دراسة يكتبها :علي عبد الرحمن على مدار قرن من الزمان، مثلت السينما المصرية شهادة حية على تطور المجتمع المصري وتحولاته العميقة، وبدأت هذه الرحلة في عام 1896 مع أول عرض سينمائي في الإسكندرية، حيث كانت البداية البسيطة تتسم بفضولية وافتتان الأفراد بجديد هذا الفن الناشئ ومنذ ذلك الحين، لم تتوقف السينما عن التفاعل مع التحولات الاجتماعية والثقافية في مصر، مقدمةً مرآة عاكسة لمجريات الأحداث وتطورات المجتمع. سحر الرواية و معالم مهمة شهدت حقبة الستينيات في تاريخ السينما المصرية تحولًا كبيرًا، تجلى في تراجع إنتاج الأفلام وانخفاض عدد دور العرض، نتيجة لقرار الدولة بتأميم السينما وتحويلها إلى قطاع عام عبر المؤسسة المصرية العامة للسينما التي أُنشئت في عام 1962 ورغم هذا التراجع، حيث بلغ عدد الأفلام المنتجة 455 فيلمًا موزعة على 255 دار عرض، فقد كانت هذه الفترة شاهدة على إنتاج العديد من الأفلام التي تُعد من أبرز ما قدمته السينما المصرية على مر تاريخها. التحول الذي شهدته السينما في الستينيات لم يكن مجرد تغيير إداري أو تنظيمي، بل كان له تأثيرات عميقة على نوعية الأفلام ومنهجيات الإنتاج. أفرزت هذه الحقبة إسهامات كبيرة من قبل الكتاب الروائيين البارزين، الذين ساهموا في إثراء السينما من خلال الاقتباس الفني من أعمالهم الأدبية، وكان من أبرز هؤلاء الكتاب إحسان عبد القدوس ويوسف إدريس، الذين قدموا رواياتهم للأفلام بطريقة أثرت بشكل كبير في السينما المصرية نجيب محفوظ، الحائز على جائزة نوبل في الأدب، دخل أيضًا مجال الكتابة السينمائية، مما منح السينما المصرية ثراءً أدبيًا غير مسبوق. تجلت روعة هذه الحقبة في الأعمال التي اقتبست من الروايات الأدبية الكبرى، مثل فيلم "القاهرة "30 و"ميرامار"، والتي حققت نجاحًا كبيرًا وأثرت في الذاكرة الثقافية للسينما المصرية، وكان لهذه الأفلام القدرة على تقديم رؤية عميقة للحياة الاجتماعية والاقتصادية في مصر، معززةً بدقة التصوير وسلامة التقدير الفني. كما برزت هذه الفترة بوجود مخرجين ذوي وعي سينمائي كبير، الذين استطاعوا توجيه السينما المصرية نحو العالمية، ومن أبرز هذه الإنجازات كان الفيلم التاريخي "الناصر صلاح الدين"، الذي لاقى إشادة واسعة وأظهر قدرة السينما المصرية على تقديم إنتاجات ذات طابع عالمي، هذا الفيلم لم يكن فقط علامة فارقة في تاريخ السينما المصرية، بل ساهم في تسليط الضوء على إمكانيات الإبداع السينمائي المصري على الصعيد الدولي. علاوة على ذلك، شهدت الستينيات ظهور حوالي 25 فيلمًا ضمن قائمة ال 100 أفضل فيلم في تاريخ السينما المصرية، مما يعكس مدى أهمية هذه الحقبة في تشكيل المشهد السينمائي، ولكن بالرغم من هذا الثراء الفني، فإن الفترة التي تلت نكسة يونيو 1967 جلبت معها تغييرات ملحوظة في توجهات السينما. بعد نكسة يونيو، اتجهت السينما إلى إنتاج أفلام ذات طابع كوميدي هزيل في محاولة لإلهاء الشعب عن آثار الهزيمة، كانت هذه الأفلام تهدف إلى تقديم التسلية والهروب من الواقع المرير، لكن في الوقت نفسه، فقدت السينما بعضًا من طابعها الفني العميق الذي ميزها في السنوات السابقة. كانت هذه الأفلام تعكس محاولة للتخفيف من أثر الهزيمة من خلال الفكاهة، لكن ذلك لم يكن كافيًا لتعويض فقدان الاتجاه الجاد في الإنتاج السينمائي. بالمجمل، شكلت الستينيات فترة مليئة بالتناقضات في تاريخ السينما المصرية، وعلى الرغم من التحديات الكبيرة والتغيرات في الهيكل الإداري، فقد قدمت هذه الحقبة