نشرت صحيفة الأخبار في عددها اليوم الخميس 26 ديسمبر 2024، مقالا لكوكب الشرق أم كلثوم بعنوان «حينما أغني» وذلك في صحيفة «أخبار اليوم» في عددها الصادر في 25 نوفمبر 1944. «بوابة أخبار اليوم» تعيد نشر المقال... غنيت وأنا طفلة صغيرة، لا أعرف من أمور الدنيا إلا ما يعرفه الأطفال، غنيت وأنا لا أشعر بما أقول، ولا أحس بحلاوة النغم فى فمي، ولا أعرف بهزة الطرب فى قلبي، وكنت إذا صفق الناس عجبت، وسألت نفسى: «لماذا يصفقون؟!» وهكذا لا أستطيع أن أقول: إننى عشقت الغناء وأنا طفلة، أو أن أدعى أننى كنت أردد القصائد والموشحات بدلاً من البكاء. لقد غنيت ل « اللقمة » لا ل «النغمة» غنيت لأعيش، لا للفن ولا لآلهة الفن الجميل، كنت أغنى فى الأفراح.. وكانت أمنيتى أن تحدث مشاجرة بين المدعوين، أو بين أصحاب الفرح، لأتفرج، وأستريح من عناء المغنى! والليلة المتعبة عندى هى التى تمر بسلام، فلا يحدث فيها ضرب، ولا يقع جري، ولا ترتفع فيها الكراسى فى الهواء، ولا تتكسر الفوانيس على رءوس المدعوين، ففى مثل تلك الليلة الهادئة كنت أضطر لأن أكرر القصيدتين الوحيدتين اللتين كانتا كل محصولى فى تلك الأيام، كنت أصعد إلى المسرح لا يهمنى شيء، ولا أبالى بشيء، ولا يخيفنى شيء، وأى شيء يخيف طفلة صغيرة لا تعى ما تفعل، ولا تفهم كلمة واحدة مما تقول. كبرت وبدأ حظى يكبر معى، وبدأت «تذوق الفن»، عند ذلك بدأت أتهيب المسرح وأرهبه وأخشاه، وأشعر كلما غنيت أننى مقبلة على امتحان رهيب، وأن المستمعين هم أولئك الممتحنون الذين لا يرحمون، ولا يقبلون عقد ملحق للراسبين، وقد يحدث أحياناً أن أذهب إلى حفلة من الحفلات، وأنا على تمام الاستعداد لها، مزاج رائق، وصحة طيبة، فلا أكاد أفتح فمى للغناء حتى أتمنى لو أخذوا منى كل ما أملك، وعتقونى لوجه الله، ولا أغني. وفى بعض الليالي، قد تكون صحتى ومزاجى ليس على ما يرام، فلا أكاد أفتح فمى حتى تترقرق دمعة فى عينى وتظل حائرة، ثم لا ألبث أن أنسى الناس وأغنى لنفسي، وقد أفتح عينى وأنظر للجمهور ولكننى لا أراه، أتصور المكان وليس فيه أحد سواى، لا أسمع أصوات التصفيق، ولا صيحات الاستحسان، فإذا كررت مقطعاً فإنما أكرره لأننى أريد ذلك، لا لأن صوتاً ارتفع يقول لي: «كمان»، فى مثل هذه اللحظات أغنى وأنا أحلم، وتصبح القطعة الغنائية قطعة من قلبي، فإذا قلت «سافر حبيبي» فإننى أتخيل أن لى حبيباً، وأنه أسلمنى للألم والعذاب، وإذا أنشدت «غنى الربيع» أحسست أن الدنيا ربيع يغنى، والأشجار تورق، والوجوه تبتسم، والنسيم يراقص الغصون على أنغام الطير، وأرى الورد نعسان حقاً، والكون يشاركنى فرحي، ثم أتلفت وأبحث عن الحبيب الذى تخيلته فلا أجده، أنظر حولى فإذا أنا وحيدة حقاً، وإذا الأزهار جفت فوق الغصون، وإذا الشمس غابت من أفق الأحلام، وإذا الأرض صحراء جرداء لا فيها زرع ولا ماء. وفى بعض الليالى أنتهى من غنائى وكأننى أنتهى من حلم، فيوقظنى تصفيق الجمهور، فأحس بالرعدة فى جسمي، وأشعر شعور النائم حين يستيقظ بعد حلم رائع ويتمنى لو أنه لم يفتح عينيه، وهناك ليلة فى عمرى لا أنساها، تختلف عن كل ليالى حياتي، ليلة أن غنيت فى النادى الأهلي، وكانت ليلة العيد، وأقبل الملك فاروق. مفاجأة.. أحسست عندئذٍ أن فى قلبى عيداً سعيداً، وأن فى قلبى موسيقى تعزف بأعذب الألحان، وأحسست فى الوقت نفسه برهبة، وخوف. وحرت ماذا أغنى فى حضرة المليك؟! ورحت أغنى.. ولم أشعر بشيء بعد ذلك، ولم أعرف أننى أجدت، ولم أعرف أننى فشلت، بعد ذلك بأيام كنت فى محطة الإذاعة، أسمع الشريط الذى سجلت عليه أغانى الحفلة، فأغمضت عينيّ، ورحت أسمع، ولم أتمالك نفسي، فوجدتنى أصيح: الله.. يا أم كلثوم!. «أخبار اليوم» - 25 نوفمبر 1944