من القرارات الجيدة التى اتخذتها مؤخرًا استكمال قراءة واحد من أضخم الكتب الفلسفية فى مكتبتى (ما يزيد على ال700 صفحة، والمائة الأخيرة منه مخصصة للمراجع ومصطلحات الأعلام) ليس فقط طول العمل ما عطلنى عنه منذ اقتنيته، لكن الموضوع أيضًا «المادة والعقل» (المركز القومى للترجمة الطبعة الأولى 2019)، وتكفى نظرة خاطفة على محتويات الكتاب السابقة على التقديم للتيقن من أن الشروع فى قراءة عمل كهذا يعنى مباشرة الانفصال ولو مؤقتًا عما يجرى فى واقعنا. كقارئ لن تتمكن من تتبع أفكار المؤلف حول الانبثاق والمستويات، أو التفرقة بين أنواع المادية أو بين العلم والعلم الزائف، ثم بالطبع تحديد مشكلة العقل والجسم، لن يكون فى المقدور استيعاب هذا وغيره من أفكار وموضوعات إلا بالتخفف من الواقعى المباشر على أمل العودة إليه بالطبع برؤية أكثر وضوحًا من السابق، هذا على الأقل ما آمله وإلا لماذا الصبر على مسعى الكتاب «إعادة توحيد المادة والعقل بمساعدة العلم المعاصر، وخاصة فيزياء الكوانتم وعلم الأعصاب الإدراكى». تأخرت معرفتى بمؤلف العمل ماريو بونجى، هذا الكتاب أول ما أقرأ له، لست متأكدًا إن كانت ثمة كتب أخرى له مترجمة إلى العربية أم لا، قرأت مقالًا عن أهمية الرجل فى حقل الفلسفة العلمية يتعجب فيه صاحبه من أن يكون هذا أول كتاب يقرأه له أهل العربية، وأنا شاركته هذا الأسف، ليس لموضوعه تحديدًا فالمكتبة الفلسفية زاخرة بمناقشات عميقة ومطولة حول العقل ومن اتجاهات مختلفة ومتباينة شرقًا وغربًا، لكن أهمية العمل فى تقديرى تتصل بقدرة بونجى على إثارة النقاش والجدل حول الفلاسفة والمفكرين الذين نلهث فى الإحاطة بتصوراتهم الغامضة فى كثير من الأحيان، ثم التطبيق المتعسف لنظرياتهم من دون أن يكون لذلك فى غالب الأحوال مردود إيجابى على ثقافتنا ورؤانا الخاصة. منذ التقديم يهيئ مترجمه صلاح إسماعيل القارئ لما يوشك على مواجهته فبونجى هذا الذى عاش مائة عام كرس أغلبها لفضح الفلسفات الزائفة من وجهة نظره، وفى هذا فالقائمة طويلة بصورة فاجأتنى وتضم نجومًا يزين الواحد منا بهم مكتبته، وعلى سبيل المثال: نيتشه وهايدجر ودريدا، كما أنه وحسب مقدمة إسماعيل: «ينقد الوجودية والنسوية والنظرية النقدية وما بعد الحداثة على أساس أن فلاسفة هذه الاتجاهات لم يحلوا أى مشاكل فلسفية، ولا تزيد عباراتهم عن أن تكون إما عبثية أو تافهة». هل أثار الكتاب حوله نقاشات موسعة فى عالمنا العربى بعد صدوره؟ أسأل لأن الرجل مشهور للغاية فى الخارج، وأفكاره تم تداولها والنقاش حولها بتوسع لكن ليس دائمًا بالرضا عنها، خاصة أنه ووفق إسماعيل أيضًا: «وما أعرف أن أحدًا جادل الذى يخالفونه فى الرأى كما جادل بونجى، وما أعرف فيلسوفًا هاجم المبعدين عنه والمقربين إليه كما فعل بونجى»، لكن فى كل الأحوال وسواء كنت من السعداء أم من الضائقين بفلسفة ومنهج المؤلف فإنك مع ذلك ستجد: «فى هذا الكتاب زادًا علميًا وفلسفيًا ضخمًا، يتحدى عقلك ومعارفك ويدفعك دفعًا إلى معاودة النظر فى قضايا كبيرة على رأسها العقل والمادة». تعانى الثقافة العربية من زمن عدم وجود منهج نقدى خاص بها، تقرأ به واقعها وتقيم عبر نظرياته فنونها وآدابها بحيث لا يختلط علينا الأمر كما هو الآن فيثور الضجيج حول إن كان ما نقرأ أدبًا أم إحدى صور التعبير المباح عن الذات، هل هذه سينما وغناء أم مجرد تقديم صور كاريكاتورية عن مشاكل