من يتأمل التاريخ المصرى على مدى آلاف السنين سيدرك حقيقة راسخة مفادها أن الدولة المصرية تكون دائمًا بخير عندما تمتلك جيشًا قويًا قادرًاعلى حماية الأرض وإنفاذ الإرادة. ومنذ عصور قدماء المصريين كانت دوائر الأمن القومى المصرى أبعد من خطوط الحدود، وهذا قدر كل الدول الكبيرة التى تلعب أدوارًا محورية فى إقليمها. وعندما ننظر إلى واقع المنطقة من حولنا سندرك أن امتلاك الدول لقدراتها الشاملة لم يعد ترفًا، بل ضرورة تفرضها متغيرات قاسية تعصف بالجميع، لذلك كانت رؤية دولة 30 يونيو ثاقبة وصائبة عندما أعلت من أهمية بذل كل الجهد وتوفير جميع الإمكانات من أجل امتلاك تلك القدرات على مختلف المستويات والأصعدة. فبناء اقتصاد قوى ضرورة حتمية لتأمين دور وحضور سياسى فعّال، وتوفير حياة كريمة وآمنة للمواطن لا تنفصل أبدًا عن ممارسة دور حيوى على الساحتين الإقليمية والدولية. كما لا يكتمل هذا الدور المصرى الحيوى إلا بقوة تحمى الحق وتعزّز الدور. فمركزية الحضور المصرى استندت دائمًا إلى قوة مؤسسات الدولة، وفى قلب ومقدمة تلك المؤسسات، المؤسسة العسكرية بما لها من رصيد وطنى لا ينفد، وحضور فى عقل ووجدان كل مواطن مصرى، ومكانة وهيبة فى الإقليم. لذلك كان تحديث قدرات القوات المسلحة أحد أهم أولويات وشواغل الرئيس عبد الفتاح السيسي. فالقراءة المتعمقة للإقليم فى ذلك الوقت كانت تشير إلى أن ما جرى فى 2011 ليس سوى قمة جبل الجليد لأحداثٍ جسام مُرتقبة، وأن امتلاك جيش وطنى قوى وبقدرات حديثة وتسليح متنوع يُمثّل أحد أهم الأعمدة التى ترتكز عليها الدولة فى مواجهة التحديات، ولتحقيق الأمن القومى بمفهومه الشامل داخليًّا وخارجيًّا. وامتلاك جيش وطنى قوى كان دائمًا هدفًا مصريًّا قديمًا متجددًا، وعته الدولة المصرية منذ أقدم العصور، وبلورته ثورة 23 يوليو 1952 كأحد أبرز أهدافها الستة، ولم يكن ذلك الجيش الوطنى القوى موجهًا يومًا ضد أحد، بل كان ضرورة وطنية تفرضها اعتبارات الموقع والموضع، وقد كان الدفاع عن مقدرات الشعب وحدود الوطن جوهر صياغة العقيدة القتالية لذلك الجيش الوطنى، لذلك يكثر وصف مصر فى كتب التاريخ بأنها الدولة التى تحولت من «قِبلة للغزاة» إلى «مقبرة للغزاة». واليوم عندما تعيد مصر بناء قوتها الشاملة، وفى القلب منها: قوتها العسكرية والأمنية، فإنها لا تبتغى سوى وجه الوطن والحفاظ على مقدراته، وسط أنواء تقتلع الدول من حولنا، وتتحول فيها دول استقرت منذ عقود وقرون إلى ما يشبه أحجار «دومينو» مرصوصة فوق خرائط مهتزة، ولا يثبت سوى الدول التى رسخت وجودها على أرضها، وعززت مؤسساتها على أساس وطنى جامع، لا تفرقة فيها بين المواطنين على أساس الدين أو الطائفة أو العرق. وخلال الأشهر الأخيرة كان لى شرف المشاركة فى جولات إعلامية نظمتها إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة التى تستحق شكرًا وإشادة تجدر بما يُبذل من جهد وعمل ليعكس بعضًا مما يجرى فى صفوف