خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر، كُلِّف الفنان الإيطالي «أندريا مانتيجنا» بتزيين غرفة الزفاف في قصر دوق «مانتوفا»، فلم يكتفِ برسم مجموعة الجداريات، ولكن قام بعمل قبة مفتوحة على السماء، يطل منها أشخاص وأطفال وملائكة وطيور، وأعاد صياغة معمار الغرفة بالكامل، صانعا مجموعة من الأقبية والأقواس والأعمدة، مستخدما فرشاته فقط، وتاركا أحد أشهر أعمال الوهم البصري، الذى واصل أساليبه فى أعمال فنانين آخرين مستعينا بعلوم النفس والإدراك، وأنتج أعمالا مدهشة، تجعلنا نتساءل عما إذا كنا ندرك العالم كما هو فى الواقع. ◄ خلفيات وهمية وقباب مفتوحة على السماء في عصر النهضة ◄ لا فرق بين البجعات والأفيال عند سلفادور دالي ◄ البعض اعتمد على مبادئ الإدراك فى مدرسة «الجشطالت» ■ بطة أم أرنب؟ التلاعب بالحواس، والإيهام بواقع متخيل كان هاجسا للفنون على العموم منذ زمن بعيد. ولكن الطفرة الحقيقية جاءت مع عصر النهضة على يد المعماري «فليبو برولونيسكي» الذى طوّر المنظور الهندسى، وسرعان ما استخدمه عباقرة عصره فى أعمالهم، لينتجوا لوحات مسطحة، لكنها تبدو وكأنها ثلاثية الأبعاد، مراعية نسبا رياضية بين أحجام العناصر القريبة والبعيدة، من خلال نقطة زوال، تتجه الخطوط الأفقية نحوها منتجة العمق فى خلفية تلك الأعمال. ■ بورتريه سلفادور دالي بريشة أوليك شوبلياك ◄ إيهام ورموز من أشهر الأعمال التى استخدمت المنظور ببراعة للإيهام بالعمق، لوحة «المحادثة المقدسة» لفنان عصر النهضة «بييرو ديلا فرانشيسكا» التى أنجزها عام 1472 لدوق أوربينو «فريدريك الثالث». وتصور السيدة العذراء وطفلها على العرش، محاطين بشخصيات من الكتاب المقدس، كما تتضمن الدوق صاحب اللوحة، فى المقدمة مرتديا دروعه الدفاعية المعدنية، وراكعا فى وضعية للصلاة. ودعم الفنان إيهامه بنقش التفاصيل التى تضمنت محرابا، به نقوش بارزة وغائرة، وسقف مقبب تتوسطه صدفة، ترمز للقديس «جيمس»، والمعروف أيضا بيعقوب، و»سنتياجو». وفى إشارة رمزية جعل جميع الخطوط الأفقية للخلفية تلتقى عند رأس العذراء. ما يجعل اللوحة ليس فقط أحد أمثلة استخدام المنظور الهندسى للإيهام بالعمق، ولكن أيضا أحد الأعمال التى استخدمت البنية الرياضية للتعبير عن الإشارات الرمزية. ■ عمود مستحيل في الأيسر للفنان الفلمنكي جوس دي مي كذلك تعتبر لوحات «الفصول» للإيطالى «جوزيبى أركيمبولدو» من القرن السادس عشر، أحد نماذج الوهم البصرى. وهى تصور فى كلٍ منها أحد فصول السنة، فى هيئة رأس إنسان مكون من فواكه وخضراوات أو زهور أو جذع وأفرع شجرة. ورغم أنها مجرد عناصر معروفة موضوعة فى تكوين، لكنها تخلق الوهم بأنها رؤوس آدمية لما تستدعيه من الذاكرة من معرفتنا بتكوين الرأس البشرى. وهى لا تكتفى بذلك بل تحمل رمزية أخرى إذ تتابع اللوحات لتشكل مراحل حياة الإنسان من الشباب فى الربيع ونضوج الشباب فى الصيف ومنتصف العمر فى الخريف والكهولة فى لوحة الشتاء. ■ للفنان روب جونزالفيس وله لوحات أخرى اتبعت الأسلوب نفسه مثل لوحة «بستانى الخضراوات» التى تصور إناء به