إلياس خورى كيف نقرأ كتاباً ونحن نعلم أنه لم يصل إلى نهايته بعد؟ نهاية القصة تفتح باب تأويلها وإعادة قراءتها فالنهاية هى البداية الثانية التى تلقى الضوء على المعنى. كيف نفهم قصة لا تزال فى طور الكتابة؟ هذه هى مشكلة الكتَّاب والدارسين مع النكبة الفلسطينية. فهم يقرأون ويعيدون القراءة، وبينما يقرأون وهم عازمون على كتابة القصة، يتحولون إلى جزء منها. هل كان غسان كنفانى راوية للقصة، أم كان بطل رواية لم تكتب أو ترو بعد؟ يتحول الكتاب إلى شخصيات أدبية، ويتحول الأبطال إلى كتَّاب، والحكاية مستمرة. حدثت حكايتى هذه فى مخيم شاتيلا منذ أربعين عاماً فى 16 أيلول/ سبتمبر 1983، ذهبت إلى مخيم شاتيلا للاشتراك فى الذكرى السنوية الأولى لضحايا المجزرة مشيت فى اتجاه المخيم تحت رذاذ بدايات الخريف كانت هذه هى المرة الأولى، منذ الغزو الإسرائيلى للمدينة، التى أشم فيها رائحة الأرض التى أيقظها المطر الأول. الحزن واليأس كانا يحاصراننى، فسقوط بيروت جعلنى أشعر بأننى صرت غريباً فى مدينتى. المقاومة والضغط الدولى أجبرا الجيش الإسرائيلى على الانسحاب، وتسلم ما تبقى من الجيش اللبنانى الأمن فى المدينة. والمفارقة أن الجيش اللبنانى كان بإمرة حكومة يقودها رئيس الجمهورية آنذاك أمين الجميل، وهو أحد قادة حزب الكتائب الذى ارتكبت «قواته اللبنانية» مجزرة شاتيلا بالاشتراك مع الجيش الإسرائيلى. ذهبت فى ذلك الصباح إلى المخيم متضامناً مع أحزان فلسطينيى الجليل الذين وقعوا ضحية مجزرة ذكرتهم بالمآسى فى قراهم التى طردوا منها بالقوة قبل أن يجرى تدميرها وجرفها فى سنة 1948. قرب مستديرة السفارة الكويتية بدأت أسمع أصواتاً غريبة آتية من المخيم. أصبت بالدهشة والعجز عن الفهم حين وجدت نفسى وسط مجموعة من النساء المتشحات بالسواد وهن يلوحن بالأعلام الفلسطينية ويزغردن. ماذا يجرى، ولمن تزغرد النساء؟ اعتقدت أننى أرى مناماً، وأن ما أشاهده ليس حقيقيا، اقتربت من امرأة وسألتها: «ماذا يجرى؟» «انتصرنا»، صرخت المرأة ماذا؟ سألت «صار عندنا مقبرة لأولادنا، أخيراً انتصرنا صاحت المرأة. تركتنى وحيداً لتلتحق بالجموع التى كانت تمشى فى اتجاه نهاية الشارع الرئيسى فى المخيم. مشيت معهن لأجد نفسى أمام أرض فارغة وخالية من أى إشارة تدل على هويتها، كانت تلك الأرض الخلاء هى المقبرة الجماعية التى دفن فيها 1500 ضحية، فى واحدة من أكثر مجازر النكبة رعباً ووحشية. لن أكتب الآن الحكاية الطويلة والمأساوية لهذه المقبرة التى تحولت إلى مكب للنفايات بعد احتلالها من طرف ميليشيات حركة أمل بدعم من الجيش السورى، خلال ما أطلق عليه اسم «حرب المخيمات» (1986)، وكيف قامت مجموعة من الناشطين اللبنانيين والفلسطينيين بتنظيفها كى تكون موقع بداية فعاليات الذكرى الخمسين للنكبة التى نظمها «مسرح بيروت» فى سنة 1998. ما حيرنى هو زغاريد النساء اللواتى استخدمت إحداهن تعبير «الانتصار» لوصف المقبرة. وكان علىَّ أن أنتظر تسعة أعوام كى أفهم دلالات هذه الكلمة. فخلال عملى على جمع حكايات النكبة من أجل بناء