ثمة عامل وراء زيادة الترجيحات حول اختلاف ولاية دونالد ترامب الثانية بشكل جذري عن ولايته الأولى. وانطلاقاً من هذا الطرح، تدفع الترجيحات باتخاذ إدارته سلسلة من التغييرات الجوهرية في السياسات الأمريكية، تشمل مجالات العلاقات الخارجية والشؤون الاستراتيجية. غير أن هناك قضايا أخرى وصفها مركز «ستراتفور» الأمريكي المختص بالمعلومات الاستخباراتية ب«المُغفلة» من إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن، تتمثل في مستقبل الاستخدام المكثف لدبلوماسية الاستخباراتية، وهل ستواصل إدارة ترامب تبني هذه الاستراتيجية. ووفقاً للمركز الأمريكي الذي يُطلق عليه «وكالة المخابرات المركزية في الظل»، يتم استخدام المعلومات الاستخباراتية بشكل استراتيجي لتحقيق أهداف السياسة الخارجية. ورغم أن رؤساء الولاياتالمتحدة السابقين استخدموا هذه الاستراتيجية بشكل متقطع، إلا أن بايدن اعتمد عليها بقدرٍ غير مسبوق. ◄ من الظل إلى الأضواء تتجسد «الدبلوماسية الاستخباراتية» غالبًا في شكلها الأكثر شيوعاً عبر رفع السِّرية عن المعلومات ومشاركتها، أو على الأقل تعزيز الوصول إلى وكالات الاستخبارات وقادتها من قبل الجهات النظيرة في مختلف الدول. تمثل هذه الاستراتيجية تحدياً كبيراً، سيما وأن عمل الجواسيس يعتمد أساساً على السِّرية وحماية هوياتهم وهويات مصادرهم، التي يتم جمعها وتحليلها وتوظيفها لتحقيق الأهداف. ومن الناحيتين القانونية والعملية، فإن السِّرية مسألة منطقية؛ إذ تظل الاستخبارات مجالاً سرياً غير سياسي بشكل مثالي، وقد تتعرض للتقويض إذا كُشفت أسرارها، خاصةً إذا طُوِّعت لخدمة أهداف سياسية، حسب ما ذكره المركز الأمريكي. بجانب ما سبق، هناك عوامل أخرى تمثل مخاطر كبرى، تتمثل في الإفراط في الكشف عن «المصادر والأساليب» - أي الطرق السِّرية لجمع المعلومات الاستخباراتية - ما قد يؤدي إلى اكتشاف الخصوم لنقاط الضعف ومن ثم تعريض حياة العملاء للخطر. إضافة إلى ذلك، يمكن أن تؤدي الدبلوماسية الاستخباراتية إلى نتائج عكسية، ودلّل المركز الأمريكي على ذلك بالفترة التي سبقت الحرب الأمريكية على العراق في مارس 2003، إذ رفعت واشنطن السِّرية عن معلومات تزعم أن الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين كان يطور أسلحة دمار شامل محظورة. وقد ثبت لاحقاً أن هذه المزاعم كانت خاطئة، ما قوض الثقة بشكل كبير في مجتمع الاستخبارات الأمريكي، وجعل الرؤساء بعدها مترددين لسنوات في تبني سياسة الدبلوماسية الاستخباراتية، حسب اعتراف المركز الأمريكي. ◄ أدوات جديدة للسياسة الخارجية من الشائع في أوساط الإدارات الأمريكية توظيف المعلومات الاستخباراتية في تحقيق أهداف دبلوماسية. وقدّم المركز الأمريكي مثالاً على ذلك بما حدث في أكتوبر 1962، عندما قدمت واشنطن لمجلس الأمن الدولي صوراً سِرية تُظهر نشر الاتحاد السوفيتي لصواريخ هجومية في كوبا، ما أثار رأياً عالمياً قوياً دفع الكرملين إلى سحب الصواريخ وإنهاء أزمة الصواريخ الكوبية. ومضى المركز الأمريكي بالقول إن إدارة بايدن تمكنت من جعل الدبلوماسية الاستخباراتية أكثر تنظيماً، واتخذت نهجاً مستداماً بدلاً من الارتجالية. وكان هذا واضحاً في سياق الحرب الروسية الأوكرانية، إذ نشرت الولاياتالمتحدة معلومات استخباراتية شديدة السِّرية بشكل متكرر لكشف خطط روسيا، ووسّعت جهودها إلى الصين، حيث كشفت معلومات عن دعم بكينلموسكو في أوكرانيا، ونواياها تجاه تايوان وحملات التجسس السيبراني، حسبما ذكر المركز الأمريكي. إلى جانب الإفصاحات العلنية، أظهرت إدارة بايدن مرونة في مشاركة الاستخبارات ب «طرق سِرية» أكثر لتحقيق أهدافها. على سبيل المثال، أفادت تقارير بلومبرغ في 16 أكتوبر