تعمَّد كثير من السياسيين والمثقفين فى عالمنا العربى الهروب من كلمة «المؤامرة» كوصفٍ لما قد يعجز العقل عن تحليله المجرد من تحركات غير طبيعية على الساحة الدولية، هذه التحركات التى تُحقِّق مصالح طرفٍ على حساب حقوق طرفٍ آخر، وكان التسفيه والنقد العنيف وربما الاتهام بالجنون يُلاحق مَن يتجاسر ويستخدم حقه الطبيعى فى الرأى والتعبير، واستخدام ذلك التعبير ليصبح ما يقوله أو يكتبه مستبعدًا باعتباره نتاج عقل مشوَّه، يقترب من الخيال والأوهام أكثر مما هو واقعى. لا أسعى بالتأكيد للدفاع عن نظرية المؤامرة، لكن ما تشهده القضية الفلسطينية ومنطقة الشرق الأوسط حاليًا يعجز العقل عن وصفه أو وضعه فى إطارٍ لا يسمح بتسلل تلك النظرية لوصف مشهد «عبثى»، تلونه ريشة رسام «سيريالى»، يُحلِّق فى فراغٍ سرمدى، لا أثر فيه لجاذبية حقائق التاريخ أو تضاريس الجغرافيا. إن الطرح الأمريكى الأخير لمستقبل قطاع غزة تجاوز كل الحدود، ومثَّل مفاجأة للجميع بمن فيهم الإسرائيليين أنفسهم، فهى تتحلَّل من الالتزمات الملقاة على عاتق الإدارة الأمريكية باعتبارها راعيةً للسلام القائم على حل الدولتين، وتتجاوز الشرعية الدولية التى حدّدت فى قرار التقسيم حدود الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدسالشرقية، وحكمت على أكثر من 2 مليون فلسطينى بالتهجير القسرى، بعدما تعرضوا على مدار أكثر من 15 شهرًا لجريمة أخرى اسمها الإبادة الجماعية، وهى كلها جرائم مؤثمة وفق بنود اتفاقيات جنيف الأربعة الصادرة عام 1949. ولا أبالغ إذا قلت إن الطرح غير الواقعى لمستقبل قطاع غزة وتهجير سكانه للدول المجاورة يفتح أبواب الجحيم على الإقليم كله، ويدفع بتطرف كل الأطراف فى ردة فعلها، فالظلم لن ينتج عنه سوى ظلم أكبر، يُؤجج الصراع فى المنطقة كلها، خاصة بعدما نجحت جهود مصر والولاياتالمتحدة وقطر فى الوصول إلى التهدئة ودوران عجلة الحياة من جديد وعودة سكان غزة إلى بيوتهم مرة أخرى. لن تتحمل القضية الفلسطينية فى هذه المرحلة الحساسة الخطأ فى الحسابات من جانب الإدارة الأمريكية الجديدة، فالحفاظ على تثبيت الهدنة هو ما يُحقق مصالح الجميع، خاصة فى ظل وجود اتفاق عربى قوى رافض لفكرة التهجير القسرى أو توسيع حدود إسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية، ويؤكد التزامه بحل الدولتين، وتمثل أخيرًا فى بيان المملكة العربية السعودية الذى شدَّد على أن قيام الدولة الفلسطينية هو موقف راسخ وثابت لا يتزعزع، وتأكيد الأمير محمد بن سلمان ولى العهد ورئيس مجلس الوزراء على أن موقف المملكة واضح وصريح لا يحتمل التأويل بأى حالٍ من الأحوال، وأن السعودية لن تتوقف عن عملها الدؤوب فى سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدسالشرقية، وأن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك. ولم يتوقف الرفض على الجانب العربى فقط، بل امتد لموقف عالمى جامع يأبى التوجه نحو تصفية القضية الفلسطينية، تمثل فى ردود فعل بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا والقائمة تطول، بالإضافة إلى بيانات الأممالمتحدة الرافضة لأفكار قد تقود إلى ارتكاب انتهاكات ضد الإنسانية مرة أخرى. لقد بنت الولاياتالمتحدة سياستها الخارجية خلال العقود السابقة على أساس الدعاوى الأخلاقية بالعداء للإرهاب ومساندة حقوق الإنسان، ونصبَّت