د. إنجى أبو الخير كيف لنا أن نحيى ذكرى الأديب جمال الغيطانى فى عقر داره؟ كيف لنا أن نتناول سيرته ومشروعه الأدبى الضخم فى هذا الصرح الثقافى الذى قامت قاعدته التأسيسية على كتفيه؟ اسمح لى عزيزى القارىء أن أتناول سيرة الغيطانى بعين الباحث. فقد تعرضت لمسيرة الغيطانى الأدبية أثناء تحضيرى لرسالة العالمية من منظور باحثة فى الأدب المقارن. من أجل ذلك إلتقطتُ مسار رحلة البحث من بداية الطريق: صعيدى المولد، قاهرى المنشأ، بدأ حياته العلمية والعملية كدارس ومتخصص فى تصميم السجاد العربي. هنا كانت شرارة الإنطلاق. مثلما ينسق نساج السجاد بين الألوان ووحدات لوحته الفنية من الخيوط، يقوم باحث الأدب المقارن بنسج لوحته البحثية بين مختلف ألوان الكتابة وبين الأدباء بمختلف لغاتهم. من هذا المنطلق، اتجه منظورى إلى البحث عن جمال الغيطانى فى عالم الأدب الفرنسي، حيث توالت المفاجآت. يحكى أنه فى يوم من أيام ثمانينيات القرن العشرين، وإذ كان الأستاذ الكبير مصطفى أمين يجول شوارع العاصمة الفرنسية باريس، مدينة الأنوار، وجد رواية مصرية مترجمة إلى اللغة الفرنسية تباع فى المكتبات لكاتب شاب اسمه جمال الغيطاني. فأوصى على الفور أن تقوم جريدته العريقة، أخبار اليوم، بنشر تلك الرواية فى لغتها الأصلية. كان جمال الغيطانى حينئذ لم يتمم بعد عامه الأربعين. تمت ترجمة رواية الزينى بركات إلى اللغة الفرنسية ومن ثم نشرها وتوزيعها من قبل واحدة من أكبر دور النشر الفرنسية إلى يومنا هذا، وهى دار «سُويّ»، (Seuil). ولمن لا يعلم، فهذه الدار لا تهدف إلا إلى القيمة الأدبية حيث الإمتاع ومن ثم حجم البيع والتوزيع. مما يسمح لنا بالقول، بأن هذه الدار لا يعنيها أمر الإستشراق واستكشاف الآخر، عكس دور نشر فرنسية آخرى مثل «لا بيبليوتاك أراب»، على سبيل المثال. أما عن «الزينى بركات»، فقد صدرت فى لغتها العربية فى منتصف سبيعنيات القرن العشرين، وتحدد المصادر أنها نشرت فى عام 1974. ولذكر هذا التاريخ أهمية كبيرة، خاصة إذا ما انتبهنا لقول واحد من أهم الأدباء والنقاد الفرنسيين ألا وهو «روبير سوليه» (مصرى المولد، فرنسى الجنسية واللغة). ويقول سوليه عند ذكر تأثر جمال الغيطانى بأبيه الروحي، نجيب محفوظ صاحب نوبل فى الأدب 1988، إن هذا المريد (الغيطاني) تفوق على شيخه، بل إن نجيب محفوظ هو من استلهم من الزينى بركات، رائعته الخالدة «ملحمة الحرافيش»، الصادرة فى عام 1977، أى بعد صدور الزينى بركات (1974). (انتهى كلام روبير سوليه). كانت تلك الرواية «الزينى بركات» أول ما تمت ترجمته للغيطانى إلى اللغة الفرنسية وكان ذلك فى عام 1985، كما ذكرنا. وبرغم أن روايات العملاق نجيب محفوظ قد سبقت ترجمتها إلى الفرنسية قبل ذلك التاريخ ببضع وعشر سنوات، إلا أن عالم الأدب العربى قد احتفى بترجمة «الزينى بركات» لأنها كانت الأولى التى تتم ترجمتها ونشرها بمنظور أدبى بحت ودعنى أقول تجاري، أى خارج دور النشر المتخصصة فى الأدب العربي، بين قوسين الإستشراقي. ومنذ ذلك التاريخ، اختلفت نظرة الأدب الغربى (الفرنسي) إلى الروايات العربية. ناهيك عن البنيان الروائى نفسه الذى يختلف كل الإختلاف بين الأديبين الكبيرين. فمما لسنا فى حاجة إلى ذكره، أن نجيب محفوظ يرتكز على قواعد الرواية الغربية للقرن التاسع