خلفيات رواية «باب الشمس»، فهمت وأنا أستمع إلى اللاجئات واللاجئين فى شاتيلا وغيره من المخيمات الفلسطينية، التروما التى أحدثها غياب المقابر فى حياة الذين عاشوا كارثة 1948. ففى تلك السنة تركت الجثث فى أزقة القرى أو فى العراء، لأن الناس كانوا غير قادرين على دفن قتلاهم تحت رصاص قوات الاحتلال وأوامرها الصارمة بضرورة المغادرة، وأيضاً بسبب قيام الجيش الاسرائيلى باختيار مجموعات من الشبان وأخذهم بعيداً حيث تم إعدامهم، بهدف خلق مناخ من الرعب فرض على الناس النزوح من قراهم. هذه التروما التى تعود فى جذورها إلى ذاكرة 1948، ستستيقظ فى سنة 1982، حين تركت جثث مئات الضحايا لتتعفن فى أزقة المخيم قبل أن يقوم الصليب الأحمر بإلقائها فى حفرة المقبرة الجماعية بعد رشها بالكلس والمبيدات. فى نصه المدهش : «أربع ساعات فى شاتيلا»، قدم الكاتب الفرنسى جان جينيه وصفاً لمشاهد ما بعد المجزرة بكلمات ذهبت إلى ما بعد الكلمات، باحثاً عن لغة ملائمة لتسمية الألم. غير أن الكاتب الفرنسى لم يستطع أن يرى فى الأجساد المرمية فى أزقة المخيم استحضاراً لمآسى 1948. هل نحن أمام ذاكرة ترفض النسيان، أم أمام حاضر صارت ذاكرته جزءاً من تجربته وحياته اليومية؟ هل بقايا المناضلات والمناضلين الفلسطينيين المدفونة فى مقابر الأرقام المهملة فى فلسطين مجرد ذاكرة؟ وكيف نقرأ حقيقة وجود 13 جثماناً لشهداء فلسطينيين محتجزة فى ثلاجات المشارح الإسرائيلية؟ هل نتكلم عن الماضى أم عن الحاضر؟ هل مجازر اللد والطنطورة وعين الزيتون.. مجرد ذكرى؟ وبأى عين نقرأ اليوم حوارة والشيخ جراح والأقصى وجنين ونابلس؟ هل الماضى حاضر؟ وكيف نضع حداً فاصلاً بين زمنين متداخلين؟ ولماذا يعود الماضى حين نروى حكايات الحاضر ولماذا نجد أنفسنا فى الحاضر حين نتذكر؟ فى هذه العلاقة المتشابكة بين الحاضر والماضى علينا أن نصوغ مفاهيم جديدة كى نستطيع أن نسمى الأشياء بأسمائها. فالنكبة الفلسطينية ليست ماضياً نتذكره، وإنما هى الكلمة التى تلخص الحياة تحت الاحتلال وفى مخيمات اللاجئين الفلسطينيين فى فلسطين والشتات العربى المجاور. عندما نتحدث عن النكبة فإننا لا نتذكر حدثاً جرى وانتهى فى سنة 1948، لكننا نشير إلى مسار طويل بدأ فى تلك السنة، وامتد بأشكال متنوعة ومتعرجة حتى اليوم. فالنكبة هى الآن أيضاً، وهى نكبة مستمرة. تاريخ هذه النكبة ليس خطياًِ، فقد شهد مراحل وانعطافات شتى، لكننا نستطيع أن نتحدث عن لحظات ذروة متعددة: «1948، 1967، 1982، 2002 ، 2023. تمثل هذه الذرى محطات كبرى، لكنها لا تخفى وقائع الحياة اليومية كمصادرة الأراضى التى لم تتوقف يوماً، وبناء الغيتوات فى المدن المحتلة، والحكم العسكرى، وتوسع الاستيطان الاستعمارى وهدم القرى «غير المعترف بها»، إلى ما لا آخر له. انبثق تعبير «النكبة المستمرة» فى مرحلتين. المرحلة الأولى خلال عملى الميدانى والبحثى من أجل كتابة روايتى: «باب الشمس» وثلاثية «أولاد الغيتو». فى «باب الشمس» فهمت إشكالية الصدمة والعار التى أخرست الضحية، ووجدت نفسى أخوض أمواجاً