مجموعة من الخضر، وإذا قُلبت اللوحة يتحول إلى شخص. وله أيضا لوحة أمين المكتبة التى تصور شخصا مكونا من مجموعة من الكتب.. وفى حقبة الباروك (القرن 17) رسم الفنان «أندريا بوزو» لوحة «تطويب القديس إغناطيوس» على سقف كنيسة القديس بروما، مستخدما الخداع البصرى للإيهام بأن الشخصيات المرسومة تتسلل من الأعلى إلى داخل الكنيسة. وفى أواخر القرن التاسع عشر رسم الفنان «تشارلز آلان جلبرت» لوحة «كل شيء باطل» التى تستوحى نصا من سفر «الجامعة». وصور فيها امرأة تجلس أمام مرآة، لكن من منظور آخر سنكتشف أننا أمام جمجمة كبيرة تشكلها المرآة ورأس المرأة وصورتها فى المرآة اللتين تمثلان فراغى العينين. ولا تخفى رسالة الفنان بأن الجمال زائل، وأنه لا داعى للغرور به. وفى الفترة نفسها رسم الفنان «بيير بوريل ديل كاسو» لوحته «الهروب» وتصور طفلا يهرب من إطار لوحة، وهى أيضا من أشهر أعمال الخداع البصرى. ■ لوحة بستاني الخضروات للفنان جوزيبي أركيمبولدو ◄ اقرأ أيضًا | حكايات| «كريم».. فنان تشكيلي يرسم لوحات تطوف العالم ◄ الإدراك يتعمد السيريالى «سلفادور دالى» التلاعب بالحواس والإدراك والمخيلة من خلال لوحاته. ومن أشهر الأعمال التى اعتمد فيها على الخداع البصرى لوحته «البجع يعكس الفيلة» التى يظهر فيها ثلاث بجعات على حافة أجمة صغيرة، تنعكس فى الماء فى هيئة رؤوس أفيال، وتكمل انعكاسات جذوع الأشجار الميتة فى خلفيتها الإيهام بأرجل الأفيال. وكأنه يقول لنا إنه يمكن لأى شيء أن يعكس أى شيء، حتى أن بجعات رشيقة يمكنها أن تنتج بانعكاساتها أفيالا. وهو لب استخدام الخداع البصرى فى عصر الحداثة، الذى يرتكز على أن العالم ليس بالضرورة كما نراه أو ندركه بحواسنا. وقد اعتمد «دالى» على رؤية مستمدة من عالم الأحلام، والتحليل النفسى عند «سيجموند فرويد»، وأعاد تقديم العالم من بعد آخر، حيث لا تخضع الأشياء والأشكال للمنطق المتعارف عليه. وهو يقدم عناصر نعرفها، ومع ذلك نجد أننا أمام شيء مدهش أو صادم أو مربك أو غريب. ■ لوحة تطويب القديس إغناطيوس للفنان أندريا بوزو بسقف كنيسة القديس بروما وهنا يظهر الفرق بين الخداع البصرى فى عصر النهضة وما قبله، الذى كان هدفه الإيهام بما يشبه الواقع، وهذا الوهم البصرى الذى يشككنا فى رؤيتنا للواقع. وإذا كان «دالى» قد اعتمد على أبحاث «فرويد» حول اللاوعى وعالم الأحلام، فقد ألهمت مدرسة «الجشطالت» العدد الأكبر من فنانى الخداع البصرى. وهى مدرسة تهتم بطبيعة إدراكنا للعالم، الذى يقوم على تنميط مجموع الأجزاء بأشكال معينة لتحقيق إدراك كلى. وحددت آليات هذا الإدراك، ومنها أننا لا نستطيع إدراك شكل بمعزل عن خلفيته، وأن الدماغ يقوم بتصنيف المتشابهات فى الحجم أو اللون ويضعها معا، وكذلك يجمع الأشياء المتقاربة معا ضمن وحدة أو نسق. كما يميل للأشكال المكتملة، ويقوم بإكمال الأشكال الناقصة، ويجمع الأشياء التى تتشارك فى الاتجاه مقابل الأخرى. وهى المبادئ التى استخدمها الفنانون لرسم لوحات مدهشة. ■ مثلث بنروز مجسم في استرالياالغربية ◄ نسبية انتشرت منذ الستينيات حركة «الأوب آرت» التى سعت إلى خلق طرق وأساليب جديدة لإنتاج الأوهام البصرية، وسط انتقادات بأنه فن تجارى، يعتمد على إثارة العين. وبعض الرسوم تضع المشاهد فى حيرة حقا، لأن الأشكال يمكن أن تكون شيئا أو آخر حسب رؤيتك لها. مثال ذلك رسم يمكن أن يرى كرأس أرنب، أو رأس بطة. وبعض هذه الرسوم تستخدم لمعرفة التكوين النفسى والفكرى للأشخاص، وميلهم لرؤية أشكال دون أخرى حسب حالتهم المزاجية وتصوراتهم عن العالم. كذلك أظهرت بعض الرسوم أن الدماغ يكمل الأشكال، وأحيانا يختلق من مخزونه وفق الطريقة التى اعتاد عليها أو يفضلها. ومنها رسم لأربع دوائر سوداء على خلفية بيضاء، مقتطع من كلٍ منها ربع لتشكل أركان مربع غير موجود، ومع ذلك لا تستطيع العين إلا أن تراه. أما أبرز تقنيات هذا النوع من الفن فهى الإيهام بالحركة من خلال ترتيبات ديناميكية للأشكال والألوان. ومنها أعمال الفنانة «بريدجيت رايلى» التى تستخدم أشكالا تجريدية توهم بالحركة، وتبدو للبعض مزعجة. وهى تعتمد على الأنماط المتكررة والألوان المتناوبة، ووضعية الخطوط والأشكال. كذلك استخدم بعض الفنانين الألوان لخلق الخداع، ومن أشهرهم «فيكتور فساريللى»، وهو يتلاعب بالإدراك ويستثير المشاعر من خلال التلاعب بالألوان الساخنة والباردة. ففى بعض اللوحات يرسم الأشياء البعيدة فى الخلفية بلون ساخن، فتبرز للمقدمة، بينما يموه عنصرا قريبا ويرسمه بلون بارد فيتراجع للخلفية. وهنا يصبح الدماغ فى حيرة بين المنظور واللون اللذين يعطى كلٌ منهما تأثيرا معاكسا داخل العمل نفسه. ■ من أعمال الفنان روب جونزالفيس ◄ تلاعب بالمنطق إحدى طرق الخداع البصري هى استغلال المسطح لرسم أشكال مجسمة مستحيلة، ما يعتبر تلاعبا بالمنطق. ومن أبرز أمثلتها «مثلث بنروز» للسويدى «أوسكار ريتسفيرد» الذى استخدمه من بعد «روجر بنروز» وأعاد تصميمه ونشره فى الخمسينيات. ومن الطريف أنه تم تنفيذ المثلث المستحيل مجسما فى أستراليا، عن طريق خداع بصرى من نوع آخر. فالمثلث غير قائم فى الواقع لأنه مستحيل، وهو فى الحقيقة عبارة عن ثلاثة أضلاع غير متصلة إلا فى نقطتين، لكنها تشكل المثلث وهما من زاوية محددة. وهو أحد غايات الخداع البصرى فيما يتعلق بالمجسمات حيث يتغير الشكل كليا بمجرد تغير زاوية النظر. وهو ما يشير إلى حقيقة أن كل أمور الحياة تخضع لزاوية نظرنا لها، وتتوقف على موقعنا منها. وقد اكتسب بعض الفنانين شهرتهم عن طريق أساليب مختلفة من الخدع البصرية. الفنان الأوكرانى «أوليك شوبلياك» على سبيل المثال اعتمد على مزج العناصر بحيث تكون مشهدا كليا مختلفا عن حقيقتها، كأن يرسم وجها، أنفه جسد طفل، ورأسه مظلة. أما الفنان الهولندى «موريتس كورنيلس إيشر» فاعتمد على المفارقات الرياضية والهندسية لرسم أشكال مستحيلة. وهو ما قام به أيضا الفنان الفلمنكى البلجيكى جوس دى مي» أما الكندى «روب جونزالفيس» فيستخدم التلاعب بالمنظور، لخلق لوحات ذات أبعاد سيريالية أحيانا، ويصنفها البعض ضمن الواقعية السحرية، لاعتمادها على عناصر الواقع مع خلق حالة من الدهشة نتيجة التلاعب بتشكيل المنظور.