الماضي بأن الولاياتالمتحدة قدمت معلومات حول أنشطة متمردي حركة «M23» لكل من الكونغو الديمقراطية ورواندا، منذ زيارة مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية أفريلهاينز في نوفمبر 2023. وطلبت أمريكا مقابل هذه المعلومات التزام البلدين بوقف إطلاق النار في الكونغوالشرقية، في خطوة تبرز كيفية توظيف المعلومات الاستخباراتية كأداة دبلوماسية قوية. ◄ معلومات مفتوحة المصدر ووفقاً للمركز الأمريكي، لعبت دبلوماسية الاستخبارات دوراً بارزاً في الحرب الروسية الأوكرانية، إذ كشفت المعلومات التي رفعت عنها إدارة بايدن السِّرية بعض خطط موسكو تجاه كييف، ما أسهم في استعادة الثقة الأوروبية في الاستخبارات الأمريكية، ومن ثم تسهيل مهمة واشنطن في تنسيق الدعم الغربي لكييف. كما وفرت «الإفصاحات» معلومات استخباراتية مفتوحة المصدر، مثل صور الأقمار الصناعية التجارية، ما سمح للولايات المتحدة بنشر تقييمات دون المساس بسِرية المصادر والأساليب. ومع تزايد حجم المعلومات المفتوحة، فإن هذه السياسة يمكن تكرارها متى ما توافرت الرغبة السياسية لذلك، حسب المركز الأمريكي. اقرأ أيضا| «ذا أتلانتك» تحاور من تنبأ بقدرة ترامب على اختراق «الأصوات الملونة» بالتزامن مع هذه الإفصاحات، توسع قادة الاستخبارات الأمريكية في الظهور والتصريحات العلنية، وأصبحوا أكثر تفاعلاً مع وسائل الإعلام بهدف التأثير على الرأي العام وسلوك الدول الأجنبية، حتى وإن لم يتم ذلك من خلال الكشف الرسمي عن الأسرار. ◄ استراتيجية «الاستخبارات أولاً» ويسلط المركز الأمريكي الضوء على ظاهرة استخدام كبار المسؤولين الاستخباراتيين، بدلاً من الدبلوماسيين، لقيادة المناقشات الحساسة، ووصفها بالامتداد الطبيعي لاستراتيجية «الاستخبارات أولاً» التي تتبعها إدارة بايدن. ويُعد ويليام بيرنز، مدير وكالة الاستخبارات المركزية «CIA»، المثال الأبرز على ذلك، حيث يتمتع بخبرة دبلوماسية واسعة تجعله الشخص المثالي للقيام بمثل هذه المهام. على سبيل المثال، كان بيرنز نقطة الاتصال الأساسية لإدارة بايدن في محادثات وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس، حيث سافر إلى المنطقة عدة مرات في العام الماضي. كما أرسله بايدن في نوفمبر 2021 إلى موسكو لإبلاغ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعلم الولاياتالمتحدة بنواياه تجاه أوكرانيا. بالإضافة إلى ذلك، سافر بيرنز إلى العاصمة الأفغانية كابول في أبريل وأغسطس 2021 للقاء أحد قادة طالبان الأفغان، ثم إلى بكين في مايو 2023 للقاء قادة الاستخبارات الصينيين. ويُسهم استخدام بيرنز وغيره من كبار المسؤولين الاستخباراتيين في تجاوز النقاشات السياسية «المحرجة» التي قد تنشأ من إرسال دبلوماسيين كبار للقاء مجموعات لا تعترف بها الولاياتالمتحدة، مثل طالبان، أو التعامل مع الصين في وقت يشهد فيه التوجه الحزبي الأمريكي تشدداً تجاه أي تفاعل يبدو مهادناً مع بكين. علاوة على ذلك، رغم التنافس في بعض الحالات والعداوة بين الولاياتالمتحدة وبعض الحكومات الأجنبية، تبقى قنوات الاستخبارات مفتوحة عادة للتواصل، كونها تعتبر أقل تأثراً بالسياسة وأكثر سِرية، حسب المركز الأمريكي. ◄ متى تتجاوز المخاطر الفوائد؟ رغم الفوائد المحتملة للدبلوماسية الاستخباراتية، إلا أن هناك أيضاً مخاطر كبيرة مرتبطة بها، أبرزها أن المعلومات المفصح عنها قد تكون خاطئة. ففي كل مرة تقوم فيها الولاياتالمتحدة بالكشف عن معلومات، فإنها تعتمد على أن التحليل الاستخباراتي دقيق. علماً بأن فرص الخطأ واردة، ما يعني أن الدبلوماسية الاستخباراتية ستظل دائماً تحمل خطر نشر معلومات غير صحيحة ما يعمل على تقويض الثقة في هذه الاستراتيجية.