الحضور المتصاعد للسرد العمانى كان عنوانا لندوة عقدت بالقاعة الدولية ضمن الاحتفاء بدولة عمان كضيف شرف للدورة الحالية لمعرض القاهرة الدولى للكتاب. حضرها مجموعة من أبرز الكتَّاب العمانيين منهم: بشرى خلفان، وزهران القاسمى، وعبد الله حبيب، ومحمد سيف الرحبى، وأدارها الكاتب سليمان المعمرى الذى بدأ بالتأكيد على أن الجلسة تسلط الضوء على المشهد السردى العمانى الذى شهد خلال السنوات الأخيرة قفزات نوعية على مستوى الإنتاج والتأثير، بفضل جهود أدباء ومبدعين ساهموا بنصوص تحمل فى طياتها رائحة المكان العمانى وعمق التجربة الإنسانية. قال المعمرى: إن فوز الروائية العمانية جوخة الحارثى بجائزة مان بوكر الدولية عام 2019 كان بمثابة «شهادة عالمية على النضج الذى بلغة السرد العمانى» خصوصا وهى الجائزة التى تعد الأهم فى العالم بعد نوبل، وهى فى نظره جاءت لتكلل عقودا من الجهود التى بذلها كتَّاب الرواية والقصة والسرد بشكل عام فى عمان. عّرَّف المعمرى بعدها بالمشاركين وأدار معهم حوارا كاشفا لمشروعاتهم وتعاطيهم مع فكرة الكتابة بشكل عام. المعمرى: مشروع بشرى خلفان السردى قائم على كتابة المكان العمانى، ربما اشتهر أكثر فى رواية «دلشاد» وقبلها «الباغ»، ولكن حتى كتابك الأول «غبار» عام 2008 كان أيضا عن مسقط وهو المكان العمانى الذى يتكرر فى رواياتك بأكثر من طريقة.. هل يمكن القول إن مشروع بشرى خلفان السردى هو كتابة المكان العمانى وتحديدا مسقط؟ بشرى: أعتقد أن كلمة مشروع قد تكون مؤقتة، بمعنى أنها مراحل، فى هذه المرحلة أكتب المكان المسقطى الذى أعرفه كونى بنت المدينة. أعتقد أيضا أن فكرة الانتماء للمكان هى انتماء للذاكرة وانتماء للطفولة. بإمكانى الآن أن أقول إن مشروعى الحالى فى هذه المرحلة هو نبش ذلك المكان، نبش ذاكرتى عنه، وأيضا الذاكرة العمانية المتعلقة به. أما أن يكون مشروعى بشكل مطلق فلن يكون ذلك توصيفا دقيقا، فحتى الآن لا أستطيع أن أتكلم عن مشروع مطلق فيما يتعلق بكتابتى السردية. المعمرى: زهران القاسمى.. بدأت شاعرا منذ تسعينيات القرن الماضى، وأصدرت مجموعات شعرية لافتة، ثم فى 2009 بدأت تنشر «سيرة الحجر» ويبدو أن علاقتك بالسرد بدأت بهذه المجموعة إلى أن وصلت للفوز بجائزة البوكر للرواية العربية، ويكاد يتفوق السارد زهران أو ينحِّى الشاعر جانبا. هل كانت هذه فعلا بدايتك مع السرد، أم قبل ذلك؟ زهران: كانت هناك محاولات بسيطة لكتابة القصة القصيرة قبل فترة طويلة، لكن طغيان الهم الشعرى كان أكبر فى تلك الفترة. كنت متخوفا من كتابة السرد، كنت أرى أن كاتب القصة شخص بالغ الذكاء بالضرورة ليكّون كل هذه الخيوط ويربطها ببعضها البعض. حتى محاولاتى القصصية الأولى كانت بلغة شعرية، وعندما عدت لقراءتها بعد فترة وجدتها لا تحتوى على عناصر القصة بقدر ما هى كيان أقرب للشعر، إلى أن بدأت فى «سيرة الحجر»، والعجيب أننى بدأتها كنصوص شعرية إلى أن أمسكت بإحدى الحكايات