يبدو من مظهرها أنها أربعينية، ملابسها جيدة، ولا يظهر عليها علامات الشقى، كأنها من بيئة غير التي تعيش فيها، أو كأنها ارتضت هذه الحياة هربًا من شيء ما تخفيه، عشرات ومئات السيناريوهات التي من الممكن أن تخمنها لحظة وقوع عينك عليها، لكنها يقينًا سيدة غريبة، ومع أنها تفترش الرصيف، وتبيت ليلها في الشارع، متخذة منه ملاذها ومأواها، لكنها لا تشبه أحدا، ومختلفة كليًا عن أولئك الذين عصفت بهم الحياة وأوصلتهم إلى هذه الحالة، هذا إلى جانب لسانها، والذي يطال أي أحد، بألفاظ بذيئة وقد يصل في أحيان إلى التعرض للمارة بالأذى، الأمر الذي جعل الأهالي يحاولون معها كي تغادر المنطقة بأسرع ما يمكن بل وعرضوا عليها مساعدات مالية كي تستأجر شقة تعيش فيها هي وابنها الذي هو بالتأكيد ضحية لا يعرف لماذا هو هنا في هذا المكان، لكنها كانت تأخذ الأموال وترفض أن تغادر المنطقة. كان ل «أخبار الحوادث» لقاء معها، أمام مسجد علي بن أبي طالب، الموجود في شارع نخلة المطيعي، المتفرع من ميدان تريامف بمصر الجديدة، وإلى تفاصيل اللقاء المثير مع هذه السيدة الغامضة. بملامح شابة، وعين لم تفقد بعد لمعانها، وجسد لم ينهشه بعد قسوة الرصيف، ولا نوم الطرقات، كانت تجلس أمام مسجد وتبيع بعض صنوف معينة من الخضراوات، ومعها طفل صغير، لا يكاد يبلغ عمره ال10 سنوات، تقول إنه ابنها، ويبيتان سويًا تحت مظلة أعدتها خصيصا لذلك. إلى هنا لم يكن وضعها لافتا للنظر، ما أثار الفضول حولها أنها سليطة اللسان، لا يكاد ينجو أحد من المارة منها ومن لسانها، حتى المصلين، كانوا في صلواتهم يسمعون صوتها وهي تتلفظ بألفاظ بذيئة، حاولوا معها كثيرًا نصحًا من ناحية، وأن يبعدوها عن الجلوس والنوم أمام المسجد من ناحية أخرى، لكنها كانت ترفض الانصياع لهم، وتصر على أن تجلس وتفعل ما تشاء، ولن يقدر أحد على إزاحتها من مكانها هكذا كان لسان حالها. بل وهكذا كانت تقول احيانا صراحة، تعامل معها الأهالي كثيرًا لكن طال الأمد، وضاقت المنطقة الهادئة بها، حتى أنهم في سبيل ذلك البعض منهم أمدوها بأموال كي تستأجر لها مكانًا تعيش فيه هي وابنها، لكنها في كل مرة كانت تأخذ المال وتنفقه، دون أن تتحرك، ولو سألها فاعل الخير عن المال وفيما أنفقته؟، كانت ترد بأسلوب غير لائق قائلة له: «الفلوس ضاعت». حتى أن بعد الشحاذين، الذين يجلسون أمام المسجد، لم يسلموا من آذاها، كانت كثيرا ما تتشاجر معهم، وتنهال عليهم سبًا وقذفا، وكأنها تملك المنطقة المحيطة بالمسجد أو حارسة لها، تفعل فيها ما تشاء. اللقاء وصل إلينا نبأها من أهل المنطقة فذهبنا إليها، وتيقنت من أنني أمام سيدة غريبة الأطوار، سيدة عُرض عليها أن تأخذ مالا وتستأجر شقة لتكون ملاذها لها وابنها الطفل الصغير، لكنها أبت ذلك، مصرة على أن تجلس في الشارع وتنام في هذه الصورة، وكأن لسان حالها يقول: «عايزين تمشوني.. مهما عملتوا.. أنا مش هامشي من هنا وهفضل قاعدة»! وصلت إلى مسجد على ابن أبي طالب في شارع نخلة المطيعي، المتفرع من ميدان تريامف بحي مصر