تبدو وزارة الثقافة، منذ سنوات طويلة مضت، مثل أسد عجوز يحاول أن يؤكد قوته باستحضار ماضيه، رغم أنه لا يستطيع أن يغادر عرينه. ليس فى المسألة أى بلاغة، إذ لو تأملنا حال قطاعات النشر فى الوزارة، من هيئة الكتاب لهيئة قصور الثقافة للمركز القومى للترجمة، لوجدنا أطلالًا، ليس السبب فى خرابها إلا رؤساء الهيئات نفسها بالتعاون مع مسئولى وضع الخطط الإستراتيجية للوزارة (إن كان هناك مسئولون يقومون بهذه المهمة). لكن الأزمة ليست فى «النشر»، إذ نشر المعرفة بأسعار زهيدة فى ظل أزمة اقتصادية يعانيها المواطن، لا يمكن أن تكون أزمة. إنما كيفية إدارة فكرة «النشر» وما يتبعها من عملية توصيل الكتاب إلى القارئ. وهى عملية، لو انتبهنا، تؤديها دور النشر الخاصة بسلاسة، بدايةً من اختيار الكُتّاب والكتاب، ومرورًا بتحريره وتدقيقه وتصميم غلافه، ونهاية بطبعه وتوزيعه على المكتبات والمشاركة فى المعارض. لماذا، إذن، تبدو هذه العملية إعجازية داخل وزارة يتوافر لها كل هذه العناصر من داخلها، باستثناء الكتاب الذى ينبغى اختياره؟ وبنظرة سريعة على الماضى القريب، تبدو وزارة فاروق حسنى، رغم كل عيوبها ومآخذنا عليها، أفضل من كل الوزارات المتعاقبة منذ 2011 حتى الآن. المفارقة أن الوزارة التى تكلست لأكثر من 20 عامًا، حتى بات وزيرها موظفًا، كانت لا تزال تحافظ على الحد الأدنى من الثراء المعرفى واختيار رؤساء هيئات يتمتعون بقدرٍ هائل من الثقافة مع المعرفة الإدارية. وفى زمن سابق، ليس ببعيد، كان د. جابر عصفور مدير المركز القومى للترجمة، ود. سمير سرحان ود. ناصر الأنصارى ود. أحمد مجاهد رؤساء هيئة الكتاب، وكانت السلاسل الصادرة عن الهيئات المختلفة، منها: سلاسل قصور الثقافة، ثرية بمحتواها، يتلقفها القارئ ويتزاحم عليها فى معرض الكتاب، ليس فقط لرخص سعرها، وإنما لمحتواها، وهو ما لفت الانتباه فى فترة تولى جرجس شكرى لقطاع النشر فى قصور الثقافة، فى بارقة كانت واعدة. وكانت مكتبة الأسرة والأدب العالمى للناشئين (هذه الملخصات للكتب المؤسسة فى الثقافة العالمية) من علامات النشر الحكومى. يبدو كل ذلك الآن، رغم شكوانا حينها من جودة الطباعة أو محدودية النسخ، حلمًا بعيدًا يصعب استعادته. والمركز القومى للترجمة، الذى كان نافذة واسعة، بات قبرًا للكتب المنسية. وفى تصريحات له، أشار د. أحمد هنو، وزير الثقافة، إلى تقليص النشر واقتصاره على هيئة الكتاب والمركز القومى للترجمة، والعمل على «دجتلة» المجلات الثقافية لإتاحتها إلكترونيًا فحسب، مع عدد محدود من النسخ الورقية. ولا شك أن العمل على تطوير قطاع النشر بالثقافة أحد المطالب الرئيسية للمثقفين والقراء منذ سنوات، لأن قطاعًا كبيرًا من المصريين يعتمد فى معارفه على القطاع الحكومى، بالذات فى دولة مركزية مثل مصر، تتركز أنشطتها (لسوء التنظيم) فى القاهرة، مع تجاهل تام لمدن وقرى الصعيد. ولو تذكرنا أن مكتبات هيئة الكتاب فى جنوب مصر