بعضًا من أعظم الأفلام التي شكلت معالم هامة في تاريخ السينما المصرية، كما أثبتت قوة وقدرة السينما المصرية على التكيف والابتكار، مما جعلها تظل جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الثقافة والفن في مصر. سينما التليفونات البيضاء تعد فترة الخمسينيات من القرن العشرين مرحلة ذهبية في تاريخ السينما المصرية، حيث شهدت هذه الحقبة غزارة إنتاجية غير مسبوقة، إذ بلغت الأفلام المنتجة 529 فيلمًا توزعت على 360 دار عرض في أنحاء مختلفة من مصر، وتميزت السينما في تلك الفترة بتنوع سماتها ومواضيعها، مما جعلها مرآة تعكس التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدها البلد. خلال السنوات الخمس الأولى من الخمسينيات، كانت السينما المصرية تستعرض طبقة الأغنياء وصراعاتها الاجتماعية والثقافية، هذا النوع من الأفلام كان يعكس جانبًا من الرفاهية والحياة الراقية، لكنه في الوقت نفسه كان يسلط الضوء على التوترات والتحديات التي تواجهها هذه الطبقة بجانب ذلك، برزت الأفلام الاستعراضية الغنائية التي قام ببطولتها عمالقة الغناء في تلك الفترة، مثل محمد فوزي وليلى مراد وفريد الأطرش. كانت هذه الأفلام بمثابة منصة للنجوم لتوسيع شهرتهم وانتشارهم، واعتُبرت بمثابة وسيلة للبحث عن الشهرة السريعة في عالم الفن. تُعرف هذه الفترة بمصطلح "سينما التليفونات البيضاء"، وهو تعبير يعكس فترة ذهبية شهدت فيها السينما المصرية تطورًا ملحوظًا في إنتاج الأفلام وتنوعها، ومع قيام ثورة يوليو عام 1952 وإعلان الجمهورية المصرية، شهدت السينما تحولًا جذريًا في توجيهها وموضوعاتها. إذ انتقلت من التركيز على الصراعات الطبقية والترف إلى تناول القضايا الاجتماعية والهموم اليومية للمجتمع المصري، وأعطت الثورة السينما دفعة جديدة نحو تقديم صورة أكثر واقعية للمجتمع، حيث ركزت الأفلام على طموحات المصريين وتطلعاتهم في ظل الأوضاع الجديدة. برزت في هذه الفترة أيضًا الأفلام التي تناولت تمرد المرأة المصرية وحلمها في التغيير، خاصة في المناطق النائية مثل صعيد مصر، وكانت هذه الأفلام تعبر عن طموحات المرأة في أن تكون جزءًا فعالًا من المجتمع، وتحقيق أحلامها في ظل التغيرات الاجتماعية والسياسية. من جهة أخرى، لم تغب مبادئ وأهداف ثورة يوليو عن الفن السابع، حيث تم إنتاج حوالي خمس أفلام تعبر عن الثورة وتمجدها، وتبرز المبادئ التي قامت عليها، وكان من أبرز هذه الأعمال فيلم "جميلة بوحريد" الذي عرض عام 1958، والذي قدم صورة نضالية للشخصيات التي قاومت الاحتلال، وهو تجسيد لأول مرة في السينما المصرية لشخصيات مقاومة ضد الاستعمار. كما شهدت الخمسينيات تحولًا ديموغرافيًا في الذوق العام للأفلام، حيث تم إنتاج أفلام ذات طابع كوميدي كانت تحمل رسائل سياسية مبطنة، وكانت هذه الأفلام تهدف إلى إلهاء الشعب وعدم التشكيك في مؤسسات الدولة بعد العدوان الثلاثي على مصر عام .1956 تميزت هذه الفترة بظهور سلسلة أفلام كوميدية، كان من أبرزها تلك التي قام ببطولتها إسماعيل ياسين، والتي تناولت حياة الشباب في القوات المسلحة. قدمت هذه الأفلام لقطات ترويجية صريحة لقوة الجيش المصري وتأكيدًا على قدراته، مدعومةً من المؤسسة العسكرية. بالمجمل، شكلت فترة الخمسينيات مرحلة حيوية في تطور السينما المصرية، حيث تعايشت فيها التغيرات السياسية والاجتماعية مع الابتكار الفني، مما ساهم في تشكيل الذاكرة الثقافية والتاريخية للسينما المصرية في تلك الحقبة. مرحلة التحولات الدرامية تميزت