جديدة، وقبل أن أدخل المسجد لمحتها، وما أن وقعت عيناي عليها أدركت أنها هي، نظرت إليها من بعيد لثواني، ثم دخلت المسجد. بعد دقائق، خرجت من المسجد وأنا لا أتمالك نفسي، كنت عازمًا على الحديث معها، لكني ترددت للحظة، خشيت إن حدثتها أتعرض لوابل من الألفاظ التي لا أريد سماعها، لكني عزمت أمري وأقبلت عليها. كان الحوار الذي دار بيينا مقتضبا، بضع دقائق فقط جعلتني أعرف طبيعة هذه المرأة وما تمر به. في البداية عرفتها بنفسي ولما أنا هنا، لكنها لم تحرك ساكنًا، فقط ابتسمت ابتسامة من لا يهتم بما يقال له، ولأنني كنت واقفا أثناء حديثي معها دعتني للجلوس، وناولتني شيئا ما أجلس عليه، المهم جلست معها ودار بيننا هذا الحديث. قلت لها إن هناك مشكلات تقوم بها أمام المسجد، وأنها تتعمد هذه المشكلات بشيء أو بآخر، وأنها تتلفظ بألفاظ بذيئة لا يود سماعها المارة، فضلا عن المصلين داخل المسجد. فأجابت قائلة: «ها وإيه كمان سمعني». قلت لها أنني أود سماع رأيها فيما قلت لها، وأكملت حديثي لها بأنني على استعداد أن أنقلها وابنها إلى إحدى دور الرعاية المجاورة حتى تعيش فيها بمأمن بعيدًا عن الشارع، لكنها قطعت حديثي غاضبة ووجهت لي سؤالا واحدا. «إنت عارف أنا أبقى مين»؟!،فأجبتها سريعا :» للأسف لا أعرف.. ممكن تعرفيني بنفسك»؟! اجابت وكأنها مضطرة للإجابة أو لأنها تريد أن ارحل من أمامها قائلة:»أن اسمها رشا الغباري»، وأنها كانت تعمل في إحدى الجهات المهمة، وأنها لن تتحرك من مكانها لأي سبب»! لفت نظري اسمها، وأنها قدمته بدرجة اعطتها لنفسها، حينها كانت ملامحها صامتة، فقط ضحكة ساخرة خفيفة وهي تحدثني وكأنها لا تهتم إطلاقا بما أقوله لها. لمحت في يديها أثناء الحديث ثمرة من «الخس»، استأذنتها فيها وأكلت منها، كنوع من أنواع الألفة التي أفرضها على الحديث بيننا، بعدما أدركت أنها بدأت تضيق ذرعًا من وجودي. سألتها: «طيب بما إنك شخصية مهمة كدا وكنتي شغالة في مكان مهم، ليه قاعدة في الشارع، واللي رايح واللي جي يبص عليكي»؟! فأجابت؛»بأنها تجلس هنا منذ ما يقرب من سنتين، وأنها اختارت هذا المكان في هذه المنطقة تحديدا لأنه كان لديها شقة تملكها فيها، وكانت تعيش فيها، لكن صاحب العقار أخذ الشقة منها»! وقالت نصا: «أنا قاعدة هنا لأني كنت ساكنة في الشارع ده – وأشارت بيدها ناحية الشارع –لكن اتنصب عليا في الشقة وخدوها مني»! دفعني موضوع النصب إلى مواصلة حديثي معها، سألتها: «مين اللي نصب عليكي، قوليلي يمكن أقدر أساعدك ونرجع لك شقتك». حينها واصلت سخريتها بنبرة تهكم وقالت: «تساعدني إزاي.. بقولك أنا رشا الغباري، وعارفة ناس تقيلة، ومحدش عرف يساعدني، انت اللي هتعرف»! أدركت حينها أن السيدة، التي قدمت نفسها لي بأنها سيدة ذات حيثية، وكانت في مكانة مرموقة، لا تدرك طبيعة وجودها في المكان، أو ربما تخبئ ما لا تريد أن تتحدث عنه، هي فقط حاولت أن تجيبني على قدر الأسئلة التي وجهتها لها، وعلى الرغم من إجابتها، التي كانت في بعض الأحيان، غير مكتملة، إلا أنها