قد لا يبدو اسم «جوزيف جوبلز» شائعا هذه الأيام، فالرجل مات منتحرا قبل 80 عاما، لكن يبدو أن بعض أفكاره ومقولاته تحولت إلى مرشد ومعلم لكثير من ساسة إسرائيل، وفى مقدمتهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذى تؤكد أقواله وأحاديثه أنه تلميذ نجيب فى مدرسة «جوبلز» للدعاية. ورغم حرص الإسرائيليين على اختلاق عداء تاريخى مع أفكار النازية، لكنهم -وبعيدا عن ذلك التنصل اللفظى- يكررون وبشكل مدهش حقا كثيرا من أفكار الدعاية النازية، ويمارسون بحق الفلسطينيين معظم ممارسات النازيين الدموية، التى يقول اليهود إنهم كانوا يوما ضحايا لها. ولمن لا يعرف فإن «جوبلز» (1897- 1945) كان وزيرا للدعاية فى عهد الزعيم النازى أدولف هتلر، ولعب دورا بالغ الأهمية فى ترويج أفكار النازية وحشد الأنصار لها، وكانت له العديد من المقولات المؤثرة التى يبدو أن قادة إسرائيل يؤمنون بها ويتمسكون بتطبيقها، رغم ما يزعمونه من عداء للرجل وأفكاره. فمثلا جوبلز هو صاحب مقولة «اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس»، وهو من قال «كلما كبرت الكذبة صار من السهل تصديقها»، وهو كذلك صاحب عبارة أن الدعاية الناجحة يجب أن تحتوى على نقاط قليلة وتعتمد التكرار». ومن يتأمل الخطاب السياسى والإعلامى لقادة إسرائيل، سيدرك سريعا كيف يدينون بالولاء لتلك المقولات والأفكار النازية، فنتنياهو يمارس الكذب بثقة لا يتمتع بها الصادقون، ويصطنع أكبر الأكاذيب بهدوء يُحسد عليه، ويعتمد على تكرارها والإلحاح فى ترديدها محاولا أن يجعلها تبدو كالحقيقة البديهية، وليس أدل على ذلك من اختلاق الروايات الملفقة عن قطع رءوس أطفال واغتصاب نساء إسرائيليات فى هجمات 7 أكتوبر 2023، وهى القصص التى ثبت لاحقا فبركتها بعناية، لكن للأسف تبناها سياسيون ومسئولون حول العالم، وباتوا يتداولونها كحقائق!! ■■■ ولعل أحاديث رئيس الوزراء الإسرائيلى الأخيرة سواء فى اجتماعات سياسية، أو فى لقاءات إعلامية تمثل دليلا على ما وصلت إليه تلك العقلية «النتنياهوية» من تشبع بالأفكار «الجوبلزية»، وآخرها حديثه عن ضرورة استضافة دول عربية لدولة فلسطينية، متناسيا أنه هو مغتصب أرض الفلسطينيين والمنتهك لحقهم التاريخى فى بناء دولتهم، ويصر كذلك على أكاذيبه بأن خروج الفلسطينيين من أراضيهم يمثل ضرورة لإعمار القطاع، متجاهلا مسئوليته المخزية عن تدمير ذلك القطاع ومحاولة إبادة سكانه. ومؤخرا خرج علينا نتنياهو بكذبة جديدة هى الأحدث وربما الأكثر إثارة للدهشة، إن لم يكن للسخرية، وتحدث بهدوء يليق بأعتى القتلة فى لقاء تليفزيونى مع إحدى القنوات الأمريكية عن أن مصر برفضها خروج الفلسطينيين من أراضيهم إنما «تحول قطاع غزة إلى سجن»، وهنا أجد نفسى مندهشا من قدرة الرجل على اختلاق الكذبة وسعيه بجدية لترويجها حتى يصدقها الناس، متناسيا أنه من حوّل الأراضى الفلسطينية المحتلة إلى أكبر سجن عرفته البشرية فى تاريخها الحديث والمعاصر، وأن سياساته الاستيطانية قطعت أوصال الضفة الغربية، وحولت المدن الفلسطينية فيها إلى مجرد كنتونات معزولة عن بعضها البعض بأحزمة كثيفة من المستوطنات الصهيونية. وفى قطاع غزة، مارس نتنياهو وكل من جاء بعده لرئاسة الحكومة الإسرائيلية، حصارا خانقا على القطاع وأهله، رغم ما يزعمونه من أنهم انسحبوا رسميا منه عام 2005، فقد ظلوا يسيطرون