فى ديسمبر من كل عام تحل علينا ذكرى ميلاد أيقونة مصر نجيب محفوظ الذى ولد فى 11 ديسمبر عام 1911. هذا الأديب الفيلسوف، صاحب الحكمة المقطرة، والنظرة الإنسانية الصوفية التى تنفذ إلى النفس البشرية، تكتشف أغوارها وتفاجئنا بأسرارها. نجيب محفوظ الذى عشق الحارة المصرية، فأصبحت عالمه الروائى الأثير، بحث بين وجوه ساكنيها عن حكايات من لحم ودم الواقع، غاص فى أعماقهم، قرأ تاريخ مصر ليس فى الكتب فحسب، بل شاهد تفاصيله فى خطوط الزمن على وجوه الناس فى الحارة. فكان الأديب الذى أرخ الأدب أو أدب التاريخ. نجيب محفوظ عاش ولايزال الأستاذ والمعلم لكل من عشق الكلمة، واكتوى بنار الحرف سواء التقى به شخصيا، أو عرفه من خلال رواياته وقصصه ومقالاته وحواراته. كنت أنا من المحظوظين الذين نالوا شرف الالتقاء به أكثر من مرة، وكان حوارى الممتد معه من أكبر كنوزى الأدبية والإنسانية التى أفخر بها. وقد كان هذا الحوار العميق الممتد واحد من أهم الحوارات مع الأدباء والمفكرين الرواد الذى تضمنه كتابى «نجوم وأقلام». دروس مهمة، و جمل محفورة تبقى فى الذاكرة والوجدان من سيرة الأستاذ أوجزها فى نقاط سريعة بلا ترتيب: أن الكتابة مهنة لا تقبل إلا الإخلاص الكامل لها ولا ترضى أن يشاركها شغف آخر. وأن الرواية بناء هندسى متقن وليست فصول مفككة، عشوائية. أن النظام الصارم مطلوب فى حياة الأديب حتى تترجم موهبته إلى أعمال تنجز، و أن الكتابة كمهنة لا تعتمد على إتيان الوحى والإلهام، لكنها عمل يومى منتظم، وساعات محددة كل يوم من أيام أشهر العمل فى كل سنة. بالنسبة لكاتبنا نجيب كانت (من شهر أكتوبر حتى شهر إبريل) أما شهور الصيف فقد كان يتوقف خلالها عن الكتابة . يجلس كل يوم مع أوراقه، أقلامه، كتبه من الساعة السادسة حتى التاسعة مساء. لا يحذف يوما مهما كانت الظروف. أما ساعات الصباح فيبدأها فى السادسة صباحا حيث يستيقظ مبكرا ويرتدى ملابسه وينزل ليتمشى من بيته فى العجوزة إلى قهوة على بابا في ميدان التحرير، حيث يقرأ جرائده الصباحية، ويشرب قهوته، ثم يتجه إلى مقر عمله فى وزارة الثقافة. أى إنه كان موظفا منضبطا صباحا، أديبا صارما فى المساء.