فى رحلته الطويلة والحافلة بالفعل الثقافى استطاع معرض القاهرة الدولى للكتاب تثبيت مكانته فى مجال النشر والعمل الثقافى وذلك استنادًا على زخم مرتكز على ثراء ومرونة الثقافة المصرية فى خلق حوار مع الثقافات الأخرى. منذ دورته الأولى التى حملت بصمة مشتركة لثروت عكاشة وسهير القلماوى على أرض الجزيرة فى العام 1969 راكم المعرض تاريخًا وخبرات حولته إلى مقصد ثقافى وسياحي. فى دورات السنوات القليلة السابقة جرت تحولات على معرض القاهرة أبرزها الانتقال من أرض المعارض بمدينة نصر إلى مركز مصر للمؤتمرات بالتجمع وما صاحب ذلك من تخوفات من فقده جمهوره بسبب بُعد مقره الجديد، لكن الجمهور كان وفيًا للتظاهرة مؤثرًا الاحتفاظ بها كاحتفالية وطنية، نشاط يكاد يكون الوحيد الذى تشارك فيه مختلف أطياف المجتمع بفاعلية. لكن هذه الحالة الإيجابية ليست قادرة وحدها على مواجهة تأثير التحولات الاقتصادية على المعرض، فباعتبار أن بطله الأول هو الكتاب فإن الزيادات الكبيرة فى أسعاره تصبح عاملًا مهددًا له كما لصناعة النشر بشكل عام. لذلك يكتسب إعلان د. أحمد فؤاد هنو، وزير الثقافة، قبل أيام عن تخفيضات خاصة لأسعار إيجارات أجنحة الناشرين المصريين المشاركين فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، وبدورته ال56، المقرر إقامتها نهاية يناير 2025، أهمية خاصة يعبر عنها الإعلان نفسه بالتأكيد على أنها: «خطوة تعكس مدى اهتمام الدولة المصرية بدعم صناعة النشر، من خلال معرض القاهرة الدولى للكتاب». لم يوضح الإعلان الوزارى حجم التخفيضات الخاصة المشار إليها، سنكون فى حاجة فيما بعد للعودة إلى الأرقام عند الإفصاح عنها لبيان مدى مساهمتها فى اقتصاديات هذا السوق سواء من خلال معرض الكتاب أو فيما يليه انطلاقًا من كون سياسات البيع التى يٌستقر عليها خلال أيام انعقاده والصفقات بين الناشرين تحدد إلى حد بعيد موازين سوق النشر التى تتحدد آلياته بالطبع بتداخل عوامل عدة مختلفة والمعرض أحد الأسس فيها. وعلى الرغم من أن تصريحات الوزير لم تعلن أرقامًا ما إلا أنها أشارت إلى تفاصيل أخرى بشكل أكثر دقة منها «أن التخفيضات شملت جميع شرائح الناشرين بشكل عام، والشرائح الأولى للناشرين بشكل خاص». هذا يجعلنا نضع افتراضًا أن كتب دور النشر العربية التى تشمل أحدث الترجمات والأعمال فى مختلف التخصصات، والتى ينتظر القارئ المصرى فرصة أيام المعرض للحصول عليها، ستكون فى المتناول لأن الدورة الماضية تحديدًا مثلت عند غالبية القراء ذروة فى الأسعار لا يمكن التعامل معها، الميزانية التى كانت تكفى لشراء عشرة كتب لم تعد تكفى لكتابين على الأكثر. غير أن الأمر الأكثر إيجابية فى القرارات الأخيرة ذلك المتعلق بدعم «الناشرين المحليين» وذلك عبر «تخصيص جناح مجانى بمساحة 45 متراً لاتحاد الناشرين يشارك فيه دور النشر الناشئة وخاصة فى الشرائح الثلاث الأولى، مما يمنحهم فرصة أوسع للوصول إلى جمهور أكبر، وتقديم إصداراتهم بأسعار مناسبة..». كيف سيختار اتحاد الناشرين الناشرين المشاركين فى هذه المساحة المجانية؟ لا بد من وضع آليات واضحة وعادلة للاختيار، إنما وفى كل الأحوال فالقرار يستحق الإشادة لأنه يعنى أن ثمة عقلية تعمل على دراسة الأوضاع الثقافية المحلية ومكامن القوة والضعف فيها، وهو قرار يعنى انتباه الدولة إلى الكتاب المصرى والنظر إليه وفق الدور الحضارى العظيم الذى قدمه للمنطقة العربية بأكملها، أو إن استخدمنا التعبير الوزاري، فالكتاب المصري: «يحمل رسالة حضارية تسعى الدولة لترسيخها إقليمياً ودوليًا لتعزز مكانة مصر كمركز إشعاع ثقافى يثرى العالم بالفكر والمعرفة». لكن إلى جانب الترحيب بالقرارات سيبقى السؤال إن كانت ال «45 مترا» كافية لإنعاش صناعة الكتاب المصرى ذلك أن السنوات الأخيرة كانت ثقيلة الوطأة على صناعة النشر فى مصر، الزيادة الكبيرة فى مستلزمات الطباعة والأولويات الاقتصادية للمواطن أثرت سلبًا وفى الوقت نفسه فالمراكز الثقافية المحيطة وبخاصة الخليجية لديها من الطموح والقدرة الاقتصادية ما يمكنها من التقدم خطوات. لا شك فى أن صناعة النشر لم تعد مركزًا واحدًا بل تتفرق على أكثر من جهة متنافسة، وهذا من الأمور المحمودة باعتباره يصب فى صالح الفعل الحضارى بشكل عام فى المنطقة العربية لكن من المفهوم أيضًا أن سلم الأولويات يختلف من دولة إلى أخرى وفى هذا الزمن تحديدًا فإن أى مجتمع فى حاجة إلى صياغة مشروعه عبر فعلى الكتابة والقراءة الخاضعين لرؤاه وهمومه. الثابت أنه فى فترة التسعينيات أن من ساهم بالجهد الأكبر فى صياغة مشروع نشر مصرى طموح كانت دور نشر «ناشئة» (إن اعتمدنا التوصيف الوارد فى إعلان الوزير) باقتصاديات متوسطة فى أحسن الظروف، وصغيرة فى معظم الأحيان، والثابت أن تلك الدور كانت السند لجيل مختلف ظهر فى الثقافة المصرية فى تخصصات وحقول متنوعة من الإبداع والنقد والدراسات وغير ذلك، لكن ولأسباب كثيرة، لم تكتمل التجربة، وأصبحت صناعة النشر فى مصر عملية غير مضمونة النتائج خاصة لدور النشر التى تعتمد معايير جادة تلتزم بالاتفاقات والقوانين. وربما تمهد القرارات الوزارية الأرض نحو مزيد من الإجراءات والتفاهمات لنشهد قيام تجربة نشر مصرية جديدة مبنية على مشروعات وأفكار جادة بخلاف الساعية إلى ربح سريع عبر الخفة! إعلان الوزير كان حريصًا على التأكيد أن الدعم المقدم من الدولة لصناعة النشر عبر القرارات المشار إليها: «ليس مجرد رعاية لقطاع اقتصادي، بل هو استثمار فى نشر فكر مستنير ينقل للعالم عمق الإرث الثقافى المصرى وريادته، عبر مساندة الناشرين وتيسير مشاركتهم فى الفعاليات الثقافية» ووفق هذا الفهم نأمل أن نرى تحركًا موازيًا فى البرنامج المهنى لمعرض القاهرة للكتاب فى دورته ال56 بحيث ينتج عنه تعاقدات وبيع حقوق، إضافة إلى إيجاد حلول تخص قضايا ملحة مثل الملكية الفكرية، حقوق المؤلف، العمل على تحجيم سوق قرصنة الكتب، فهذه وغيرها من قضايا تؤثر بصورة واضحة على صناعة النشر بحيث يمكن القول إن أى إجراءات لن يكون بقدرتها مساعدة تلك الصناعة على التعافى والتنامى ما لم يتم اتخاذ إجراءات عملية تجاهها. من المهم كذلك الإشارة إلى أنه وبما يحظى به معرض القاهرة الدولى للكتاب من إقبال إقليمى ودولى فإنه يمثل فرصة للناشرين والكتاب على حد سواء لكن الفرصة لم يتم استغلالها أبدًا على النحو الأمثل خلال الدورات السابقة، ذلك أن التفكير ينصب على إدارة المعرض جماهيريًا على حساب كونه معرضًا تخصصيًا أيضًا، ومع الطموح الحالى فى «تعزيز مكانة مصر كمركز إشعاع ثقافى يثرى العالم بالفكر والمعرفة» وهى الرغبة التى قادت قرارات الدولة الأخيرة فإنه من الضرورى تكامل العناصر جميعها عبر تقديم المنح والحوافز لدور النشر والوكلاء التجاريين لترجمة الأدب المصرى وهو الدور الذى بات أساسيًا فى مراكز محيطة تمكنت به من تقديم ثقافتها بوصفها عنصرًا تاريخيًا مؤثرًا.