span style="font-family:"Arial","sans-serif""أمام مقبرة صغيرة كتب على جدارها الآية الكريمة ( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ) span style="font-family:"Arial","sans-serif""وقف عبد الجواد في خشوع يقرأ الفاتحة، اعتاد زيارة المقبرة كلما سنحت ظروفه، منذ سنوات دفنت هنا أطرافه المبتورة، وأوصى في وصيته لأبنائه أن يدفن معها بعد موته، حتى يبعث مكتملا كما يظن لا يتصور أن يكون له قبران يحوي كل منهما جزءً منه، إن أجزاءه تحن إلى بعضها وتشتاق إلى أن تجتمع . span style="font-family:"Arial","sans-serif""في تأثر بالغ يحدث نفسه، هذا الميت الذي أزوره أنا، والحي الزائر أنا، يا لها من مفارقة عجيبة! لقد استشهد بعضي في معركة الكرامة والذود عن حمى الوطن ونال شرف الشهادة وبقى بعضي حيا يرزق، فأنا الشهيد الحي span style="font-family:"Arial","sans-serif""انهمرت العبرات من عينيه، وتدفقت الذكريات بلا توقف. span style="font-family:"Arial","sans-serif"" على مقعد حجري قبالة المقبرة جلس ساهما، آه كم كان وداعا حارا حين وقفت أقبل أبنائي وزوجي وأبويّ، طالبا منهم الدعاء لي بالتوفيق والثبات موصيا إياهم بالصبر على الفراق. كنت أشعر أنني ذاهب بلا عودة وأنه الوداع الأخير . span style="font-family:"Arial","sans-serif""لم أنس كلمات أبي وهو يوصيني ويشد على يدي: لا تخف يا عبد الجواد، كن شجاعا يا بنيّ تفز بإحدى الحسنيين، إياك أن تقصر في واجبك الوطني! ولا يزال صوت أبي يرن في أذني ويتردد صداه في أعماقي . span style="font-family:"Arial","sans-serif"" حان وقت العودة إلى وحدتي خرجت مرتديا حلتي العسكرية متجها إلى حيث يلتقي الزملاء في انتظار قدوم الحافلة التي ستقلنا إلى موقعنا . span style="font-family:"Arial","sans-serif""قفزنا داخلها وانطلقت بنا، رحنا نتبادل التحية والحديث عن أحوالنا . span style="font-family:"Arial","sans-serif""أعوام عصيبة مضت قضيناها معا في مرمى النيران على خط المواجهة مع العدو، استشهد الكثير من زملائنا أمام أعيننا، وكدت أقضي نحبي أكثر من مرة، لكن الله سلم، وظللنا صامدين عازمين على مواصلة الجهاد مهما كان الثمن وطرد هذا العدو المتغطرس . span style="font-family:"Arial","sans-serif"" كان التراشق واستهداف العدو يوميا على خط القناة وهو ما عرف بحرب span style="font-family:"Arial","sans-serif""الاستنزاف التي أرقت مضاجع العدو، وألحقت به الخسائر الجسيمة، غير أن العدو كان يستهدف الأطفال والمدنيين في وحشية خسيسة، مما اضطر المسئولين إلى أخلاء مدن القناة من السكان وتوزيعهم على المحافظات، واستخدمت المدارس والأندية والمباني الحكومية المهجورة نزلا لهم، وعانوا ظروفا معيشية صعبة، نتج عنها مآسي إنسانية كثيرة . span style="font-family:"Arial","sans-serif"" تحمل سكان مدن القناة العبء الأكبر من التضحيات لوجودهم على خط المواجهة، وإن كانت مصر كلها عانت ويلات الحرب ودفعت الثمن باهظا. span style="font-family:"Arial","sans-serif""1 span style="font-family:"Arial","sans-serif"" رغم هذا ظلت الروح المعنوية عالية لم تهزم ولم ترض إلاّ بالثأر، لذا كان الاستعداد على أشده، لاستعادة الحق الضائع، لم نعد نطيق الانتظار . span