قواتنا المسلحة من تدريبات متطورة تستهدف رفع الكفاءة القتالية لجنودنا وضباطنا، والوصول بهم إلى أرقى مستويات الأداء والتناغم بين الفرد والسلاح، والتنسيق بين الأسلحة والتشكيلات المختلفة. كان من حظى الاطلاع على تدريبات للقوات البرية والبحرية، ومؤخرًا كان لى شرف حضور جانب من تدريبات قوات الصاعقة، سواعد مصر الفتية وفرسان المهام الخطرة، رأيت فى وجوه هؤلاء الفتية الذين صدقوا ما عاهدوا الله والوطن عليه، ملامح لرجال سبقوهم منذ خمسة عقود، حملت وجوههم السمراء بشائر نصر لا نزال إلى اليوم نزهو به ونفتخر، ومنحونا مجدًا نتباهى به بين الأمم. فى مقر قيادة قوات الصاعقة، ووسط صخب التدريبات الشاقة، وقفت أتأمل ملامح الشبان الأشداء الذين جاءوا من كل ربوع الوطن لأداء الخدمة العسكرية، فرأيت فى ملامحهم نفس الوجوه التى كانت ترفع علامة النصر قبل أكثر من خمسين عامًا فوق بقايا الساتر الترابى وركام خط بارليف، فملأتنى حالة عميقة من الاطمئنان. فى حضرة هؤلاء الرجال أجد رصيدًا ذهبيًّا يُعزّز قوة مصر وقدرتها على مواجهة الأخطار والتهديدات المحيطة بنا، والتى تعاظمت وتكاثفت وبلغت حدًا لم يسبق أن عرفه تاريخ المنطقة، فلم يسبق أن اجتمعت التهديدات على الجبهات الاستراتيجية الأربعة فى وقت واحد مثلما يحدث فى المرحلة الراهنة، وإذا أضفنا بعض مساعى مشعلى الفتن وهواة بث الأكاذيب فإن جبهة خامسة لا تقل أهمية أو خطرًا يمكن أن تُضاف إلى جبهات التحدى. كان لافتًا مدى الإتقان والكفاءة القتالية التى باتت تحظى بهما قوات الصاعقة وفرق مكافحة الإرهاب، بعدما استفادت من «محنة» الإرهاب الأسود لتحوله إلى «منحة» تنعكس على الأداء رفيع المستوى فى مكافحة تكتيكات تلك التنظيمات السرطانية، وتوفر خبرة ميدانية اكتسبها أبطال قوات الصاعقة بتضحياتهم ودمائهم فى ميدان الفداء بسيناء طيلة أكثر من 10 سنوات من مجابهة التنظيمات التكفيرية، وصنعت تلك الكفاءة والخبرة القتالية لهم مكانة دولية باتت محل اهتمام عشرات الدول الشقيقة والصديقة التى أوفدت رجالها للتعلّم فى مدرسة الصاعقة المصرية، وقد التقينا على هامش الجولة عددًا منهم. مستوى الكفاءة والتمكن القتالى، والروح المعنوية العالية التى ألمسها مع كل مشاركة فى بعض جوانب تدريبات القوات المسلحة، تجعلنا أكثر يقينًا وأعمق ثقة بقدرة الدولة المصرية على مجابهة ما يحيط بنا من تحديات، فتلك السواعد خُلقت لتحمى لا لتعتدى، لتبنى لا لتهدم، لتطمئن لا لتهدد، فهذه دائمًا عقيدة الجيش المصرى ونهجه، وفى ظل قيادة أثبتت حكمتها وجدارتها فى كل المنعطفات الصعبة التى مررنا بها، باتت قواتنا المسلحة قوة تجعل كل مصرى يطمئن ويأمن، وكل شقيق وصديق يزهو ويسعد، وكل متربص وحاقد وعدو يخشى ويحذر. تحية للرجال الذين لا يدخرون جهدًا للحفاظ على مصر وأمنها، ولا يترددون فى مواجهة الموت بصدورهم، لكى تبقى مصر بهيةً، أبيةً، عصيةً على محاولات النيل منها أو المساس بمقدرات شعبها.