من الحكايات التى لم يسبق أن كتبت، كأننى كنت أعيد اكتشاف ما يعرفه الجميع ولا يعرفه أحد، فمن يعرف لم يكتب، ومن لا يعرف لم يبحث بما فيه الكفاية. كما فهمت بأن اللاجئين اكتشفوا بحدسهم وتجربتهم أن مآسيهم الراهنة هى امتداد لمآسى سنة 1984، بحيث لا يمكن الكلام عن إحداها بمعزل عن الآخرى. فالاجتياح الإسرائيلى للبنان فى سنة 1982 ومجزرة شاتيلا، جعلاهم يعيشون مآسى قرى الجليل فى سنة 1948 ومآسى بيروت فى سنة 1982. أما ثلاثية «أولاد الغيتو» فأخذتنى فى رحلة إلى حيوات الفلسطينيين داخل المناطق الفلسطينية التى احتلت منذ سنة 1948، وصار اسمها دولة إسرائيل. كما قادتنى هذه الثلاثية إلى مخيم جنين والمدينة القديمة فى نابلس حيث فهمت أن فظائع الاحتلال ليست سوى استمرار لفظائع حرب نكبة 1948. المرحلة الثانية كانت فى سنة 2010، خلال نقاش مع صديقى الكاتب والمخرج السينمائى السورى على أتاسى: فقد تمحور نقاشنا، على وأنا، حول شجاعة العمل الفكرى والسياسى الذى قام به المثقفون السوريون من خلال منتدياتهم وبياناتهم ضد الاستبداد، وهو عمل مهد الطريق لاندلاع الثورة الشعبية السورية ضد النظام فى سنة 2011. وخلال محاولتنا فهم لماذا لم تجد المعارضة السورية الصدى الذى تستحقه فى الأوساط الثقافية العربية، سألنى صديقى: لماذا تحتل فلسطين هذا الموقع المتميز فى الضمير العربى؟ حيرنى هذا السؤال، لأن الأجوبة التقليدية، كأن نعيد الأمر إلى الهوية القومية العربية الجامعة، أو إلى الانتصار للكرامة العربية، أو إلى الرابط الثقافى والدينى، فقدت دلالتها. ويعود هذا الأمر فى رأيى إلى قيام أنظمة الاستبداد باستخدام هذا النوع من الكلام من أجل التغطية على ممارستها القمعية. انظمة تضطهد اللاجئين الفلسطينيين وتدمر مخيماتهم وهى تتغرغر بكلام قوى عن قدسية فلسطين، بحيث صار ادعاء حب فلسطين وسيلة لقمع الفلسطينيين وسحق الشعوب العربية. يحبون فلسطين ويكرهون الفلسطينيين ويقمعون شعوبهم، ما هذا العبث الكلامى الذى لا يطاق؟ يجب أن نبحث عن موقع فلسطين فى الضميرين العربى والعالمى فى مكان آخر، ولهذا بدأت أروى لصديقى حكايات النكبة التى كتبتها، أو التى كنت أنوى كتابتها. وفى تلك اللحظة اكتشفت أن الخيط الذى يجمع عناصر الحكاية الفلسطينية كلها، فى حاضرها وماضيها هو النكبة بصفتها مساراً مستمراً. فالمأساة المستمرة ومقاومتها التى لم تتوقف، هما السبب الذى جعل من فلسطين فكرة تختزن الضمير، وفيها يصير الدفاع عن الحق دفاعاً عن الحقيقة. تم اعتماد هذا التعبير فى محاضرة ألقيتها فى معهد الدراسات المتقدمة فى برلين فى سنة 2012، ونشرت فى «مجلة الدراسات الفلسطينية» (شتاء 2012)، كما نشرت نسختها الإنجليزية فى مجلةCritical lnquiry (شتاء 2012)، بعنوان «Rethinking the Nakba». كيف نقرأ كتاباً مفتوحاً بلا نهاية؟ المؤرخ السورى قسطنطين زريق سك تعبير النكبة لوصف كارثة سنة 1948، فى كتابه «معنى النكبة» الذى نشر فى سنة 1948 خلال حرب النكبة. بهذا التعبير وجدت النكبة اسمها، وصار هذا الاسم عصياً على الترجمة ودخل فى نسيج اللغات كافة. ما لم يكن واضحاً، وما لم يستطع آباء الحركة القومية استشرافه، هو طبيعة النكبة باعتبارها مساراً وليس نتيجة. «يقظة العرب»، بحسب تعبير الفلسطينيى المقدسى جورج أنطونيوس، ستتخذ بعد النكبة شكل انقلابات عسكرية وأنظمة ديكتاتورية عاجزة عن محاصرة النكبة تمهيداً لطى صفحتها. إن التغيير الذى لا يكاد يصدق، والذى شمل 78٪ من مساحة فلسطين عبر التطهير العرقى وتدمير القرى الفلسطينية وإفراغ المدن من سكانها واستبدال السكان، لم يكن نهاية الحكاية وإنما بدايتها. فخلال تسعة عشر عاماً من وضع الفلسطينيين فى إسرائيل تحت الحكم العسكرى، واجه الفلسطينيون استمراراً صامتاً للنكبة فالأراضى تصادر، والمدن تندثر لتحل مكانها مدن جديدة، والفلاحون فقدوا أعمالهم وطرق حياتهم، كما اختفى الاسم الفلسطينى. إن ما جرى فهمه باعتباره حدثاً تاريخياً مأساوياً تحول إلى مسار لم يتوقف. فقدان الأرض وفقدان الاسم هما سمتا النكبة، فالأرض تصادر بذرائع شتى من طرف الحكومات الإسرائيلية، والاسم يتم محوه بحيث أطلق على الفلسطينيين الغائبين - الحاضرين اسم «عرب أرض إسرائيل» أما بقية الفلسطينيين ففقدوا اسمهم فى ظل أنظمة حكم عربية تفننت فى إخراسهم. هذا الترابط بين الاسم المغيب والأرض المصادرة أنتج العيد الوطنى الفلسطينى الذى لا يشبه أى عيد فى أى مكان آخر من العالم وأطلق عليه اسم «يوم الأرض». ففى 30 آذار/مارس من كل عام يحتفل الفلسطينيون ب «يوم الأرض» فى أراضى 48 وفى كل مكان فى الأرض، وفى ذلك اليوم من سنة 1976، سقط ستة شهداء حين قامت السلطات الإسرائيلية بمصادرة أراضى «الملّ» التابعة لقرى دير حنا وسخنين وعرابة وعرب السواعد. الأرض والاسم سيتحولان إلى عنوانى المقاومة الفلسطينية المستمرة فى مواجهة النكبة المستمرة. النكبة المستمرة ليست فقط نتاج سياسات إسرائيلية براغماتية ستتكشف بشكل واضح بعد هزيمة الخامس من حزيران/ يونيو 1967، بل إنها أيضاً نتاج فشل أو تواطؤ النظام العربى. والمقاومة المستمرة لم تواجه قوات الاحتلال فحسب، بل كان عليها أيضاً، أن تخوض حربين أهليتين فى الأردن ولبنان، كما كان عليها أن تواجه الحصار والاحتواء ومحاولات الابتلاع فى محيطها العربى. إن الفشل العربى فى احتواء النكبة ومحاصرتها كان العلامة الأولى على أن النهضة العربية كانت مهددة بالتحول إلى عصر انحطاط جديد، وقد قام الاستبداد بتعميم هذا الانحطاط الذى حطم المراكز المدينية وأخذ المشرق العربى إلى الحضيض. المشرق العربى الذى أسلم قياده لأنظمة الاستبداد العسكرية والنفطية، سيجد نفسه أمام لحظة تفكك عشوائية أوصلته إلى «اتفاقيات أبراهام» التى أعطت إسرائيل يداً حرة فى التصرف فى المناطق الفلسطينيةالمحتلة. النكبة كتاب مفتوح لكن من دون نقطة نهاية، ولذلك سأحاول قراءته من خلال سؤالين. السؤال الأول: الفهم وسوء الفهم بداية، أريد أن أعترف بأن خيال الطغاة والمحتلين تجاوز الخيال الأدبى والفنى، إذ يكفى «تعبير» الحاضر - الغائب» ليقدم الدليل على وحشية المجاز اللغوى