هل يمكن أن يقصف الكاتب قلمه؟ سؤالٌ يشغلنى على الدوام، ويدوى صداه كلما مرَّ على سمعى اسم أحد المبدعين الذين قرروا اعتزال الكتابة، أو الانسحاب بشكلٍ ما من الحياة الأدبية. فى مقدمتهم – بالنسبة لى – محمد حافظ رجب ونجوى شعبان، مع الأخذ بعين الاعتبار اختلاف الظروف والأسباب، لكن النتيجة فى الحالتين واحدة؛ انزواء مبدع لم يكن مشروعه قد بلغ نهايته. بالطبع هناك آخرون اتخذوا القرار ذاته، سواء فى بداية مسيرتهم أو بعد قطع شوط كبير فيها، ليس فى مصر فقط، وإنما على مستوى العالم؛ فنجد – مثلًا – الكاتب الأمريكى جى. دى. سالينجر (1919 – 2010) يقرر الاعتزال بعد صدور روايته الشهيرة «الحارس فى حقل الشوفان» الصادرة عام 1951، والشاعر الفرنسى آرثر رامبو (1854 – 1891) الذى بدأ الكتابة فى سن مبكرة، يقرر بعد نشر مجموعته الشعرية «إضاءات» أن يتوقف تمامًا وهو فى العشرين من عمره وينخرط فى أعمال التجارة، والبريطانى إى إم فورستر (1879 – 1970) ينسحب من عالم الأدب قبل 46 سنة من وفاته، والبلجيكى جورج سيمنون (1903 – 1989) يعلن عام 1972 أن مشروعه الأدبى قد انتهى ويتقدَّم بطلب لاستبدال مهنته فى جواز السفر من روائى إلى بلا مِهنة، والأمريكية هاربر لى (1926 – 2016) تتوقف عن الكتابة بعد نجاح روايتها الوحيدة المكتملة «لا تقتل عصفورًا ساخرًا» عام 1960، والأمريكى مرشح نوبل شبه الدائم فيليب روث (1933 – 2018) يصف الكتابة فى حوار معه عام 2012 بالكابوس، ويعلن توقفه التام عنها لأنه لم يعد قادرًا على مشقتها. هذا القرار الذى يتخذه الكاتب وينفذه فى مرحلة من حياته؛ يتعداه أحيانًا، ويشمل أثره آخرين من أجيال معاصرة أو تالية، وقد يُحدِث تغييرًا فى أفكاره واختياراته، مثلما وقع مع الكاتب السكندرى أحمد عبد الجبار، الذى تأثر بحالة محمد حافظ رجب. كان حينذاك شابًا فى مقتبل مسيرته، يملأه الحماس والشغف، وكان اعتزال رجب للكتابة والعالم خارج بيته؛ صادمًا له، وخلّف لديه أثرًا سلبيًا وإرهاقًا على المستويين الإنسانى والنفسى، وسؤالًا لا يفنى حول أسباب ذلك القرار، فتلك ليست حالة انعزال كاتب فى برجه العالى كى يبدع، ولا هى مرحلة تشبُّع أو اكتفاء أو حتى استغناء. وإنما أشبه بحالة هروب من الوسط الثقافى أو المجتمع القاهرى، من تداعيات آلام نفسية وحزن كبير، لم يكن فيها مالكًا لقراره. كانت مخيلة أحمد عبد الجبار مازالت تصدِّق لوحات الفن التشكيلى التى يظهر فيها الفنان جالسًا فى حديقته ليبدع وزوجته بجواره، وإلى جانبهما جيتار أو يستمعان لموسيقى، أفاق منها على تلك الحالة الذهنية والنفسية لحافظ رجب، واكتشف أن الصورة المثالية التى يخزنها عقله لا محل لها سوى الكتب واللوحات. حاول عبد الجبار على مدار سنوات أن يعرف الأسباب وراء قرار حافظ رجب تحديدًا، بينما نحاول هنا أن نصل – بشكل عام – إلى الأسباب التى قد تدفع الكاتب إلى الهروب بقلمه بعيدًا عن الأعين، أو قصفه تمامًا. وبدأنا من عنده؛ بعد مرور ما يقرب من ثلاثين عامًا على حماسه الشبابى وواقعة الاعتزال، يقول أحمد عبد الجبار: «بالطبع قد أتوقف تمامًا عن الكتابة. لمَ لا؟