تابعتُ وتابع العالم صوت المصريين والفلسطينيين الرافضين للتهجير القسرى، كانت كلمة «لا» هى رد الشارع المصرى والفلسطينى أيضًا على محاولات صناعة نكبة جديدة، تستكمل حلقة الظلم التاريخى لشعب رفض التخلى عن وطنه رغم جرائم الحرب والتطهير العرقى وصولًا إلى التهجير القسرى. كل ألوان الطيف السياسى المصرى وقفت أمام معبر رفح -رمز التواصل المصرى الفلسطينى- لدعم الموقف المصرى الرافض لمحاولات التهجير، اصطفاف وطنى داعم لموقف الرئيس عبد الفتاح السيسى الرافض للتهجير القسرى، والذى تحدَّث بلسان مصرى أصيل مؤكدًا أن مصر لن تشارك فى ظلم الفلسطينيين، وأعلن تمسكها بثوابت موقفها التاريخى المساند للحق الفلسطينى والضامن لعدم تصفية القضية الفلسطينية، ومحذرًا أنه لا يمكن التساهل فى أى أمر يهدد أمن مصر القومى. وعقب كلمة الرئيس جاء صوت الشعب المصرى والعربى ممثلًا فى قياداته الحزبية وممثلى النقابات والمجتمع المدنى والفنانين والمثقفين هادرًا وقويًا ومعبرًا عن ثوابت الدولة والشعب الرافضة لتصفية القضية وطرح مبادرات تُشعل الشرق الأوسط ولا تصنع السلام. ولا أبالغ إذا قلت إن الثوابت المصرية فى التعامل مع القضية الفلسطينية -والمبنية بالأساس على عدم تصفيتها- هى ثوابت مقدَّسة، بل إنها كانت الدافع لحروب مصر، وكانت فاتورتها الاقتصادية فادحة على خطط التنمية وعلى مستوى معيشة المصريين، ومع ذلك ظلت تلك الثوابت راسخة لدى الشعب وقياداته عبر العصور، لم ولن تتغير بتعاقب الأنظمة والحكومات، فما قاله الرئيس السيسى أعلنه رؤساء مصر السابقون وتمسكوا به. اقرأ أيضًا| محمود بسيونى يكتب: فلسفة خدمة المواطن فى النكبة الأولى عام 1948 حاولت إسرائيل أن تتخلص من الفلسطينيين بتهجير أكثر من 2 مليون فلسطينى على وعد بالعودة التى لم تتم، نفس الأمر يتكرر فى 2025 بعدما حولت إسرائيل قطاع غزة إلى ركام لتحقق حلم اليمين الإسرائيلى المتطرف بمد بؤر الاستيطان غير الشرعية إلى القطاع والسيطرة عليه، ولتحقيق ذلك يتم تمرير مبادرات الإبعاد والتهجير للتخلص من أصحاب الأرض إلى الأبد. هى ليست المرة الأولى لطرح فكرة تهجير سكان غزة وصنع شتات جديد، وأستطيع القول إن النتيجة معروفة مسبقًا، مثل نتائج الحروب الإسرائيلية البربرية على الشعب الفلسطينى، لأنها لم تنجح فى كسر صلابته، ولم تجبره على ترك أرضه، يكفى متابعة تلك الملحمة الإنسانية فى عودة سكان القطاع من الجنوب إلى منازلهم فى الشمال، ونصب الخيام على الأنقاض والإصرار على العيش بدون كهرباء أو ماء، وأجزم أننى أرى أبيات الشاعر الفلسطينى توفيق زياد متجسّدة «باقون كالجدار.. نجوع.. نعرى.. نتحدى.. ننشد الأشعار.. إذا عطشنا نعصر الصخرا.. ونأكل التراب إذا جعنا.. ولا نرحل». أخطر ما نواجهه فى التعاطى الدولى مع القضية الفلسطينية هو اعتماد الجانب الغربى على الأطروحات الإسرائيلية غير القابلة للتحقق، وأن كثيرًا من الساسة الأمريكيين المعنيين بالملف لم يفكروا فى فهم القضية وقراءة التاريخ، والواقع يقول إن الذين لا يعرفون يتسببون فى تعقيدات أكثر مما هى موجودة بالفعل، وسيناريو التهجير السابق لم يُنهِ القضية، بل إن الأزمات استحكمت خلال وجود الفلسطينيين المهجَّرين فى الأردن وما حدث فى «أيلول الأسود» ولبنان، وما حدث أيضًا فى «حرب المخيمات»، لأن الفلسطينى يفعل أى شىء من أجل العودة إلى أرضه، ومن ثم تتسع رقعة الصراع، ويصبح الاشتعال والحرب الشاملة فى الشرق الأوسط هى الأقرب، ويخفت ويموت صوت السلام. المؤكد أن مصر لا تسعى لصراع مع أحد، وعلى مدار أكثر من 40 عامًا قدمت نموذجًا يُحتذى به فى الحفاظ على مسار السلام كحل وحيد للقضية الفلسطينية، وتعاونت مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة فى العمل على تهدئة الصراع، والعمل أيضًا على تنفيذ حل الدولتين المبنىِّ على قرار مجلس الأمن رقم 242، والذى اعترف بحق الفلسطينيين فى وجود دولة على حدود ما قبل حرب 1967، وهو أساس مفاوضات السلام مع إسرائيل. تتعامل مصر مع الجانب الأمريكى كشريك فى إحلال الأمن والاستقرار وصنع السلام فى المنطقة، ويرتبط الجانبان بعلاقات شراكة استراتيجية بالأساس، ومن ذلك المنطلق تحدَّث الرئيس السيسى عن رغبته فى العمل مع نظيره الأمريكى دونالد ترامب لتحقيق السلام، وهناك بالفعل فرصة تاريخيّة أمام رئيس الولاياتالمتحدة لتنفيذ ما سبق وأعلن عنه من اعتزامه السعى لتحقيق السلام وإنهاء الحروب فى منطقة الشرق الأوسط والعالم، وأعرب الرئيس السيسى فى كلمته التاريخية عن ثقته فى أنه تحت إدارة الرئيس «ترامب» سيتمكن البلدان من دفع فرص تحقيق السلام والاستقرار الدائمين قدمًا، وذلك لا يتعارض مع توضيح مصر لرؤيتها بشكل واضح والإعلان بجلاء عن ثوابتها تجاه حل القضية الفلسطينية ورفضها نقل أو تهجير الفلسطينيين من أراضيهم تحت أى مسمى ولأى مُدد. اقرأ أيضًا|محمود بسيونى يكتب: فى رباطٍ إلى يوم القيامة تنطلق ثوابت الموقف المصرى من إيمان مصر بعدالة القضية الفلسطينية وخطورة تصفيتها، فما نراه الآن هو نتيجة عقود من الظلم الواقع على الشعب الفلسطينى والفشل الإسرائيلى والدولى فى التعامل مع عدالة القضية والصمت أمام الجرائم الإسرائيلية وممارسة ازدواجية المعايير فيما يتعلق بحقوق الإنسان، ولا يخفى على أحد أن الشعب الفلسطينى تعرَّض - وفقًا للقانون الدولى الإنسانى- إلى عدد من الجرائم المؤثمة وفق العهود الأممية لحقوق الإنسان، ويُضاف إليها التفكير فى تهجير سكان القطاع، فهى جريمة دولية بحسب اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، والتى تحظر ترحيل السكان المدنيين قسريًا فى حالات الاحتلال، وربطت بينها وبين جريمة التطهير العرقى، كما تعتبر المحكمة الجنائية الدولية التهجير القسرى جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية إذا تم بشكل منهجى وواسع النطاق، وهو ما يتحقق فى الحالة الفلسطينية. إن حل القضية الفلسطينية ينطلق من علاج جذورها ودفع الطرفين مرة أخرى لمائدة المفاوضات، لقد فشل السلاح الإسرائيلى فى تحقيق أى انتصار وذلك باعتراف قادة إسرائيل أنفسهم، ومحاولة الهروب للأمام بدفع سيناريو التهجير القسرى تجاه مصر والأردن يضع المنطقة كلها فى حالة انفجار دائم. إن التعامل مع مصر له عدد من الثوابت التاريخية، فالدولة المصرية راعية للسلام، وقوة إقليمية لها قدرها، ولا تقبل التهديد أو المقايضة على أمنها القومى، وتتعامل مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية محورية فى السياسية الخارجية المصرية، لأنها تمس الأمن القومى المصرى، ولذلك لا يُنتظر منها خيانة الحق الفلسطينى أبدًا، وهى مصر التى أبت على مر الأزمان الخضوع لأوهام المتطرفين فى إسرائيل، مصر التى حاربت وانتصرت بقوة السلاح، ثم استعادت كامل أراضيها بالسلام، مصر التى انتفضت ضد حكم الكيان الإخوانى، وواجهت إرهابًا أسودَ غاشمًا طوال عشر سنوات، وتمكنت من تدميره، وتحمَّل شعبها كل التحديات لبناء بلده.. ولا يجب أن ينتظر منها أحد غير ذلك.. فمصر لم ولن تفرط فى الأرض الفلسطينية ولا فى أمنها القومى. إن كلمات «لا للتهجير» و«لا لتصفية القضية الفلسطينية» التى سمعها العالم بشكل مباشر من أفواه الشعبين المصرى والفلسطينى أمام معبر رفح وداخل قطاع غزة تحمل الرد الثابت والقاطع على مخطط التهجير، وتؤكد أن الرفض هو قرار الشعبين المصرى والفلسطينى، وليس بمقدور أى حاكم أن يتجاهله.. هنا أو هناك.