على 6 معابر من إجمالى 7 معابر تربط القطاع بالعالم، وكانت تلك المعابر دائما عرضة للإغلاق كسياسة عقابية ضد الفلسطينيين وأداة لخنقهم ببطء. وحتى المعبر الوحيد الذى لا تسيطر عليه إسرائيل وهو معبر رفح البرى، ورغم أنه مخصص لحركة الأفراد وليس للبضائع، إلا أن مصر أصرت على استخدامه وسيلة لإنقاذ الشعب الفلسطينى، وحولته رغم عدم جاهزيته اللوجيستية إلى شريان حياة وحيد لإغاثة أهالى القطاع المنكوب، لكن الإسرائيليين الذين لا يريدون أن يروا قطاع غزة إلا غارقا فى البحر على حد تعبير رئيس وزرائهم الأسبق إسحاق رابين، عمدوا إلى احتلال وتدمير الجانب الفلسطينى من معبر رفح لقطع آخر شريان يمكن أن يعين الفلسطينيين على البقاء أحياء فى أراضيهم. تبدو إسرائيل اليوم كطفل أفسده التدليل إلى الحد الذى يدفع ذلك الطفل ليس فقط إلى مطالبة رعاته وكفلائه بأن يتحملوا مسئولية أخطائه، بل إلى مطالبة المتضررين من عبثه وحماقاته بأن يتحملوا عنه تكلفة خطاياه وجرائمه، ليواصل هو ارتكاب ما شاء له من تدمير وتحطيم، مطمئنا إلى أن أحدا لن يحاسبه على ما اقترفت يداه، بل سيجد دائما من يكافئه على ارتكاب المزيد من الحماقات!! ■■■ ومن الواضح أن نجاح مصر فى إفشال مخطط اليمين المتطرف فى إسرائيل فى تمرير مخطط تهجير واقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم، والتحركات السياسية والدبلوماسية الواعية والهادئة والقادرة التى قادتها القاهرة طيلة الأسابيع الأخيرة، قد أثمرت اختراقات مهمة ونجاحات ملموسة فى بناء رأى عام إقليمى ودولى رافض لفكرة التهجير، فضلا عن فتح حوار بنّاء وهادئ مع دوائر صنع القرار الأمريكى حول الأمر، دون توتير لأجواء العلاقات الثنائية أو الدخول فى معارك جانبية كما كان يأمل بعض المتربصين بمصر، بل اعتمد الحوار على العقلانية السياسية لإرساء أسس قوية لإدارة التباينات فى وجهات النظر، وتقدير للمصالح المشتركة، وتوضيح حقائق الأمور وشرح لمخاطر الاستماع إلى وجهة نظر أحادية دون إحاطة شاملة وقراءة عميقة لتداعيات تغيير واقع تاريخى على الأرض، والمساس بقضية هى بمثابة العقيدة لملايين من العرب والمسلمين حول العالم. والمؤكد أن النجاح المصرى فى بلورة موقف عربى وإقليمى ودولى رافض لفكرة التهجير، والإعلان عن استضافة القاهرة لقمة عربية طارئة قبل نهاية الشهر الحالى، فضلا عن تصاعد وتيرة الاتصالات المصرية مع الدوائر الدولية الفاعلة لبناء تفهم عالمى لخطورة اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم، وتقديم بدائل أكثر أمنا ويسرا لإعمار قطاع غزة، وضمان فتح أفق سياسى يقود إلى إعادة إحياء حل الدولتين، كلها أمور مست عصبا عاريا فى رأس القيادة الإسرائيلية، فزاد معدل تخبطها، وصارت تهاجم مصر وتتحرش بالسعودية، وتطالب دولا أخرى بأن تدفع فاتورة خطاياها وجرائمها، وهو نهج وأسلوب تفكير لا يحتاجان إلى تحليل سياسى، بل إلى علاج نفسى وعقلى!! علينا جميعا الانتباه والحذر، فحرب الأكاذيب الإسرائيلية لا يبدو أنها ستعترف بالهزيمة بسهولة، وسيسعى الداعمون لإسرائيل إلى تنفيذ مخططهم بأى ثمن وبكل وسيلة، لكن صمود الموقف الرسمى والشعبى الرافض للتهجير ولتصفية القضية الفلسطينية، واكتسابه أرضا جديدة كل يوم سيكون بمثابة حائط صد قوى ومتماسك أمام واحدة من أكبر حروب الكذب والتضليل فى تاريخ البشرية.