style="font-family:"Arial","sans-serif""كنت أنظر من نافذة الحافلة متأملا أرض مصر بحقولها الخضراء ونخيلها الباسق تتخللها جداول الماء من روافد النيل العظيم. صدق هيرودوت حين قال: إن مصر هبة النيل، وها قد تجاوزنا الوادي وأشرفنا علي حدود الصحراء الشاسعة التي كانت مسرحا للسجال مع المعتدين، وكانت مصر عبر تاريخها مقبرة للغزاة، آه يا مصر يا بلادي الغالية، أرواحنا فداؤك يا أصل الحضارة، يا مهد التاريخ، ويا ملجأ الأنبياء والصالحين! span style="font-family:"Arial","sans-serif""انتبهت على صوت السائق معلنا الوصول إلى موقع وحدتنا العسكرية. نزلنا جميعا، يسود الشعور بأن ساعة الحسم قد اقتربت، التدريبات لا تتوقف، صدرت الأوامر بمنع الأجازات ورفع حالة الاستعداد القصوى. أخيرا صدرت الأوامر بالعبور وبدأت الملحمة، كان القرار مدروسا وصائبا والتوقيت مناسبا، في ست ساعات فقط انهار خط بارليف الرهيب تحت خراطيم المياه التي جرفت أكوام الرمال الكثيفة فظهرت أسفلها الدشم الحصينة التي ابتناها العدو متوهما أنها تمنعه وتحميه إلى الأبد span style="font-family:"Arial","sans-serif""بينما كانت القوارب تعبر حاملة الجنود الأبطال إلى الشاطئ الشرقي للقناة تحت مظلة من الطائرات التي أمطرت العدو بوابل من النيران أفقده توازنه وانتهت أسطورة الجيش الذي لا يقهر، ورفع العلم المصري يرفرف حرا عزيزا فوق تحصينات العدو المدمرة، وصدق الله وعده وأعز جنده. span style="font-family:"Arial","sans-serif""كانت مهمتي وبعض رفاقي هي التسلل خلف خطوط العدو في جوف الصحراء، لإبطال مواقع الصواريخ التي تستهدف جنودنا، وبعد أن أدينا مهمتنا بنجاح رصدتنا طائرات العدو أثناء عودتنا وقذفتنا بالقنابل، تصدينا لها وأسقطنا عددا منها . span style="font-family:"Arial","sans-serif""ظللنا نقاتل حتى نفد ما معنا من ذخيرة، فتمكن العدو من حصارنا في منطقة تسمى كبريت. نفد الماء والغذاء وكانت محنة عصيبة ، فقمنا بالحفر span style="font-family:"Arial","sans-serif""في الأرض علنا نجد الماء، وكانت معاناة شديدة، نال منا العطش وظهر علينا الإعياء، واعتقدنا أننا هالكون لا محالة، وبعد جهد ومشقة ظهر الماء span style="font-family:"Arial","sans-serif"" فكبرنا وهللنا وعاودنا الأمل في النجاة. شربنا وملأنا ما معنا من أوعية . span style="font-family:"Arial","sans-serif""مرت أيام وأسابيع ونحن نفكر في طريقة للخلاص والفكاك من الحصار واكتشفنا طريقا ملتويا فتسللنا منه، span style="font-family:"Arial","sans-serif""انتبه العدو لهروبنا، فظلت طائراته تجوب الصحراء بحثا عنا، كنا نتخفى نهارا ونتابع السير ليلا، وكنت أسير خلف الفريق تفصلني عنه عشرات الأميال كنوع من التمويه، على أن نلتقي في موقع محدد. span style="font-family:"Arial","sans-serif"" الطائرات تقصف كل هدف متحرك، أصابتني قذيفة، فقدت على أثرها الوعي ورحت في غيبوبة طويلة، ويبدو أن الأعداء اعتقدوا أنني هلكت فتر كوني ومضوا، فتحت عينّي في وهن شديد ونظرت حولي فرأيت أشلاء ممزقة وأطرافا آدمية، فاعتقدت أنها جثث زملائي وأننا قتلنا جميعا، تحسست ساقيّ فلم أجدها وغرقت يداي span style="font-family:"Arial","sans-serif""بالدماء، ظللت أردد الشهادتين وأنا لا أدرى إن كنت من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة span style="font-family:"Arial","sans-serif""2 span style="font-family:"Arial","sans-serif"" كنت كمن في سكرة الموت أو كمريض مخدر في غرفة العمليات. أغمضت عينيّ واستسلمت للموت. بعد فترة سمعت زملائي يتساءلون: أين ذهب عبد الجواد؟ أين أنت يا عبد الجواد؟ span style="font-family:"Arial","sans-serif""كنت أسمعهم ولم أستطع الإجابة ورأيتهم يتجهون نحوي ويتحسسون نبضي ويهمسون: إنه لا يزال حيا، حملني أحدهم على كتفه وجمع آخر الأجزاء المبتورة في جوال وحملها وساروا علي الرمال عشرات الأميال وهم يتبادلون حملي وحمل أشلائي . span style="font-family:"Arial","sans-serif""وعرفت فيما بعد أن الرفاق افتقدوني بعد أن طال تأخري، فعادوا أدراجهم إلى الخلف للبحث عني . span style="font-family:"Arial","sans-serif""أخيرا وصلنا إلى أقرب وحدة إسعاف ورأى الأطباء أن إنقاذ حياتي ميئوس منه ويحتاج إلى معجزة إلهية ومع ذلك بذلوا غاية جهدهم لإسعافي، وتم نقلي لمستشفي كبير لإجراء جراحات دقيقة تناسب إصاباتي الخطيرة، وتناثرت إلى سمعي همسات الأطباء: ليس أمام المصاب سوى بضع ساعات ليلفظ أنفاسه الأخيرة، ويرد بعضهم علينا أن نحاول مهما كان الأمل ضعيفا. span style="font-family:"Arial","sans-serif""نجحت العمليات الجراحية التي استغرقت ساعات طويلة، ووهب الله لي عمرا جديدا، وتم دفن أجزائي المبتورة في أقرب مدفن . span style="font-family:"Arial","sans-serif""بعد أن تحسنت صحتي قليلا زارني الزعيم وأثنى على بطولتي وشجاعتي وسألني أن كنت أريد شيئا فقلت له: أذا قدر لي الشفاء أريد أن أعود إلى span style="font-family:"Arial","sans-serif""وحدتي للدفاع عن وطني، نظر الجميع إليّ في تعجب! وابتسم الزعيم قائلا: أنت مدرسة الوطنية والبطولة والمثل الأعلى في التضحية والفداء، إن شعبا أنجب مثلك لن يقهر أبدا. ودعني الزعيم وانصرف بعد أن أوصى بتوفير الأطراف الصناعية اللازمة لحالتي وكل سبل العلاج والراحة. span style="font-family:"Arial","sans-serif""بعد شهور تم شفائي وخرجت من المستشفى، لم أتجه إلى بيتي بل اتجهت إلى وحدتي راجيا قائدها السماح لي بالقيام بمهامي الجهادية في الحرب، في البداية عارض إشفاقا عليّ قائلا: أنت أديت واجبك ويكفي ما قدمت لوطنك من تضحيات. أمام إصراري وافق مضطرا أن يضمني إلى سلاحي . span style="font-family:"Arial","sans-serif""تبوأت موقعي في وحدتي، وعهد إليّ بمهمة التنشين التي أجيدها لإسقاط طائرات العدو المغيرة . كان بعضها هدفه القتال وبعضها هدفه التجسس . span style="font-family:"Arial","sans-serif"" تم إعداد المنصات وتجهيز الصواريخ، وقمت بضبطها وتحديد الأهداف وتوجيهها، وفوجئ زملائي وقائد الوحدة بأن عبد الجواد الذي يعيش بأطراف صناعية أسقط عددا من الطائرات وأسر من بقى حيا من قادتها بينما لاذت باقي الطائرات بالفرار . span style="font-family:"Arial","sans-serif""أقبل قائد الوحدة مهنئا وهو يهتف: عاش البطل لقد كللت مهمتك بالنجاح، وأديت واجبك المقدس، وثأرت لوطنك ولنفسك من المعتدين، وسوف يتم رجالنا البواسل مهمة تحرير الوطن بإذن الله، وتم تحرير الوطن، وكان انتصارا عظيما في السادس من أكتوبر1973 م، وأثبت الجيش المصري وجنوده الأبطال أنهم خير أجناد الأرض .