والكثير من مدن الدلتا هى الرئة الوحيدة للمعرفة الورقية، لأدركنا حجم كارثة «تقليص النشر»، ول«بدت» لنا الخطة الجديدة كإغلاق لنافذة وليس فتحًا لنوافذ. يحتاج قطاع النشر فى وزارة الثقافة، إن أراد أن يُبعَث، وأن ينافس القطاع الخاص (وهى منافسة محمودة) وأن يؤدى دوره لنشر المعرفة، إلى مسئولين جدد لا يؤدون دور الموظف المحدود، وإنما يبدعون فى مناصبهم باقتراحات واقعية تضىء الثقافة لا تطفئها. يحتاج إلى ضخ رأسمال لصناعة كتاب جيد عبر السلاسل نفسها، سواء سلاسل الترجمة أو الإبداع والنقد، ليكون شكل الكتاب ومحتواه وإخراجه محفزًا للكُتّاب للسعى فى النشر الحكومى وليس النفور منه، يحتاج إلى الاهتمام بأدب الطفل وتوسيع مجال نشره ليكون هدفًا رئيسيًا وليس مجرد هامش للوجاهة. ويحتاج، قبل أى شىء، إلى توفير منافذ لبيع كتب الوزارة، وتنشيط المنافذ الموجودة، واستغلال أكثر من 500 قصر ثقافة موزعة على طول البلاد لتضم مكتبة لبيع الكتب، ليس كتب الوزارة فحسب، بل كتب دور النشر الخاصة التى لا تصل إلى الجنوب، والتعاون مع المكتبات الخاصة لتوزيع كتب الهيئة حتى لو على نطاق ضيق. ثم إن الوزارة، فى قطاع النشر، يمكن أن تكون أكثر انفتاحًا على الدور الخاصة، أن تتعاون معها خاصة فى نشر الترجمة، وهى ليست فكرة جديدة ونُفذت من قبل، لكنها توقفت بعد ذلك. من ناحية أخرى، يجب أن تسأل الوزارة نفسها هل هى مؤسسة حكومية غير هادفة للربح أم أنها مؤسسة ربحية، وبناء على ذلك تعيد النظر فى أسعار الكتب، مع العلم أن كونها مؤسسة غير ربحية لا يعنى أن توزع الكتاب مجانًا، ولكن أن تراعى أحوال المواطنين الذين يسعون للمعرفة برواتبهم الضئيلة فى ظل صعوبات العيش. ولعل تطويرًا آخر فى النشر الحكومى قد يسهّل على الوزارة ويساعد القارئ: إنشاء تطبيق يتيح قراءة إصدارات قطاعات النشر المختلفة، يشبه تطبيق أبجد، باشتراك معقول. وهى خطوة ليست مستحيلة، ولنتخيل آلاف الكتب القيمة التى صدرت عن السلاسل المختلفة وقد باتت متاحة إلكترونيًا. فى النهاية، يبدو ملف الترجمة أحد أهم الملفات المؤجلة دون سبب واضح، إذ لا يمكن، فى هذه اللحظة، الحديث عن مصر باعتبارها دولة مؤثرة وفارقة فى منتجها الترجمى، بعد أن تراجع بشكل واضح ومؤسف أداء المركز القومى للترجمة، فبات مثل حدبة فى ظهر وزارة الثقافة، بعد أن كان فى عصور سابقة إحدى أدوات التنوير والاطلاع ونافذة لا غنى عنها لرؤية العالم. هذا التراجع لا يخص «صعوبة الحصول على الدولار لدفع حقوق المؤلف»، وإنما يخص بالتحديد سوء إدارة المركز والاستخفاف بمهمته ودوره. ويحتاج قطاع النشر فى الوزارة، وهو المخوّل به نشر المعرفة، إلى سحب المواطن الذى لا يقرأ إلى القراءة، وإلى تسهيل مهمة من يريد أن يقرأ، ورغم أنها تبدو مهمة صعبة فى ظل ثقافة الفيديو والتيك أواى، إلا أن تزايد عدد القراء وسعيهم لتوسيع معارفهم أمل لا بد أن نستغله لصالحنا، قبل أن يستحيل الأمل يأسًا.