أنا موجود!: أجمع كل من قابله أنه مجتهد فى كل شيء؛ فى دينه.. دراسته.. عمله.. عشقه.. حتى وإن كان نصابًا لكان محترفًا وحيدًا! كرمته ظروفه بالسفر كمساعد لملحق دبلوماسى فى دولة كوريا الشمالية الشيوعية، قبل سفره حزم حقائب ملأى بالمقدس من النصوص حصنًا له من النتشريين وأفكارهم الشاذة عن الفطرة، أخيرًا حان موعد الترحال لتولي المهمة الرسمية التي حمَّلته إياها دولته العريقة الأخلاق بين الأمم! يشبك حزام كرسيه إيذانا بإقلاع طائرته، يقبض بجفونه على عينيه حتى لا تتلصص على سيقان المضيفات الرائعات، ولا تضيع منه آيات الحفظ كما تعلم قديمًا أن الإمام ارتبك حفظه عندما ساء خلقه بالنظر إلى المحرم، فأجزم ألا ينظر إلى محرم طيلة سفره حتى تمر السنة بسلام أو تمتد لستة أشهر أخرى مكافأة لاجتهاده وإتقانه.. أخذ على نفسه عهدًا غليظًا بالالتزام وعدم تقليد هؤلاء اللادينيين... تصورهم بلادًا تعج فسادًا.. يسيل الدم فيها نهارًا.. لا بيوت فيها إنما هى مواخير.. لا حلقات ذكر ولا صالونات فكر.. كيف يكون هناك فكر، وهم على حالهم من مئات السنين. خلاصة القول الفصل يحدث نفسه: سأغمض عينى وأغلق عقلى وأحبس أنفاسي وأقوض خطواتى و... في هذه البلد المغضوب عليها من العالم تقريبًا. تقطع عليه انفراده بنفسه مضيفة فاتنة تتحدث بلغة صعبة الاستيعاب المباشر فيشير بإصبعه لطرف أذنه، فتقترب منه أكثر تظنه ضعيف السمع حتى اخترقت عيناه المحرم من جديد.. فشاح بوجهه عنها خوفًا من عقاب السماء وضياع البعثة مبكرًا، وقرر ألا يطلب الماء الذى يتلظى حلقه طلبًا لرطبه. تهبط الطائرة وبفعل لا إرادي يفك إسورة حزام بنطاله متوهمًا أنه حزام الكرسى، فتضحك الجميلات ويحمر، ويبدو أن هذه الفعلة نذير لا يبشر باستقامته وفاءً لوعد قطعه على نفسه.. فحاور نفسه: ماذا يحدث لو تحللت من وعدك يومًا أو يومين حتى تتعرف على هذه البلد وتمسك بتلابيب حقائقها. هو: نعم هكذا لا يستطيع أن يغلبني مردة وشياطين هذه الأرض. نفسه: تمام هذا القول الفصل. اصطلح مع نفسه وابتسم لها وارتسمت على وجهه نشوة انتصار إلى أن اصطدم بموظف المطار يشير إليه أن يذهب إلى يافطة الحجر الطبى. فقال: أنا سليم ولست بمريض. الموظف: هذا إجراء احترازى يجب ألا يغضبك. مرت ساعة ونصف وهو ينتظر طبيب الحجر الصحى ليقرر دخوله كوريا.. وهو يستهجن هذا السلوك غير المتحضر تجاه دبلوماسي مثله.. هكذا حاول أن يشرح للطبيب الذى جاءه عندما حان دوره. اقرأ أيضًا| «أحلام» قصة قصيرة للكاتب خليل الجيزاوي الطبيب: الناس هنا سواء لا فرق بين دبلوماسى أو عادى. وتعجب الطبيب من ادعاء الدبلوماسى التحضر وعدم صبره على تلك الإجراءات البديهية. أنهى صديقنا إجراءات عقيمة في اعتقاده لدولة تستحق أن يطعن الجميع فى احترامها للإنسانية، وبعد يوم عصيب كان سكرتير بديله ينتظره خارج منطقة الحجر، هو يعلم أنه لا مناص من انتظار الدور ولا ضرورة فعلية لوجوده، فكل شيء يسير كتروس الساعات