نفسها وصيةً على التزام دول العالم بما جاء فى الإعلان العالمى لحقوق الإنسان والمعاهدات الدولية ذات الصلة، فالخارجية الأمريكية تُصدر سنويًا تقريرًا عن حالة حقوق الإنسان فى العالم من وجهة نظرها، صحيح أنها استخدمت حقوق الإنسان كسلاح ضغط لتأديب الدول ومعاقبتها، إلا أن إقدامها علنًا على ارتكاب جريمة ضد الإنسانية فى غزة بهذا الشكل يدفعنا للحديث عن أن الأمر تجاوز ازدواجية المعايير وقبول ورفض حقوق الإنسان طبقًا للمصالح وحسب حماية الحلفاء، وأصبحنا أمام تحلل كامل من منظومة حقوق الإنسان وتغييرٍ فى السياسية الخارجية الأمريكية وفرض الإرادة وصنع العداء واستخدام لغة الإملاء، وهو ما يعنى موت السياسة وفرض منطق شريعة الغاب والتلويح بالضغوط الاقتصادية والتدخلات العسكرية، وذلك كبديلٍ للعمل السياسى والدبلوماسى. ما تقوم به الولاياتالمتحدة فى القضية الفلسطينية وازدواجية المعايير فى الخطاب الأمريكى بين إسرائيل وفلسطين وسقوط المعايير الأخلاقية والسياسية وحسم الصراعات بالقوة المفرطة والدخول المباشر فى حرب تجارية شرسة -بدأتها الولاياتالمتحدة مع الصين والاتحاد الأوروبى- تقول إن النظام العالمى القديم يلفظ أنفاسه الأخيرة بسقوط خطوط اتزان ذلك العالم، ومعه ظلم وسحق للفلسطينيين وخلفهم العرب وحقوقهم بتلك الطريقة، وفرض أمر واقع دون نقاش على باقى الدول. يظل الأمل معقودًا على لقاء الرئيس عبد الفتاح السيسى ونظيره الأمريكى دونالد ترامب، لترشيد تلك المقترحات، ووضع الموقف العربى الموحَّد الرافض للتهجير أمام رئيس الولاياتالمتحدة، والتعويل على لغة المنطق والتعامل بصبر وهدوء وحِكمة، فهى الحل فى تلك الأجواء العاصفة، نحن أمام خيارات جميعها صعبة، تحتاج لحكمة المفاوض من أجل الدفاع عن الحق العربى فى عالم آفته ازدواجية المعايير والانحياز للظالم وإجبار المظلوم على الانسحاق والصمت وأرضه تُسرق ومستقبله يُدمر. إن الحفاظ على مسار السلام وحل الدولتين ليس فقط التزامًا بقرارات الشرعية الدولية، وإنما هو الطريق الوحيد لحل الصراع الفلسطيني الإسرائيلى، فالانحياز لطرف على حساب الآخر يُعد جريمةً فى حق الإنسانية وتوريثًا للدم والحق لأجيال قادمة، تستكمل حلقات العنف المتواصلة وتُغذِّى قوى الإرهاب والتطرف، وتُؤدى لتراجع فى نسب مؤيدى السلام، وهو ما يحكم على مستقبل المنطقة وإسرائيل ذاتها بالدمار والخراب. الكرة الآن فى ملعب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى تحدَّث عن رغبته فى صُنع السلام ووقف الحروب، رغم أن المطروح من جانبه خلال لقاء نتنياهو يقتل عملية السلام ويزيد من شراسة الصراع ويُعرِّض مصالح الجميع للخطر، إننا أمام صراع عمره أكثر من 100 عام، ووصل إلى محطة السلام بعد صراع دموى طويل ومدمر، وإن البناء على الهدنة والعودة للتفاوض مع الوضع فى الاعتبار التأييد العربى لحل الدولتين هو ما نحتاج فيه لضغط أمريكى على الجانب الإسرائيلى، وذلك لإقناعه بأن أحلام التوسع تقتل عملية السلام، وتُعيد الجميع إلى نقطة الصفر. أما على جانبنا، فالمسألة أكبر من استخدام لغة «العنتريات» وغناء الملاحم العربية القديمة، وعلينا الاعتراف بأنه وقت الوحدة والحِكمة والتعقُّل والتعامل بحرصٍ مع الشريك الأمريكى، والتعويل على وحدتنا كشعوب تُريد السلام، وترغب فى حل القضية وفق أساس واضح وثابت وهو حل الدولتين.