حين يتحول إلى ممارسة سياسية قمعية فأنا عندما صادفت هذا التعبير فى الأدبيات الإسرائيلية اعتقدت أننى أمام استعارة تصلح لأن تكون جزءاً من إحدى مسرحيات أوجين يونسكو العبثية، غير أن المؤسسة الإسرائيلية حولت هذه الاستعارة إلى تعبير قانونى! فى حكايات هذه النكبة، مثلما يرويها ضحاياها وبعض جلاديها، علينا أن نصدق مالا يصدق، وأن نتأقلم مع فكرة أن الحدود بين الحقيقى والخيالى قد تم تدميرها. السؤال الذى طرحه فلاح فلسطينى من قرية سعسع على الجنود الإسرائيليين الذين اقتحموا قريته وقاموا بهدم بيوتها فى 14 شباط/ فبراير 1948، يمكن أن يكون مدخلاً لقراءة سوء التفاهم فقد روى موشيه كالمان، قائد الوحدة العسكرية التابعة للبالماخ حادثة تخفى الهول فى غرابتها قال إن أحد أفراد وحدته فوجىء بفلاح فلسطينى من القرية المنكوبة يسأل مذهولاً «إيش هادا»؟. ولما كان الجندى الإسرائيلى يعرف العربية فقد أجاب: «هادا إيش» وأطلق النار على الفلاح الذى قتل على الفور. «إيش» فى اللغة العبرية تعنى النار، هكذا مزج الجندى الإسرائيلى اللغتين، مفتتحاً ما يمكن أن نطلق عليه اسم سوء التفاهم المقصود. إن تدمير 60 منزلاً على قاطنيها فى سعسع لم يكن سوء تفاهم، وإنما كان أداة للتلاعب بالمعنى. نار إسرائيلية وسؤال فلسطينى، هذه هى المعادلة التى أرادت إسرائيل فرضها خلال سبعة عقود وحين يرد الفلسطينى على النار بالنار دفاعاً عن حقه فى الوجود، يصير «مخربا» أو «إرهابيا»! الجواب الإسرائيلى القاتل على السؤال الفلسطينى، هو مزيج من الجهل من جهة، والغطرسة من جهة ثانية. هل هذا التلاعب بالكلمات هو مجرد سوء فهم! «إيش» أى النار العبرية، ستحتل المشهد من جديد بعد سبعة وأربعين عاماً فى بلدة حوارة قرب نابلس. ففى 26 آذار/مارس 2023، احتفل المستوطنون الإسرائيليون بعيد «المساخر»، «يوم بوريم» فى شوارع حوارة التى سبق أن هاجمها وأحرقها المستوطنون قبل تسعة أيام. فى 20 شباط/فبراير. حكاية «يوم بوريم» مثلما رويت فى «التناخ» هى استعارة، والاحتفال بها رمزى لكن حين تفهم الاستعارة بصفتها تاريخاًِ، ويتم نزع ثوب المجاز عن طقوسها المرتبطة بالمجازر فى الإمبراطورية الفارسية بعد مقتل هامان، عدو اليهود، وتتحول إلى ممارسة فى الحاضر، تصير الحكاية مدخلاً إلى البربرية. لقد تحولت رصاصة سعسع إلى نار حقيقية فى حوارة، وسيتخذ احتفال 26آذار/ مارس 2023 شكل رقصة همجية قام بها المستوطنون إلى جانب الجنود الإسرائيليين. النار صارت لهباً حقيقياً وستعيدنا إلى ذاكرة البراميل المتفجرة التى دحرجها جنود البالماخ على قرية عين الزيتون فى سنة 1948. إن ذاكرة سوء التفاهم ليست سوى ذاكرة الخوف. لقد «أعادنا» «يوم بوريم» تسعة عشر عاماً إلى الوراء، حين حلت ذكرى هذا العيد فى 25 شباط/فبراير 1994. ففى ذلك اليوم دخل مستوطن يقيم فى كريات أربع فى الخليل، وهو الطبيب الكاهانى باروخ غولدشتاين، إلى الحرم الإبراهيمى، وفتح النار وقتل 29 فرداً من المصلين. والنار ستشتعل من جديد أيضاً، فى 31 تموز/ يوليو 2015، حين تسللت مجموعة من المستوطنين إلى قرية دوما فى الضفة الغربية، وأحرقت منزل عائلة الدوابشة، فقتل حرقاً طفل يبلغ من العمر ثمانية عشر شهراً، إلى جانب أبيه وأمه. النار ليست استعارة مثلما صورها الروائى الإسرائيلى أ.