حقبة السبعينيات في تاريخ السينما المصرية بسمات متعددة وتعكس تحولًا درامياً في المشهد الفني والاجتماعي، على الصعيد الديموغرافي، شهدت مصر هجرة جماعية لسكان محافظات القناة إلى القاهرةوالإسكندرية وبعض محافظات الدلتا، حيث بلغ عددهم حوالي 7 مليون نسمة من أصل 35 مليون نسمة، وذلك نتيجة حالة الحرب بين الدولة المصرية وإسرائيل في شبه جزيرة سيناء، هذه الهجرة الجماعية لم تكن مجرد حركة سكانية، بل كانت انعكاساً للوضع الاجتماعي المضطرب والصعوبات الاقتصادية التي واجهها المصريون. في الوقت ذاته، تصاعدت الحركات الاحتجاجية والصدامات بين التيارات السياسية، وبخاصة الحركة الطلابية الجامعية، مع قرارات الدولة، هذه الصدامات كانت متصلة بمواقف الدولة تجاه الحرب، بالإضافة إلى القضايا المتعلقة بالحريات ومهاجمة ثورة يوليو، مما ساهم في خلق حالة من الظلامية السياسية والاجتماعية. على الصعيد الفني، شهدت السبعينيات إنتاج 460 فيلماً موزعة على 105 دور عرض، ومن أبرز سمات هذه الحقبة ظهور ما يعرف ب"أفلام البغاء والهوي"، التي كانت تعبيرًا فنيًا عن الوضع السياسي الذي عاشته البلاد بعد هزيمة يونيو .1967 هذه الأفلام كانت بمثابة إسقاط فني على حالة القلق والاضطراب التي اجتاحت المجتمع المصري، ودخلت إلى دائرة الضوء في ظل ظهور منتجي الظل الذين كانوا يسعون لتحقيق مكاسب سريعة من خلال تقديم محتوى مثير وجذاب، وأطلق السينمائيون على هذه الظاهرة مصطلح "أكسب واجري"، والتي عبرت عن طابع السرعة والانتشار السريع لتلك الأفلام. قدمت السينما في تلك الفترة ما يقرب من 120 فيلمًا من هذا النوع، منها "حمام الملاطيلي" و"ثرثرة فوق النيل"، بالإضافة إلى العديد من الأفلام التي تم تصويرها خارج مصر في دول مثل لبنان والعراق والكويت، هذه الأفلام لم تقتصر على تقديم محتوى سينمائي فقط، بل كانت تعبيرًا عن حالة الاحتقان السياسي والاجتماعي التي سادت في البلاد. اقرأ أيضا: سينما مصر.. مرآة التحولات الاجتماعية و الفكرية عبر قرن من الزمان في المقابل، ظهرت موجة من الأفلام ذات الطابع السياسي، ولكنها كانت خالية من المحتوى السياسي الحقيقي، تلك الأفلام اقتصرت على تعظيم العهد الجديد بعد الثورة، خلال فترة حكم الرئيس أنور السادات، وجاءت هذه الأفلام بتدخل مباشر من الدولة المصرية، والتي كانت تسعى لتعزيز صورة الحكم الجديد وتقديمه بشكل إيجابي، ومن بين هذه الأفلام، برزت أعمال مثل "الصعود إلى الهاوية" للمخرج كمال الشيخ و"الكرنك" للمخرج سمير سيف، هذه الأفلام كانت جزءًا من محاولة الدولة لإعادة تشكيل الصورة العامة للأحداث التاريخية والسياسية التي شهدتها البلاد. كذلك، حاولت السبعينيات تقديم أفلام توثيقية للنصر بعد انتصار الدولة المصرية على إسرائيل في حرب أكتوبر .1973 رغم الجهود المبذولة، لم تنجح هذه الأفلام في توثيق النصر بالشكل الذي كان متوقعًا، وذلك بسبب مجموعة من الأسباب السياسية والاقتصادية، وقدمت هذه الحقبة فقط خمسة أفلام توثيقية، والتي لم تستطع أن تعكس بعمق وواقعية الأبعاد الحقيقية للانتصار العسكري وأثره على الشعب المصري. بالمجمل، تعكس فترة السبعينيات حالة من الاضطراب والتحولات العميقة في السينما المصرية، حيث انتقلت من طابع فني متنوع إلى تناول قضايا سياسية واجتماعية ساخنة، لكن مع تباين واضح في مستوى التجسيد والتوثيق للأحداث. هذه الفترة كانت شاهدًا على تقلبات كبيرة في المشهد السينمائي، الذي حاول التكيف مع الظروف السياسية والاجتماعية المتغيرة.