عشر، فإن جمال الغيطانى يعود ليلتقم ثدى الرواية العربية المتمثل فى ألف ليلة وليلة، حتى أنه أبدع «الزينى بركات» مستلهمًا ريشة ابن إياس المؤرخ المصرى ابن القرن السادس عشر، فى أسلوب كتابة بل ولفظة مصرية أصيلة، وضع خطًا تحت مصرية. من أجل ذلك وأكثر، كان الإحتفاء بصدور رواية «الزينى بركات» مترجمة إلى الفرنسية، لمصريتها شكلًا وتكوينًا ولغةً تراثية. وهكذا صارت الرواية فاتحة خير على الأدب العربى بل وصار اسم «الزينى بركات» كنية يُلقب بها جمال الغيطاني. وأرى فى ذلك ظلمًا وجورًا لا يأتى به إلا من لم يقرأ تلك الرواية. ذلك اسم لشخصية قاسية حقيقية ذكرها ابن إياس فى حولياته. الزينى بركات هو البصاص، محتسب القاهرة، الظالم الطاغي، حاكم القاهرة فى نهاية عصر المماليك، الخائن لوطنه الموالى للمحتل العثماني، الآكل على كل الموائد الذى نجح فى القفز على الفرص والتسلق بتملق المحتل ليحفظ مركزه فى الدولة الجديدة. أما من قرأ الرواية، فسيكتشف من تلقاء نفسه من هو جمال الغيطاني. وهو تلك الشخصية الخيالية الجميلة التى أعطاها الغيطانى جزءًا من روحه، هو «سعيد الجهيني»، الشاب النقى مرافق العلماء طالب الأزهر الشريف، الثائر ضد الزينى بركات، المقاوم للفساد والإحتلال، الذى لقبه كاتب الرواية ب»الجهيني»، حيث لا يخفى على محبى جمال الغيطانى أنه مولود فى قرية «جهينة» بمحافظة سوهاج بصعيد مصر. وتوالت ترجمة رويات جمال الغيطانى إلى الفرنسية، حتى حاز على جائزة «لور-باتايون» الفرنسية عن روايته العظيمة «كتاب التجليات» وكذلك مترجمها خالد عثمان (مصرى المولد، فرنسى الجنسية)، تكريمًا للنص العربى وترجمته إلى الفرنسية مناصفةً. وهكذا أضحى جمال الغيطانى اسمًا يبحث القارىء الفرنسى عنه، حبًا فى أدبه. حتى أنه حاز على وسام رفيع من درجة فارس فى الفنون والأدب من الجمهورية الفرنسية، وهو وليد الصعيد، ابن الجمالية، الذى لا يتحدث الفرنسية وإن كان يفهمها. كان هذا مُدخلى إلى عالم جمال الغيطاني. فبرغم غوصه فى التراث العربى والمصرى بوجه خاص، إلا أنه وصل إلى عالم الأدب العالمى من بوابات القاهرة. فمما لا شك فيه أن كان ذلك حاصل نشأته فى حى الجمالية على أعتاب مقام الإمام الحسين وبين أوراق الكتب القديمة فى أكشاك الباعة على سور مسجد الأزهر. وإذا جاز القول بأن السؤال الذى شغل بال الغيطانى وأسر قلمه بحثًا عنه وفيه، هو سؤال الزمن، فسنرى فى إنتاجه الأدبى أجوبة على أسئلة شتى أتت من خلال رحلة بحثه، أهمها من وجهة نظري، «سؤال الهوية». لم يفارقه السؤال: «من أتى هنا قبلي؟ ومن سيأتى بعدي؟» سؤال مرتبط بفكرة الزمن ولكنه ينطوى فى نخاعه على سؤال الهوية. لم يدخر جمال الغيطانى جهدًا فى دراسة الزمن وما يحدثه على الحجر والبشر. ولم يكل فى البحث عن نفسه عبر الزمان والمكان. ومن تلك النقطة، ذهب الغيطانى إلى دراسة القاهرة التاريخية دراسة متعمقة، ومن ثم انطلق إلى دراسة مصر كلها، من الإسكندرية إلى صعيد مصر. غاص فى تاريخها بحثًا عن جذور تلك الأمة فى مصر القديمة. لم يغفل عنصرًا من عناصر الشخصية المصرية. تراه يصور لك وطنه بصورة خماسية الأبعاد، حيث يصف المكان، مرتبطًا بروائحه، ويجعلك تتذوق أهم الوجبات المصرية، شارحًا لك أصلها وتكوينها وكيفية طهيها يل ويُطعّمها بفلسفته الخاصة