أعطتني مؤشرًا لأن أقول أنها تعاني من مشكلة نفسية، أو موقف ما صعب قد مرت به وهو ما أوصلها إلى الحالة التي عليها، أو ربما أنها عالق في جزء ما من عقلها تفاصيل حادث صعب تعرضت لها وهو ما جعلها تفترش الرصيف وتنام وابنها في هذا المكان. لكن ما لفت نظري أكثر في حديثي معها، أن ابنها كان في كل سؤال أوجهه لأمه وفي كل إجابة منها، كان يضحك، بصوت عالي، وكأنه يسمع ما تقوله أمه للمرة الأولى، ويدرك أنها تكذب علينا، أو تحاول أن توصل لي صورة عنها على خلاف الواقع. وبعد أن فرغت من حديثها، قالت لي في نبرة سخرية: «وانت تقدر تساعدني إزاي»؟! فقلت لها أن بمقدوري أن أوصل استغاثتها إلى المسئولين، كي يساعدوها في مسكن مناسب، أو يكون لها «كشك»، تسترزق منه وتصرف عليها وعلى نجلها، لكنها قالت في نبرة متهكمة: «كشك أنا مش قولتلك أنا مين، كشك أيه اللي اشتغل فيه»! استغربت موقفها في البداية، كيف لها أن ترفض عرضًا كهذا، مكان تسكن فيه وعمل تقتات منه وابنها، وترضى بالحياة في الشارع مسكنا لها، وينام ابنها بجوارها ليلا، أمام أعين المارة وفي هذا الجو البارد. الدقائق التي دار فيها الحديث بيننا على الرغم من كونها دقائق معدودات، إلا أنها كانت كفيلة بأن تعطي انطباعًا عن هذه المرأة، وعما يدور في عقلها، وكانت كفيلة لفهم سياق حالة الرعب التي تفرضها على من حولها، لأنها تدرك أنها غير مرغوب في تواجدها، وأن الطريقة الوحيدة لبقائها في هذا المكان شجارها المستمر، وألفاظها الخارجة، والتي تجبر أي شخص على الابتعاد عنها خشية أن يطاله من لسانها ما لا يُحمد عقباه. سكان المنطقة لم يكن وضعها يخصها وحدها، بل كان الوضع متعلق بابنها، الطفل الذي لم يتجاوز عمره ال10 سنوات، والذي كان ينام بجوارها على هذا الوضع، أمام أعين المارة، الأمر الذي يصدر مشهد غير آدمي بالمرة. في حديثه ل»أخبار الحوادث»، حكى أحد سكان المنطقة، أن السيدة لم تكن مشكلتها في إقامتها أمام المسجد فقط، بل كانت المشكلة في تصرفاتها، وأسلوبها، لأنها كثيرا ما كانت تعتدي على المارة، مرات لفظيا ومرات يصل إلى اعتداء شبه جسدي، حتى أنها تعتبر مصدر رعب لكل سكان المنطقة، الذين يخافون من الاحتكاك بها، خشية أن يتعرضون لأذاها. وأوضح أحد السكان، الذي يقيم في عقار أمامها مباشرة، أنه سبق أن شاهدها وهي تضرب ابنها ضربا مبرحا وتعنفه، لكن ابنها، كان قد تعود على مثل هذه التصرفات، وعلل هذا الأسلوب بأنه من المرجح أن هذا الطفل ليس ابنها، رغم أنه لا توجد تأكيدات على هذه الفرضية، ولكن ما يعزز هذه الفرضية تعاملها مع ابنها، والتي لا تقترب إلى حد كبير، إلى علاقة أم بابنها. أحد سكان المنطقة، قال في حديثه ل»أخبار الحوادث»، أنه سبق وأن أعطاها مبلغا ماليا كي تؤجر شقة وتعيش فيها هي وابنها، بدلا من حياتها على الرصيف، وأخذت بالفعل منه المال لكنها لم تتحرك من مكانها، وعندما سألها عن المال، قالت له بأنها أنفقته، وأنه لا يعنيه فيما أنفقته. اقرأ أيضا: تكثيف أمني لكشف غموض العثور على جثة سيدة ببورسعيد