َ! من منظور الحياة العملية والواقع؛ لم تعد الكتابة بنفس قيمتها السابقة. هى بشكل شخصى شىء جميل ومهم؛ أحبها وأعبَّر من خلالها عن ذاتى، لكن النشر والقراءة ومدى فعالية ما أكتبه شىء آخر، له سلبيات تجعل الأمر بلا جدوى، رغم أن عدد القراء حاليًا زاد عن الماضى كثيرًا، لكن حماس البدايات لم يعد له وجود، والأشياء فقدت معناها». نفس الشعور من فقدان الحماس والمعنى؛ تعرَّض له الكاتب محمد محمد مستجاب، خاصة وأنه عاش بين زمنين مختلفين، يقول: «الخلفية التى تكونتُ عليها مختلفة بعض الشىء؛ كون والدى – رحمه الله – كاتبًا، فقد اعتدتُ أن الكتابة مصدر دخل، وهذا لا تحققه إلا فئة قليلة جدًا. كنت أذهب بكتاباته وأعود بالنقود، ومن بعده نجحتُ فى تحقيق ذلك لفترة، فكان لى دخل ثابت من كتابات وزوايا فى مجلات، وأنا أحب أموال الكتابة تحديدًا، بصرف النظر عن قيمتها المالية. كنت أظن أننى مع التقدم فى حياتى سأمضى مثل والدى، أعيش لأقرأ وأكتب وأتحدث عن الأدب، لكن المشاكل والصعوبات الحياتية كانت أكبر، اضطرتنى ذات يوم أن أهاتف الأستاذة فاطمة المعدول لأطلب منها عملًا معلَنًا عنه بمخازن نهضة مصر، لكنها نهرتنى بشدة وأفاقتنى، فغضبت من نفسى، لأن الكتابة حياتى؛ أسعد بها، وابنتى – كذلك – تسعد بها، لا يسعنى تركها. لكنها مثلما تفيد وتُسعِد يمكن أن تؤذى، ليس منها وإنما من أشخاص حولها. ما فعلته أن ألزمتُ نفسى بقدر من اعتزال الوسط الثقافى، لأنه سيئ وملىء بالسخافة والنميمة، عكس ما كنت أراه أيام والدى، فقد كانوا عمالقة وحفروا فى الصخر، وكان بإمكانهم منع بعضهم لكنهم لم يفعلوا ذلك. أنا لستُ ضد جيلى، ولكن ضد نميمتهم وجلساتهم غير المبررة، لذلك أكتفى حاليًا بشراء الكتب والقراءة بحرية، وأتفاعل مع مَن تعجبنى كتاباتهم. الحياة لم تعد تتحمل أى انكسار بسبب الغلاء والمسؤوليات، ولا تتحمل أن يأتيك الأذى ممن يجاورونك». الكاتبة الأسوانية تيسير النجار فكرت فى اعتزال الكتابة مبكرًا جدًا، قبل أن ينتصف عِقدها الثالث، توضح الأسباب: «بدأتُ النشر وأنا محمَّلة بتصورات غير واقعية للأمور، وبالتالى شعرتُ بعدم جدوى، وأن المردود ليس كما أملت، كنت أنتظر أن يتحقق تصورى الطفولى بأن يكون الجميع فى انتظار كتاباتى، لكن ذلك لا علاقة له بالواقع، بسبب كثرة الإصدارات وأن الأمور لا تسير بالكتابة فقط، وإنما لكل شخص دائرته. لا أقصد المعارضة والحديث عن الشللية