وتأملاته الشخصية. سيجعلك تسمع أصوات مصر بدءًا من الآذان وصولًا للترانيم القبطية وعلاقتها بمصر القديمة. سيأخذ بيدك لتلمس أحجار الأهرامات وحلق باب مسجد السلطان حسن. إن قرأت أدب الغيطانى فستتلمس هوية مصر بحواسك الخمس، بذلك يقدم صورته خماسية الأبعاد. بذلك يبحث الخيطانى عن الهوية المصرية. ولم يغفل العنصر البشرى الذى يبث الروح فى ذلك الزمان وتلك الأمكنة. فتناول الإنسان المصرى البسيط فى الغيط والمصنع، فى السلام والحرب. ستجد كل رواياته التى كتبها على خلفية تغطيته العسكرية للمعارك المصرية أثناء فترة الإستنزاف والعبور، تحفل بقصص البسطاء؛ ناهيك عن رواية «رفاعي» التى تناول فيها ملحمات الشهيد بطل الصاعقة المصرية «إبراهيم الرفاعي»، وذلك على سبيل المثال. فكثير من رواياته حافلة بشخصيات مصرية عظيمة. هو كاتب مذكرات أستاذه نجيب محفوظ فى «محفوظ يتذكر» وكذلك «الحكيم يتذكر» عن توفيق الحكيم، وأخيرًا «مصطفى أمين يتذكر» ؛ فمن سيكتب «الغيطانى يتذكر»؟ فى محاولة منه أن يقاوم أثر الزمن على سيرته، حفر الغيطانى اسمه على جدران تاريخ مصر وسيرة الشخصية المصرية. وكم أتمنى أن تعيد «قناة النيل الثقافية» إذاعة الوثائقى الذى انتجته عن الغيطانى تحت عنوان «حفر على الزمان»، إذ يتعثر على الباحث أن يجده على مواقع الشبكة العنكبوتية. وكأن الغيطانى كان يستشرف مستقبله الأدبى حين أطلق على أول مجموعة قصصية تنشر له عنوان «أوراق شاب عاش منذ ألف عام». إذ تخطى عمر القاهرة الألف عام وإذ ارتبطت كتابات الغيطانى بالقاهرة ومن ثم مصر، فسيحيى الغيطانى بأعماله ما دام وطنه حى ينبض. واستغراقًا فى حب مصر، صار يعقد مقارنات غير إرادية بينها وبين حضارات أخرى، مثل الصينية على سبيل المثال فى روايته البديعة، «رن». فانطلق إلى سائر البلاد والحضارات قائلًا «الإنسانية كلها ملكي»! أما عن أصالة الهوية المصرية وتجدد شخصيتها من منظور جمال الغيطاني، فلذلك حديث آخر يطول. علّ الزمان يسمح لنا بتناولها فى سياقٍ آخر. وفى النهاية، لم أستطع ولن أستطيع أن أقوم بتعريف جمال الغيطانى كما يستحق. فلنترك له تعريف نفسه، من خلال مقدمة من محاضرة ألقاها بنفسه فى جامعة شيكاغو الأمريكية التى دعته قرب نهاية مسعاه كأستاذ زائر، جالسًا على مقعد هنرى بريستد: « أنا جيوفانى دروجو! أنا كاف فى قضية كافكا! أنا إيفان كرامازوف! أنا أحد الرهبان، أى راهب فى لعبة الكريات الزجاجية لهرمان هيسه! أنا السابح فى مجرة مولانا الشيخ الأكبر، محى الدين ابن عربي. أمضيت أيامًا بمرقده الدمشقي، لعلى أحظى. أنا الموله شعرًا بمولانا جلال الدين الرومي. زرته فى قونيا وحضرت ذكراه وانتشيت بموسيقى المولوية. أنا من يسعى فى أثر التوحيدي، أحاول التعريف بإشاراته الإلهية. كلانا يخرج من الدنيا بالتعبير عن معاناة المخلوق فى رحلته الدنيوية. أنا السندباد التواق دائمًا إلى الرحيل. أنا سطور التاوِ. أنا العلاقة ما بين الفراغ والامتلاء، ما بين الظل والأصل. أنا الجسر فوق نهر درينا لإيفو أندريتش الذى أنقذه من النسيان. أنا الموله بالقائل فى مصر القديمة «بالأمس اتممت حياتي، واليوم أخرج إلى النهار». أنا من لم يستطع الإمساك بالحياة، فراح يحكيها، راح يطويها، لعله يدرك بعضًا مما أدركناه، يدرك بعضًا ممن لم يولدوا بعد».