السويسرية، إنما هى المنظرة الكذابة والاستعلاء في غير موضعه. ابتسم له عندما قابله وصافحه مشمشمًا فيه ريح طينه، واستقلا سيارة فارهة هى الوحيدة فى منطقة الانتظار وسط أتوبيسات نظيفة للغاية. اتجها سويًّا للفندق الذى لا يقطن به سوى العرب، وبمجرد دخوله أراد أن يضع كل أوزاره جانبًا، متفقًا مع نفسه على ما تواعدا عليه بالمطار.. وبدت عليه علامات الدهشة كيف لهذا الشعب الفقير أن يملك فندقًا بهذا الترف، وكل العاملين من البلد ولا نزيل منهم.. حاول أن يعطى الولد بقشيشًا متصنعًا فى إخفاء يده، وفوجئ بالولد يرفع يده منكرًا عليه فعلته، ويرد الورقة حاملة رقم خمسة دولار، ويهمس السكرتير له: لا أحد هنا يأخذ بقشيشًا، الكل يأخذ راتبه فقط ويكفيه. وبعد راحة يومين من عناء السفر توجه إلى السفارة لاستلام مهام عمله من سالفه، وكان يومًا غريبًا؛ فقد تم ترتيب مواعيد لقاء مع ثلاثة أشخاص كبار فى يوم واحد، وهم الزعيم والوزير ومدير المخابرات، نظرًا لانشغال جدول الأعمال للجميع، وضغط مظاهر التجمل الدبلوماسى لحدود التعريف والقبول فحسب والاكتفاء بهدايا رمزية توضع فى المتحف الوطنى. يتحرك نهارًا في مواقع حيوية تقدر العلم وتقدس العمل.. خلايا لا تهدأ لها هدف واحد هو الوطن، يطالع جرائد الصباح؛ لا تناحر تافه بين إعلاميين مرتزقة، ولا نقد هدام بأهداف وافدة، ليس بكثرة الجرائد فهي ثلاث صحف أيضًا، ويستمع أمام المدفأة للراديو المستمر فى أناشيد التعبئة وخلق مناخ فدائى عام... اندهش لملاحظاته على مس ياهن المعينة لخدمة منزله الذي انتقل إليه بعد يومَي الاستقبال بالفندق.. هى سيدة تحظى بصفات في اعتقاده أنها تمنحها حياة أفضل مما هى عليه؛ فهى بارعة الجمال وتفوح منها دائمًا عطور هادئة جاذبة على الرغم من عملها كخادمة، الأغرب أنها صارحته بعدم ارتياحها لنظراته الفاحصة لها أثناء تحركها بالمنزل، وكان صمته الممزوج بالخجل من ذاته التى تحمل ثقافات التحريم والعيب، وفي المقابل اعتقاده بأنها لا دينية، ولا غريب على ثقافتها تلصصه عليها، فهى لا تملك أنساق الحرام، ولا حتى أعراف العيب.. واندهش أيضًا لقدرتها على إصلاح المكنسة الكهربائية التي تعطلت رغم نصحه لها بشراء جديدة، وسألها باستهجان: هل أنت خريجة مدارس فنية متوسطة! وهو متأكد تقريبًا من إقرار سؤاله. فقالت: لا أنا أدرس الماجستير في علوم الفيزياء. تجمدت ملامح بلهاء على وجهه، وتصلبت حركة يديه التي كانت تشير باستعلاء. نازعه فضول ليتعرف على خادمته أكثر. فسألها عن أحوالها ومعيشتها و... فقالت: لست في حاجة للبقشيش منك على الرغم أنك تعرض على في كل زيارة ما يوازي راتبى الشهري، أنا لست في عوز لمالك، فأنا وزوجي الذي أحبه ويخلص لى دون حاجة مني لامتحانه ومراقبته.. نصرف احتياجاتنا الغذائية كل شهر؛ الدواء حال الضرورة فورًا، والملابس كل موسم صيفى أو شتوي، وأثاث المنزل يصرفونه هنا كل عشرة أعوام.. فلا حاجة لنا لتكرمك وتعاليك