القروية وحاولت إعادة كتابتها بلغة سردية، وبدأت من هنا النبش فى الذاكرة عن كل الحكايات المتعلقة بالمكان داخل القرية، ربما فتح ذلك المجال بعد ذلك لكتابة «جبل الشوع» روايتى الأولى فى 2013. المعمرى: أذكر أننى أجريت حوارا مع عبد الله حبيب عام 2006 وأذكر بالتحديد عبارة قالها وقتها: «نبذت مفهوم الأدب لصالح فكرة الكتابة» بمعنى عدم الوفاء لجنس أدبى معين وإنما الوفاء لفكرة الكتابة ذاتها. لهذا إصداراتك تتنوع بين أدب الرسائل والبورتريهات والشذرات والقصة، تكتب فى كل الأجناس الأدبية تقريبا ما عدا الرواية؟! عبد الله: فى البداية وبما أننى موجود فى مصر أجدنى مدفوعا للعودة بذاكرتى لبداية السبعينيات، لأن هناك مسألة ذاتية وموضوعية يهمنى قولها عن مصر والمصريين، بالتحديد ما فعلوه لجيلى الذى بدأ يتلقى التعليم بعد التغيير السياسى الكبير الذى شهدته بلادى فى 23 يوليو 1970 حيث بدأت معالم الدولة الحديثة. فى تلك الفترة كانت عمان بحاجة لمن يدعهما فى تعليم الأبناء وكانت البلاد تمر بظروف قاسية فهب المصريون لنجدتها، وأنا أدين بالفضل لأساتذتى المصريين الذين جاءوا وعاشوا معنا فى بيوت من سعف النخيل وبدون كهرباء أو غاز فمن هذا المكان أقدم لهم جزيل الشكر. بخصوص السؤال فالأمر ليس خيارا فى الحقيقة، فأنا أعتقد أن كل شخص فينا عدة أشخاص، والفصام فى رأيى ليس مرضا نفسيا بل ظاهرة إنسانية طبيعية جدا، لأن الإنسان فى موقف معين يتمرأى بشكل ولكن فى موقف آخر - وهذا ليس تناقضا- لا يجد نفسه متسقا مع موقفه الأول فيغيره، بالتالى البحث عن جوهر وجود الفرد فى هذا العالم والورطة فيه تتطلب أحيانا أن نجرب أكثر من مسعى وأكثر من طريقة للوصول إلى الصمت، فنحن نكتب لنصمت فى النهاية أصلا! هذه المحاولة قد تكون ناجحة وقد تكون فاشلة، أو ناجحة جزئيا أو فاشلة جزئيا. بالنسبة لى حاولت التركيز على مسعى واحد وفشلت. التجربة الذاتية مهمة كذلك فى اختيار الشكل الفنى، أحيانا تكتشف أن القصة لا تستوعبك لأنك تريد التعبير عن موقف وجدانى معين لا تستطيع التعبير عنه إلا شعرا، أو حتى بشكل سينمائى. المعمرى: محمد سيف الرحبى أيضا شخص متعدد، قاص وروائى وصحفى وناشر ومؤلف مسرحى، دعنى أسألك عن الرواية. لاحظت أنك فى أكثر من رواية من رواياتك تحاول كتابة تاريخ شخصيات عمانية بشكل فنى. قرأنا فى «السيد مر من هنا» عن شخصية السيد سعيد بن سلطان، وفى روايتك الأخيرة التى وصلت للقائمة القصيرة لجائزة غسان كنفانى «ربيع الإمام» سيرة حياة الشيخ نور الدين السالمى. هل هذا هو توجهك فى الرواية؟ محمد سيف الرحبي: الرواية هى التى تختار مسارها دائما، ولكن خلال السنوات الأخيرة جربت كتابة هذه الشخصيات من باب تناول بعض المراحل فى التاريخ العمانى، وهى عملية شاقة لأنك تحول الواقع إلى شىء سردى. المعمرى: الشخصيتان اللتان اخترتهما أقرب للتقديس فى الذاكرة الجمعية العمانية. والرواية هى ابنة الحياة بمعنى تحويل هذه الشخصيات المقدسة إلى إنسان بما فيه من مؤاخذات أو عيوب وأخطاء. محمد سيف الرحبى: فى الرواية الأولى حاولت أن أتعامل مع شخصية السيد سعيد بن سلطان من خلال المقاربة بين زمنين الحاضر والماضى عبر تجليات معينة. الثانية أسميتها «ربيع الإمام» لأنها تناولت ما سُمِّى لاحقا بالربيع العربى، وهى إشارة إلى أن عمان أيضا عاشت هذا الربيع فى بدايات القرن العشرين ولكن من خلال ثورة دينية. صحيح أن الشخصيات المقدسة لا تتحمل الكثير من المتخيل ولكن لا بد أن نحاول ونجرب، فالكتابة كلها لحظة مغامرة ومخاطرة ونحن نتنقل بين أفكار شخصياتنا وموضوعاتنا، لنقترب من شخصيات نريد تقديمها للأجيال الحاضرة من خلال لعبة فنية أصبحت هى الأكثر تداولا. المعمرى: عبد الله. قلت إن بعض الموضوعات لا تستوعبها القصة. الرواية تستوعب أشياء كثيرة ومع ذلك لم تكتبها حتى اليوم؟ عبد الله: الرواية فى نظرى فن الكمال، صرت أنظر إليها بشكل تبجيلى. أعتقد أن من يكتبون الرواية لديهم أربعة آذان وخمسة عيون وقلبان على الأقل. هذه الفكرة زادت من العراقيل أمام كتابتى للرواية. الروايات الكبرى فى نظرى بها كل شىء؛ شعر ومسرح وحوار.. إلخ، فعندما نقرأ عبد الرحمن منيف مثلا فنحن نقرأ تاريخ المنطقة، لا بد إذن أن يكون لدى الكاتب معرفة بالتاريخ، أتصور أن الخلفية الثقافية الموسوعية ضرورية جدا للروائى، وإذا شعرت يوما أننى اكتسبت ما يكفى من حنكة ومراس ربما أكتبها. المعمرى: بشرى. فى حوار سابق تحدثتِ عن الكتابة المشروعة، عندما تقررين مثلا أنك ستصدرين مجموعة قصصية فى عام محدد وهذا حدث فعلا فى 2014، إذن تستطيعين أن تحددى لنفسك أى مشروع آخر. أليس كذلك؟ بشرى: أنا لم أقل أننى لا أملك مشروعا، قلت إن هذه المرحلة من مشروعى الآن هى التى تتكلم عن سيرة المكان، لكن بالنسبة لى يتجلى مشروع الكاتب مع الاستمرار فى الكتابة سواء أختار مشروعه فى الكتابة التاريخية أو كتابة المكان.. المشاريع السنوية للكاتب تأتى فى سياق مشروعه الأكبر. المعمرى: زهران لديه مشروع منذ بدأ الكتابة السردية، وهو كتابة البيئة القروية الجبلية العمانية، رأينا ذلك فى «سيرة الحجر» وفى «جبل الشوع»، و«القناص»، و«جوع العسل»، وأيضا فى «تغريبة القافر». يبدو أن هذا هو مشروعك أليس كذلك؟ زهران: آنياً. فى هذه المرحلة قد يكون هذا مشروعى، لكن ربما تتغير هذه الأفكار مستقبلاً أو تتغير المشاريع. فمع كتابة الشعر لم أكن أتوقع أن أكتب قصة قصيرة فى يوم من الأيام، ولم أتوقع أن أكتب رواية، حتى فكرة الرواية نفسها تتغير، ف«الروع» رغم أنها فى القرية لكنها تختلف أيضا فى تناولها للموضوع عن الروايات السابقة، وربما يكون المشروع القادم مختلفا لا أستطيع أن أجزم. المعمرى: تقول فى أحد حواراتك أن كل كتابة سردية هى تجربة بحثية فى المقام الأول، وأنت أجريت بحوثك قبل كل رواياتك، حدثنا عن تجربة البحث.. تجربة ما قبل الرواية؟ زهران: كل رواية لها مناخ خاص، وفيها جانب معلوماتى. حتى أكتب رواية «القناص» احتجت لوقت طويل جدا قضيته فى الاستماع لكبار السن الذين امتهنوا مهنة قنص الوعول فى خمسينيات وستينيات وسبعينيات القرن الماضى.. ذكرياتهم وحكاياتهم والأدوات التى استخدموها.. إلخ، كل هذه المعلومات استخدمتها فى صياغة الرواية. رواية «جوع العسل» جاءت بعد خبرة ما يقرب من 15 سنة فى تربية النحل، وكانت لى أيضا علاقات كبيرة مع النحالين ونقاشات مطولة عن الموضوع وتفاصيله الدقيقة. «تغريبة القافر» أيضا كان بها جانب بحثى كبير جدا واستعنت بالكثير من الكتب التى تحدثت عن هندسة الأفلاج، وهو نظام مائى واجتماعى قديم موجود فى عمان. أما فى رواية «الروع» فلم تكن هناك مادة بحثية كما فى سابقاتها لأن بها اشتغالاً نفسياً أكثر. المعمرى: عبد الله. تكاد تكون أول عمانى يكتب البورتريه وفى أكثر من كتاب. حدثنا عن الكتابة عن الآخرين وماذا أضافت لك ككاتب؟ لم يكن مشروعا مخططا. ما حدث أن زميل دراسة توفى وفاة مفاجئة وغير متوقعة، فكانت صادمة، فكتبت مرثية، بعدها فاز نجيب محفوظ بنوبل فكتبت «بورتريه»، توفى سركون بولص فكتبت أيضا «بورتريه» رثائياً، بعد فترة فكرت فى جمعها، هى ليست فقط عن النجوم هناك مثلا بورتريه عن معمِّرة عمانية توفيت أثناء احتفاء العالم بمعمرة فرنسية، وكانت العمانية التى لم يسمع عنها أحد أكبر منها فانتصرت لها. مع فتح الباب لأسئلة الحضور تحدثت الكاتبة عزة سلطان عن المرأة فى أدب زهران القاسمى، وقالت: إن مشروعه السردى يتضح به عزلة الرجل فى حين تظهر المرأة بشكل هامشى، وتساءلت إن كان ذلك يعكس فعلا الوجود الحقيقى للمرأة فى المشهد القروى الجبلى العمانى، وأجاب زهران بأن المرأة فى «تغريبة القافر» كانت حاضرة وبقوة فى أكثر من شخصية، فى حين خلت «القناص» من ذلك الوجود لأن بيئة العمل هى التى فرضت ذلك باعتبار أنها بيئة جبلية قاسية تستوجب عزلة الرجل الذى يحاول الوصول لقمم الجبال لصيد الوعول، فى حين يهمش الجميع فى الرواية الأخيرة «الروع» التى تقوم على شخصية واحدة. الناقد سيد ضيف الله تساءل عن معيار الجوائز فى تقييم الأدب العمانى، وقال: إنه يشعر بأن الحضور المميز هو حضور الكاتبة الروائية العمانية ورؤيتها فى تناول التاريخ، فى حين قال الكاتب أسامة جاد إن الكتابات العمانية الحالية ذات طابع نوستالجى يميل لاستعادة الماضى بشكل أكبر من تناول الواقع. وحاول سليمان المعمرى أن يزيل اللبس بخصوص مسألة الجوائز فقال: إنها ليست وحدها سبب الحضور المتصاعد للأدب العمانى حاليا، بل هى فى الواقع نتيجة وليست سببا. فجائزة مان بوكر التى حصدتها جوخة الحارثى كانت بمثابة ضوء أُلقِى على الأدب العمانى لكنه لم يبدأ من هنا، ولا حتى أدب جوخة نفسها، الاحتفاء فى نظره جاء نتيجة لجهد متواصل على مدى زمنى طويل: «أزعم أن الروايات العمانية بالذات يحتفى بها لأنها تستحق أولا ولأنها فازت بجوائز ثانيا وليس لأسباب أخرى غير الفن».