حبذا لو اتصف الأستاذ بالأبوة، والمشرف الحقيقى هو من يتصف بحنان الأب وقسوته الرقيقة. تتغير الفتوى فى مستجدات الأمور ما لم تصطدم مع المعلوم من الدين بالضرورة، فمستحدثات العصر تتطلب التفكير والاجتهاد ومعاودة النظر فيما مضى ولاسيما فى عصر التطور السريع فى العلوم لكن الأخطر أن دور الفتاوى فى العالم الإسلامى لا تنظر فى الفتاوى القديمة التى صدرت وفق عصورها وأمكنتها وظروفها المختلفة إلا قليلا، لأن خطورة هذه الفتاوى أن شبابنا يبحث عنها ويتبنى مقولاتها دون تفكير فى تغيّر الزمن والمجتمع وخطأ بعض الفتاوى كتحريم القهوة وتحريم إنارة الشوارع وغير ذلك؛ ويتحول الأمر إلى كارثة حينما يتبنى بعض الشباب تكفير المجتمع وإباحة القتل والتفجير والسرقة استنادا إلى فتاوى قديمة لم تجد من يتفقّدها ويبيّن انحرافها فقرأها بعض الشباب ممن لا دراية لهم بظروف هذه الفتاوى وبيئتها وزمنها فجعلوها دستورهم فعاثوا فى الأرض فسادا مستندين عليها ظانين أنهم مجاهدون ولا يدرون أنهم ضالّون ولا يتوقف خطؤهم على أنفسهم بل يتعدى ذلك إلى فرض آرائهم على الغير بالقوة ولا يدرون أنهم بفهمهم السقيم يدمرون أنفسهم ومجتمعاتهم ودولهم وهذا يستوجب على الأزهر الشريف ودور الإفتاء والحوْزات الفقهية بالدول العربية والإسلامية أن يشكّلوا لجانا لغربلة الفتاوى القديمة وأن يتقبلوا ما يصدر عنها من تصويب وتصحيح، فليس من المعقول أن يتقبلوا الناسخ والمنسوخ فى القرآن الكريم ولا يتقبّلون ذلك فى الفتاوى التى صاغها البشر؟ إضافة إلى أن انحراف التأويل وشططه أوْدى بأجيال نحو الزيغ والضلال.. أنقذوا شبابنا من هذه الفتاوى التى أباحت قتل الأبناء آباءهم وأمهاتهم وفجّرتْ الأبرياء الذين كل ذنبهم أنهم مروا بهذا الشارع الذى ترك فيه شاب قنبلة تنفجر وهو لا يدرى مَن ضحاياها وكم سيفرح ذلك الضال وهو يسمع عدد ضحاياه من التلفاز إن كان يرى التلفاز من المرئيات المباحة..التفقد المذهبى ومراجعة الفتاوى وتبيان انحراف التأويل فى بعضها صار أمرًا حتميًا تفرضه تلك الأرواح البريئة التى تُزهق فى بلدان العالم، ولا يعرفون غير الدماء.. وهذا ليس مقصورا على أتباع الدين الإسلامى فقط فالمتطرفون موجودون بكل الأديان وعند اللادينيين أيضا.. فلْنبدأ نحن حتى يبدأ الآخرون. الطالب والمعلم والمدرسة ما يحدث فى المدارس من حوادثِ ضربٍ وشد وشتائم نابية يجعلنا نفكر فى إعادة المنظومة التعليمية التربوية إلى مسارها الصحيح؛ فللتعليم ثلاثة أركان؛ الطالب والمعلّم والمنهج التعليمى ولا يجتمع هؤلاء إلا فى مدرسة أو جامعة فإذا ما اهتز ركن من هذه الأركان تساقط البيت التعليمى كله، ولذلك آمل أن نهتم بالطالب تعليما وتربية وسلوكا وأن نحسّن معاملة طلابنا معاملة حسنة بقسوة الأب الرحيم ولذا قال الشاعر: فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازما فلْيقسُ أحيانا على من يرحمُ وقد لحظت قسوة بعض المدرسين بالمدرسة والجامعة فحبذا لو اتصف الأستاذ بالأبوة، والمشرف الحقيقى هو من يتصف بحنان الأب وقسوته الرقيقة، هو الذى يخاف على طلابه وأبنائه أما ما نراه من حِدة بعض المشرفين وتعنّتهم فى الإشراف على طلاب الماجستير والدكتوراة فهذا غير مقبول؛ ويقينِى أن القوانين تمنع ذلك لكن الباحثين يخشون الشكوى خوفا من تعنّت المشرفين معهم وقد رأينا حوادث لا أود ذكرها لذا آمل من الزملاء نوّاب رؤساء الجامعات للدراسات العليا أن يفتحوا قلوبهم لطلاب الدراسات العليا وأن يسمعوهم بقلب الأب الرائد المسئول ليحكوا ما يحدث مع بعضهم من قسوة زائدة ومن تأخير متعمّد وأمور أخرى، المشرف الحقيقى هو الذى يترك مسافة قصيرة بينه وبين طالبه حيث يكون هناك احترام وتقدير من الطالب تجاه أستاذه مع توقير بودٍّ وأخلاق؛ وليس هذا دعوة لمجاملة المشرفين طلابهم ولا «لسلْق» الرسائل و تكرارها وإباحة السطو على جهود الآخرين دون مراعاة الأمانة العلمية وحقوق الملكية الفكرية، بالتأكيد لا أدعو لذلك لكنى أطالب بالرحمة والحرص على وجود علاقة الأبوّة بينهما، إن على المشرف أن يعامل طلابه كما يعامل أبناءه وأن يزرع فيهم روح الأمانة العلمية وحب المعرفة ودقة المنهج التعليمى وقدرة السلوك هذه أبجديات العلاقة العلمية الصحيحة وأساسيات تقدّم الدول. كيف يفكرون؟ فى أثناء تدريسى اللغة العربية للناطقين بغيرها أكتشف اختلاف الثقافات والنظرة للآخر فعندما طلبتُ منهم أن يُعرّفوا «العنف» وآثاره قال أحد طلابى من دولة عُظمى: «يجب تجنّب العُنف إلا إذا كنتَ الأقوى» وهذا التعريف مدهش لكن يجب أن نفهم كيف يفكر الآخرون، وفى حديثنا عن تعريف «السفير» قال أحدهم وهو طالب دكتوراة فى العلوم السياسية بجامعة عالمية كبرى: «السفير هو الذى يكذب ويكذب من أجل دولته» وهذه الرؤى الميكافيلية من طلاب سيغدون عما قريب سفراء ووزراء بدولهم تجعلنا ننتبه كيف يفكر الآخرون، وأذكر أننى عندما ذهبتُ إلى جامعة بون فى 1998 لنيل درجة الدكتوراة فوجئت بعد شهرين من وصولى لألمانيا بخطاب يصل إليّ من قاعدة أمريكية بفرانكفورت يعرضون عليَّ تعليم الضباط والجنود الأمريكان اللغةَ العربية ودهشت كيف عرفوني، ولماذا أنا بالذات؟ فذهبت مُسْرعا إلى العميد وهو المستشرق الألمانى الكبير اشتيفان فيلد وقلت له: لا أريد أن أعلّمهم العربية ولا لغة الجن فلْيذهبوا بعيدا عني؛ فأثنى على موقفى وأرسلتُ لهم إننى لا أرغب فى ذلك، على الرغم من أن العرض كان مُغريا ماليا ورحت أتساءل لماذا الجنود الأمريكان تتعلم اللغة العربية فى قاعدة أمريكية بفرانكفورت ولم أقتنع بأية إجابة لكن بعد سنوات طوال كانت الإجابة الفعلية عندما قالت وكالات الأنباء ليلة سقوط بغداد فى 2003 إن القوات الأمريكية التى دخلت بغداد كانت قادمة من قاعدة فرانكفورت وكان أفرادها يجيدون اللغة العربية.. هنا أدركت كيف نفكر نحن وكيف يفكرون ويخططون؟ بحثا عن الترند ما هذا الهوس؟ وما هذه الحمى التى انتشرت فى مجتمعاتنا نحو هوَس الترند بدلا من أن يحرص الشاب أن يكون مشهورا لأنه اخترع جديدا فى العلوم والصناعة أو أضاف جديدا فى الآداب وفى العلوم الإنسانية إذ به يحرص أن يكون «ترندا» فيما يخالف العقل والنقل، ترى شابا يخطف عروسه ليلة زفافها ويصوُرها وينشرها كالمخطوفة كى يتحول إلى «ترند» وآخر يعذّب ضحاياه ويبث ذلك التعذيب بثا مباشرا حتى الموت كى يكون ترندا، وفتاة تدّعى أنها مخطوفة وتطلب النجدة، وآخر يخطف زميله ويطلب فدية كى يتحول إلى ترند! ما هذا الهوس حتى الجنون؟ هل الشهرة المرجوّة لا تكون إلا فى الشر؟ لماذا لا يخترع الواحد جهازا يُفيد البشر، يكتب إبداعا يرقى بذوق الناس ومشاعرهم؟ يعمل صنيعا طيبا بدلا من هذه الآفات التى كنا لا نصدق حدوثها والآن نراها، هل هم مرضى فلْيتعالجوا؟ أو هم مُدمنو مخدرات فلْيُحجَزوا فى مصحّات تعيد توازنهم النفسى والبدني.. هل عقوبات القوانين غير رادعة وتحتاج إلى تغليظ العقوبات؟ ربما.. لكن المؤكد أن على المجتمع أن يجمع علماء النفس والاجتماع والقانون والطب معا ليصفوا لنا أحوال هؤلاء وكيفية معالجتهم بدلا من تحميل أهلهم والشرطة ردعهم بعد ارتكاب ترنداتهم المريضة والمجنونة والمشوّهة لكن كما يقول شاعرنا الكبير محمد إبراهيم أبوسنة فى قصيدته المدهشة: «الزمان اختلف..» فى النهايات تتجلَّى البدايات قال الشاعر: «أستخبرُ الشمسَ عنكمْ كلما طلعَتْ وأسألُ البرقَ عنكمْ كلما لمعَا أحبابنا إن يكنْ طال المدى فلكمْ قد قطّع الشوقُ قلبى بعدكم قِطَعا فلو مننتمْ على طَرفى برؤيتكمْ لكانَ أفضل شيءٍ منكمُ وقعَا لا تحسبوا أنّنى بالغير مُشتغِلٌ إنّ الفؤادَ لِحُبِّ الغيرِ ما وَسِعَا»