يحفل الفن الجنائزي المصري القديم بالعديد من الرموز والتفاصيل التي تعكس عمق العقيدة والروحانية المصرية. ومن أبرز الأمثلة على هذا الفن، التابوت الخاص بالسيدة "دنيت إيست" من عصر الأسرة 27، والذي يُعرض حاليًا في متحف أونتاريو الملكي بمدينة تورنتو بكندا. يحمل هذا التابوت مشهدًا نادرًا وفريدًا يجمع بين الرمزية الدينية والأساطير المصرية القديمة، مما يجعل منه وثيقة بصرية تسرد قصة البعث والخلود في آنٍ واحد. * تفسير مشهد تابوت "دنيت إيست" : 1. وصف المشهد العام المشهد على التابوت يظهر الإله "أوزير" في وضع الراقد على سرير التحنيط، وهو السرير الذي صُممت مقدمته بشكل رأس صقر يرتدي التاج المزدوج، رمز الوحدة بين مملكتي مصر العليا والسفلى، أسفل السرير، وُضعت أواني الأبناء الأربعة للإله "حورس"، والتي كانت تُستخدم لحفظ أحشاء الموتى المحنطين. هذه العناصر تقدم مشهدًا متكاملًا يعبر عن أهمية عملية التحنيط والبعث في العقيدة المصرية. 2. "إيزيس" كرمز للبعث والتجدد أبرز ما يميز المشهد هو تصوير الإلهة "إيزيس" وهي تحلق فوق جسد "أوزير" في هيئة حية كوبرا ذات أجنحة. يعلو رأسها التاج الحتحوري، الذي يرمز إلى الأمومة والحب والتجدد، هذا التمثيل يعكس دور "إيزيس" في أسطورة إعادة الحياة إلى "أوزير" بعد مقتله، إما عبر تحريك الهواء حوله بأجنحتها لإعادته للتنفس، أو لتهيئة المشهد لإنجاب "حورس"، الابن الإلهي الذي يمثل النصر والحماية. 3. الجعران المجنح ودوره الرمزي في أعلى المشهد، يظهر الجعران المجنح وهو يحرك الشمس بين الاتجاهين العلوي والسفلي من التابوت. هذا العنصر يحمل دلالات عميقة، حيث يرمز الجعران إلى التجدد والخلق، بينما حركة الشمس تمثل استمرارية دورة الحياة اليومية. يتجلى هنا الدمج بين الإله "رع"، إله الشمس، و"أوزير"، مما يعكس فكرة التماهي بين دورة الشمس اليومية ورحلة البعث في العالم الآخر. 4. دلالات السرير التحنيطي السرير الذي يرقد عليه "أوزير" ليس مجرد عنصر وظيفي بل يحمل رموزًا دينية هامة، رأس الصقر ذو التاج المزدوج يشير إلى الحماية الإلهية وإلى ارتباط "أوزير" بمملكتي مصر العليا والسفلى. كما يعزز هذا التصميم فكرة أن "أوزير" يمثل السيادة على العالمين، الأرضي والسماوي. 5. رمزية الأبناء الأربعة وجود أبناء "حورس" الأربعة في هيئة أواني أسفل السرير يرمز إلى الحماية الكاملة لجسد "أوزير". هذه الأواني كانت تُستخدم في حفظ أحشاء الموتى خلال عملية التحنيط، ويُعتقد أن كل واحد من الأبناء الأربعة كان مسؤولًا عن حماية عضو معين، ما يعكس توازنًا بين العناصر الجسدية والروحية. * البعد الديني والأسطوري في المشهد : 1. أهمية أسطورة أوزير وإيزيس أسطورة "أوزير" و"إيزيس" هي إحدى الأساطير المحورية في العقيدة المصرية القديمة، تمثل "إيزيس" دور الزوجة الوفية التي جمعت شتات جسد زوجها المقتول وأعادته للحياة، هذا المشهد يعيد سرد هذه القصة من خلال رمزية الأجنحة والجسد المحنط. 2. الدمج بين رع وأوزير يرمز الجعران المجنح في أعلى المشهد إلى دمج الإله "رع"، إله الشمس، مع "أوزير"، إله البعث، هذا الدمج يعكس مفهومًا عميقًا في العقيدة المصرية، حيث يمثل "رع" رحلة الحياة اليومية، بينما يمثل "أوزير" رحلة البعث في الحياة الآخرة. 3. الإحياء والخصوبة يرتبط المشهد أيضًا بفكرة الخصوبة، خاصة مع وجود "إيزيس" التي تحلق فوق "أوزير"؛ يُحتمل أن تكون هذه الوضعية إشارة رمزية إلى التزاوج وإنجاب "حورس"، مما يرمز إلى استمرار الحياة والانتصار على الموت. * الأبعاد الفنية والجمالية في المشهد : 1. التفاصيل الدقيقة تميز المشهد بالاهتمام الكبير بالتفاصيل، بدءًا من تصميم السرير وحتى الأجنحة والتاج الحتحوري، هذه التفاصيل تعكس براعة الفنان المصري القديم في التعبير عن الرموز الدينية بشكل بصري مميز. 2. استخدام الألوان والرموز من المرجح أن المشهد كان ملونًا بألوان زاهية، مما يعزز من قوة الرسالة الرمزية. الألوان، مثل الأزرق والأخضر، كانت تُستخدم للتعبير عن الخلود والحياة. 3. تنسيق العناصر العناصر المختلفة في المشهد مرتبة بشكل متناغم يعكس فهمًا عميقًا للعلاقات بين الرموز الدينية، يظهر هذا التناغم في التوازن بين الجعران المجنح في الأعلى وأواني أبناء "حورس" في الأسفل. * الأهمية التاريخية والثقافية : 1. توثيق المعتقدات المصرية يُعد هذا المشهد وثيقة بصرية تعكس فلسفة المصريين القدماء حول الحياة والموت والبعث. 2. دليل على براعة الفن الجنائزي هذا التابوت هو دليل على مدى تطور الفن الجنائزي في عصر الأسرة 27، حيث يجمع بين الرمزية العميقة والجمالية الفنية. 3. أثر المشهد على الفن الحديث ألهمت الرموز والأساطير المصرية القديمة العديد من الحركات الفنية الحديثة، يمكن أن نرى تأثير هذا المشهد في الأعمال الفنية المعاصرة التي تستلهم من الميثولوجيا المصرية. تابوت "دنيت إيست" ليس مجرد قطعة أثرية، بل هو لوحة حية تسرد قصة الخلود والبعث التي آمن بها المصريون القدماء؛ يجمع المشهد بين الرمزية الدينية والفن الراقي، مما يجعله أحد أهم المشاهد التي توثق المعتقدات والروحانية المصرية؛ ومن خلال عرضه في متحف أونتاريو الملكي، يظل هذا المشهد شاهدًا على عظمة الحضارة المصرية القديمة وتأثيرها الدائم على العالم. اقرا ايضا | «وجوه الفيوم» لوحات ذات طابع خاص تحمل عبق التاريخ.. صور