طبقات ونماذج اجتماعية، ما التحرر الفنى وما الضوابط الحاكمة التى لا بد من التزامها لاعتباره فنًا؟! وليس من قبيل التشاؤم، بل بقراءة واقع الحال، القول بأننا فشلنا فى الوصول لإجابة مقنعة عن عشرات من الأسئلة الأساسية فى حياتنا بحيث تلتقى عندها مختلف الأطراف الفاعلة فى الثقافة، وعليه فلم يعد تعدد التيارات والمدارس المستوردة ميزة بل ترسيخًا للتناحر وتأكيدًا على التبعية الثقافية من ناحية أو الغرق فى الماضى من ناحية أخرى أو تجاهل المعركة بأكملها عند الفئة الغالبة من الناس. لهذا جاءت أهمية بونجى وكتابه، اعتبرته نقطة أساس لمساءلة عشرات النظريات المستوردة التى اقتفينا أثرها وطبقناها فى دراسة أعمالنا الأدبية وأيضًا فى وضع المناهج النقدية والفلسفية والعلمية، ليس لمجرد إعادة قراءة المنجز الغربى تحديدًا ومساءلته بل وفوق ذلك استخلاص النتائج التى قدمناها بعد سيرنا على دروب هؤلاء لأنه إذا كان هيدجر قد أصبح مشهورًا لأنه: «كتب عبارات خالية من المعنى مثل «الزمان هو نضج الزمانية» و «الكلمة هى بيت الوجود» وسلك دريدا الطريق ذاته عندما قال «لا شىء خارج النص» وهى الرؤية الفرنسية لجملة هيدجر «لا توجد أشياء وتصبح إلا فى الكلمة، وفى اللغة».. إن كان هذا صحيحًا فإنه وبتطبيق أبسط المعادلات الرياضية فإن ما توصلنا إليه من نتائج لا قيمة له وهذا بالتعبير المهذب وليس بالصراحة المطلقة التى يقدم بها بونجى أحكامه فتبعا لحكمه فإن: «هذه الفلسفات العبثية والتافهة لا ترضى إلا الذين يجدون رزقهم فى تدريسها، والسُّذج الذين يرونها عميقة جدًا ما دامت غير مفهومة، والكسالى الذين لا طاقة لهم بالمناقشات العقلانية». فى بداية هذا المقال قلت إن استكمال قراءة هذا العمل كان اختيارًا جيدًا لأسباب متعددة منها ما يجرى فى منطقتنا والنقاش حول مفاهيم الدولة الوطنية والتدخلات الخارجية، وهو ما أظنه ليس سؤالًا سياسيًا فى المقام الأول بل ثقافى بالأساس، وليس المعنى المقصود استبعاد النظريات النقدية والفكرية المستوردة بل القدرة على مساءلتها وامتلاك القدرة على تحديد قيمتها ومدى ملاءمتها لخصوصية الواقع الثقافى المحلى والتحلى بالجرأة والشجاعة على طريقة بونجى الذى أكتفى من كتابه هنا بالمقدمة الوافية لصلاح إسماعيل من دون الخوض فى العمل نفسه الذى لا تكفى هذه السطور للإحاطة به: «كنت أيضًا فيلسوفًا مناضلًا بدلًا من أن أكون شاهدًا وشارحًا هادئًا، لأننى أعتقد أن الفلسفة يمكن أن تكون مفيدة أو ضارة، وأنه حتى ألعاب العقل المحايدة بوضوح وغير المؤذية مثل الألعاب الشاحبة فى التحليل اللغوى وفى الدراسات الاجتماعية، تكون ضارة فى صرف الانتباه عن المسائل الملتهبة، وحتى أصحاب الدجل الخطير مثل هيجل ونيتشه يستحقون عناية أكثر من فتجنشتين وأتباعه، لأن الأولين عالجوا بعض المسائل المهمة، وإن كانت معالجة بطريقة خاطئة، على حين أن الآخر لعب فقط بالكلمات. والأخطاء المهمة جديرة بالاحترام أكثر من الأحاجى التافهة أو اللغو الطنان». يبقى فى النهاية التأكيد على أنى بشكل شخصى فى حاجة لقراءة الكتاب بدقة ومقارنته بأعمال ونظريات أخرى قبل الخروج بأحكام ما ملتزمًا فى ذلك ببعض مزايا عمل بونجى الفلسفية التى ألزم بها نفسه دومًا ومن بينها: حب الاستطلاع الواسع، والبحث عن الحق والعدل، وإخلاص الولاء للعقلانية، وغير ذلك من صفات أظن أن نقادنا وأكاديميينا يعرفونها جيدًا!