن الإقليمى من تداعيات العبث الإسرائيلى ومساعيه الشيطانية لتصفية القضية الفلسطينية لم يتغيرا فى أية لحظة، بل كانت تلك المواقف المصرية والأردنية حصنا قويا يلوذ به شعب فلسطين الأبى، وتأكيدا صارما من قبل العاصمتين على رفض أن يتحول ذلك الشعب الصامد إلى مجرد أيتام على موائد اللئام. ولعل تلك المواقف الراسخة هى ما دفع بعض المتربصين إلى محاولة تشويه تلك المواقف، والنيل من هذا الصمود عبر ترويج الأكاذيب والأباطيل بشتى الصور.. وللأسف لدى هؤلاء المتربصين الكثير والكثير من الأدوات لممارسة حرب التضليل. ■■■ أدرك وأتفهم مدى الخوف والقلق الذى يجيش فى صدر كل عربى اليوم مما يُحاك للمنطقة من مخططات تستهدف محو خطوط الجغرافيا العربية، وإعادة رسم تلك الخطوط وفق أهواء بعض العابثين والموتورين المسكونين بروايات توراتية وأطماع توسعية لا مجال لفرضها على الأرض إلا بالدم والبارود وعبر إبادة الشعب الفلسطينى صاحب الأرض والقضية، لكننى أؤمن فى الوقت ذاته بأن مواجهة تلك المخططات لا تكون عبر السقوط فى الفخ الذى يصنعه لنا أعداؤنا دائما والذى يستهدف تمزيق وحدة الصف، وبث روح الفرقة والتشتت. الواجب اليوم على كل عربى وكل مهموم بحاضر ومستقبل تلك المنطقة ألا يسمح بتحويل ذلك القلق المشروع إلى أداة يستخدمها أعداؤنا - وهم كُثر- للنيل منا ودفعنا إلى معارك هامشية مصطنعة لا تخدم سوى مصالح أولئك المتربصين، فنتنازع ونفشل وتذهب ريحنا، بل يجب أن يكون الرد عمليا بالتكاتف والتضامن والالتفاف وراء قيادتنا التى نثق فى صدق رؤيتها ونبل غايتها وقوة إرادتها وصلابة موقفها. علينا من المحيط إلى الخليج أن نرتقى لمستوى اللحظة الراهنة بأن نكون صفا واحدا كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا، لا أن ننساق وراء المتلاعبين بالعقول على صفحات السوشيال ميديا، الذين لا ندرى يقينا من هم، ولا ما هى غاياتهم الحقيقية، أو إلى أى منزلق يريدوننا أن نهوى؟!