علينا بمال ليس ملكك إنما هو من خزينة بلادك... اعذرني لتجاوزي.. أستاذنك في متابعة عملي. يبقى صاحبنا متصلبًا باردًا تارة، ودافئًا أخرى بعد هذا الدرس المكثف، يقبع أمام مدفأته يقلب التلفاز الذي لا يحوى سوى ثلاث قنوات أرضية تغلق عند الثانية عشرة لتسمح للمشاهدين بممارسة حقهم الفطري في راحة أبدانهم حتى الفجر لتبدأ خلايا العمل مبكرًا دائمًا.. فقرر النزول للتمشية في الواحدة صباحًا.. ولفت انتباهه عدم وجود إعلانات اللبان والملابس الداخلية والأطعمة، فهذا الشعب يحترم سلوكيات الاستهلاك والإنتاج أيضا؛ فهم لا يعلنون للعالم قدرتهم على تصنيع اللبان أو تعبئة الطعام أو الافتخار بالحصول على توكيل العطور .. بل اللوحات الإعلانية تشير إلى معدلات الإنتاج من الصناعات الثقيلة والأجهزة الموفرة للطاقة، و... أشياء زادته خجلًا من هذا الشعب اللاديني، الذي تصدر عنه عبر وسائل الإعلام العابرة للقارات أنهم همج متخلفون.. وهو شخصيًّا كان قد سلم بهذا الادعاء حتى محص معلوماته بحق، وترك لمنطق العقل حريته في الحكم بعيدًا عن أسر إعلام الحرب الغربي.. يقرر في الأسبوع الثاني أن يذهب لعمله بوسيلة النقل الجماعي، يتفاجأ بصلاحيتها الفنية العالية ونظافتها العجيبة من أية ذكريات عشق أو فضح أو عبارات سياسية أو دينية أو ملصقات منتجات تحت السلم أو... الهدوء يرتسم على ملامح الركاب كل يعلم ما عليه فعله.. لا صخب ولا كسر للإشارات أو تخطٍّ للعلامات الأرضية؛ الحقوق مراعاة بدقة.. تساءل ما هذه الأرض التى يعاديها الجميع بالتبعية للقلة الحاكمة للكوكب.. ويندهش هو لم يصادف أن تحدث أحد معه فى تكفير وادعاء الوصاية ومنح رقية الغفران و.. لم يتعد جار عليه بالصياح أو القاذورات أو... الأغرب أنه لم يتذكر حواره مع نفسه التي أطاعته في غفلة من نصائح قومه الدينية والأخلاقية والاقتصادية والثقافية والسياسية و... لم ينجرف لملذات تصور وجودها فى أرض لا دينية وبالضرورة لا أخلاقية وتعج بالهمجية والسفور والمجون و... قرر أن يكون إيمانه مع خالقه فحسب، وأخلاقه مع الخلق جميعًا متساوية.. قرر أن يعمل لوطنه دون مقابل.. قرر أن يصالح نفسه، أعلن تدينه من جديد في أرض الكفر... ومنح ذاته جنسية بلده من جديد في أرض مكروهة من العالم بلا مبرر غير أن مواطنيها يحملون الجنسية بلا توريث.. حزن على ظنونه السالفة بأنه ملتزم دينيًّا، وكان أكثر حزنًا على توهمه بأن اجتهاداته السابقة كانت لوطنه، والحقيقة أنها لم تكن سوى لمكاسب شخصية ومراتب لاسمه فحسب.. أمام شرفة منزله هناك نظر للسماء وأقر بالوحدانية لخالقه دون أن يراه أحد.. وافترش العلم سجادة صلاة غفران لما فاته من تقصير في حق إنسانيته.. غاب طويلًا في التأمل، لم ينتبه لطرق الباب المتلاحق.. فحسب سمع الأقدام مغادرة تتحدث أصحابها عن أنه لا أحد منهم في الداخل موجود.. فيسرع متمتمًا بصمت صاخب... لا أنا موجود.. الآن موجود.. اليوم فحسب تأكد من أنه موجود!