ب. يهوشع فى قصتة. «إزاء الغابات» النار هى الحكاية التى لم يستطيع الفلسطينى الأخرس المقطوع اللسان روايتها عن قريته المدمرة. سوء التفاهم ليس جهلاً أو عدم معرفة، وإنما جرى استخدامه ك «أداة للسيطرة» بحسب إدوارد سعيد فى كتابه «الاستشراق» كما تم فصل المضامين الأدبية لهذه الآداة عن أثرها السياسى مع أنهما متكاملان. ويصف سعيد الطرق المتعددة التى لجأ إليها سوء التفاهم هذا من أجل تركيب صورة لحضارات حرمت من هوياتها. فتح الكاتب الإسرائيلى س. يزهار صفحة النكبة فى الأدب الإسرائيلى فى روايته المتميزة «خربة خزعة» (1949) غير أن الروائيين الإسرائليين اللحقين الذين تطرقوا إلى النكبة بشكل عرضى بقوا أسرى ترسيمة يزهار. رواية يزهار تأخذ القارئ إلى نقطة التقاطع بين الفهم وسوء الفهم مؤكدة صمت الضحية التى بدت فى الرواية أشبه بشخصيات فيلم صامت ولا يخترق هذا الصمت سوى صوت إمرأة فلسطينية فقدت السيطرة على أعصابها وبدت كالمجنونة وهى تحمل طفلتها الباكية الملوثة بالبراز وتطلب من أحد الجنود الإسرائليين أن يأخذ الطفلة وسط امتعاض الجنود وقرفهم. لماذا لا نستمع إلى أصوات الضحايا؟ ضحايا «خربة خزعة» ليسوا أشباحاً مثلما هى حال خليل وعزيز فى رواية أموس عوز «ميخائيلى» وألسنتهم لم تقطع كحال الفلسطينى فى «أزاء الغابات» إنهم فلاحون مصابون بصدمة اجتياح الجنود لقريتهم وطردهم منها. هل كان سارد القصة الجالس بعيداً غير قادر على سماعهم، أم إنه لم يكن يفهم لغتهم العربية؟ أغلب الظن أن الجوابين ممكنان، ولا نستطيع الجزم بأن أحدهما أكثر صحة من الآخر غير أن هذه الرواية صنعت شخصية الفلسطينى الصامت أو الشبح والتى ستسود فى الأدب الإسرائيلى. ترسيمة يزهار ستجد انعكاسها وإن بشكل مختلف فى رواية غسان كنفانى: «رجال فى الشمس». أبو قيس وأسعد ومروان سيموتون فى خزان الشاحنة التى كانت وسيلتهم للتسلل من العراق إلى الكويت لقد ماتوا تحت شمس الصحراء الملتهبة فى آب/ أغسطس بينما كان سائق الشاحنة المصاب بالعجز الجنسى عالقا أمام رجال الحدود الكويتية الذين أصروا على سؤاله عن مغامراته الجنسية مع الراقصة كومب فى البصرة! عندما فتح السائق أبواب الخزان ووجد جثث الفلسطينيين الذين ينتمون إلى ثلاثة أجيال ارتفعت الصرخة التى سترددها الصحراء وستتوالد أصداؤها فى الوعى الفلسطينى باعتبارها دعوة إلى المقاومة: «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقولوا؟ هذه الصرخة تحتاج إلى مساءلة عميقة: ماذا لو قرعوا وصرخوا ولم يسمعهم أحد؟ ولماذا لا يكون السؤال عن الصمم بدلاً من أن يكون عن الفعل والصوت والكلام؟ لم يجد الألم الفلسطينى سوى آذان صماء فى الوطن العربى أما فى الغرب فقد قامت أوروبا بغسل يديها من الدم اليهودى بالدم الفلسطينى صمت الضحية ليس المسألة فالضحية أكرهت على الصمت والألسنة لم تقطع لكن الآذان اختارت الصمم. غسل الدم بالدم يفسر عبارة إدوارد سعيد بأنه «المثقف اليهودى الأخير» لأنه يجسد منفى الإنسان فى أرضه وفى مخيمات اللجوء. أما إميل حبيبى فوصف هذا المنفى الداخلى الفلسطينى فى روايته «المتشائل» بأنه منفى الذات عن الذات الذى قاد بطله سعيد إلى حائط مسدود ودله على طريق المقاومة. السؤال الثانى: التأويل سؤال التأويل هو سؤال صراعى الحاضر الفلسطينى فى مواجهة التأويل الإسرائيلى والقصة الإسرائيلية فى مواجهة قارئها وضحيتها الفلسطينى .. مر هذا الصراع بعدة مراحل فالصهيونية بدأت كمشروع قومى كولونيالى وآباء الحركة الصهيونية كانوا واعين للترابط العضوى بين تأسيس مشروع قومى وبين البعد الكولونيالى لهذا المشروع. البعد الاشتراكى الذى صنعته الهيمنة العمالية على المشروع أكد هذه الطبيعة المزدوجة عبر عزل الفلسطينيين عن سوق العمل اليهودية قبل أن تتم فبركة أسطورة عدم وجودهم. كما أن الدعم الدولى لتأسيس الكيان الإسرائيلى وجد مبرره «الأخلاقى» فى الأثر المدمر للإبادة النازية لليهود فى فلسطين الذى ازدرى الناجين من الهولوكست سرعان ما سيقوم بتحويل الدولة العبرية إلى نصب تذكارى للمحرقة خلال محاكمة أيخمان وبعدها وهذا التحويل سيضفى طابعاً إنسانياً وأخلاقياً على دولة قامت على أنقاض نكبة سكان البلد الأصليين فيها.. وحتى اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) بقى الاسم الفلسطينى غائبا ومغيبا إلا إن انتفاضة أطفال الحجارة ستغير المعطيات وتجبر إسرائيل على الاعتراف بوجود شعب يحمل اسمه الفلسطينى . غير أن اتفاق أوسلو للحكم الذاتى الفلسطينى توج الانتفاضة الفلسطينية بجلجلة جديدة وقاد إلى مسارات نكبوية معقدة تخللتها الانتفاضة الثانية ووصلت اليوم إلى منعطف هيمنة اليمين الفاشى والدينى على السياسة الإسرائيلية بحيث امتزجت أيديولوجيا المستوطنين المستندة إلى خطاب أسطورى بانبعاث خطاب الصهيونية التصحيحية لجابوتنسكى . كما أن خطاب الحركة الوطنية الفلسطينية كان عرضه لتغيرات شتى من مشروع الدولة الديموقراطية- العلمانية، إلى تبنى مقولة الدولتين بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 ومع اتفاق أسلو سيجرى تبنى فكرة الحكم الذاتى المؤقت باعتبارها خطوة نحو الدولة الفلسطينية. كان اتفاق أوسلوا استسلاما فلسطينيا فالقصة الإسرائيلية ترك أمر تأويلها للصهيونيين ، أما الحاضر الفلسطينى فجرى اختزاله وتقزيمه ومع ذلك رفض الاستسلام الفلسطينى من طرف حكومة يقودها «حمائم» حزب العمل وعاد المسار إلى اندفاعته خلال قمع الانتفاضة الفلسطينية الثانية حين أعلن سفاح مجازر شاتيلا أريئيل شارون الذى خلف العمالى إيهود باراك فى رئاسة الحكومة أن إسرائيل تتابع «حرب الاستقلال» أى تستأنف حرب النكبة. تعبير «حرب الاستقلال» إشكالى ففلسطين «حررها» الصهيونيون من سكانها وليس من قوة احتلال كما أن الجيوش العربية التى دخلت حرب 1948 كانت أكثر ضعفاً وعجزاً من أن تشكل نداً للقوة العسكرية الصهيونية..