بشكلها السيئ، لكن الإصدارات – بالتأكيد – لا تُقرأ كلها بنفس الشكل، لأسباب متعددة لا تتوقف على جودة العمل؛ فقد تُقرأ كتاباتى دون أن أعرف أو يُكتب عنها». استغرقت تيسير عامين فى محاولة اعتزال الكتابة، من خلال العمل وشغل نفسها فى أشياء أخرى بعيدة، لكن صدور مجموعتها القصصية «لا أسمع صوتى» أعادتها، تقول: «شعرتُ أننى لا أجد نفسى إلا فى الكتابة، ففكرة أن الكاتب يكتب من أجل نفسه ليست «إكليشيه». الأمر أشبه بمن يرمى رسائل فى البحر دون أن يعرف لمن ستصل، فهى فى النهاية ستجد طرفًا آخر يقرأها ويتأثر بها، قد يكون ذلك بشكل مغاير عما أنتظره، لكنى صِرتُ راضية بهذا الشكل. أما اعتزال الوسط الثقافى؛ فيمكن القول إننى معتزلة بالفعل، لأن مئات الكيلومترات تفصلنى عن العاصمة بسبب وجودى الجغرافى فى أسوان، وبالتالى لستُ منغمسة تمامًا، وغير محسوبة على شخص ضد آخر، تلك العلاقات المتشابكة فى الوسط الثقافى تبعدنا عن جوهر الكتابة نفسه، والذى يحتاج إلى تفرغ وتأمل، ولذلك أفضِّل الاستمرار فى الانعزال، أو بمعنى أكثر دقة؛ البُعد المكانى، بدلًا من الانغماس فى حروب وهمية من أجل مكاسب مزيفة». ومثلها الكاتب والمترجم إسلام عشرى؛ فكَّر كثيرًا فى اعتزال الكتابة نهائيًا، والحياة الأدبية بشكل عام، خاصة بعد وفاة مكاوى سعيد، كونه الرجل الذى أخرج له أول ثلاث قصص فى كتاب مجمع، وأشركه فى عدة ورش فيما بعد خاصة بالأدب، وكان يدفعه دفعًا إلى إنتاج عمل أدبى أول خاص به، لكن القدر لم يمهله وقتًا ليحضر صدور أى كتاب لعشرى فيما بعد. ويقول: «تغلبتُ رغم الألم على دافع العودة إلى مجال دراستى الأول «هندسة القوى والآلات الكهربية» وعاودتُ الكتابة من جديد. أظن أن الزمن هو العامل الأكبر فى موضوع الكتابة، وهو الفيصل فى عملية الحكم على جودة المنتج الأدبى، وكذلك عامل المثابرة والحس الساخر فى متابعة القيام بمثل هذا العمل العبثى، بعالم رقمانى، ما بعد حداثى جديد، فكثيرًا ما أرى منشورات من قبيل الاعتزام على التنحى عن حياة الأدب، ولكن ما يلبث فى الأخير أن يمسحها صاحبها، ويقرر التراجع، والعدول والعودة إلى مجال الكتابة، بأمر أشبه بندَّاهة تمسك المكتوبين، على وزن المذئوبين.. الذين حُكِم عليهم بالعودة إلى الأدب». يؤمن أحمد مجدى همام بجُملة «ماريو برجاس يوسا» التى يقول فيها إن الكتّاب يكتبون لأن الاستمرار فى الكتابة أسهل بكثير من التوقف عنها. يرى أنه ينتمى لهذا النوع من الكتّاب الذين يكتبون رغمًا عنهم، ولذلك لا يعتقد أنه قد يقلع عن الكتابة يومًا، بل على العكس تمامًا، كيف يتوقّف عن فعل يمثل كيانه وذاته وحقيقته؟! يقول: «أنا لست سوى كاتب، أتواصل مع الحياة بالورقة والقلم. وأجد نفسى أقوى وأكثر تماسكًا واتزانًا كلما كتبت. لكن على الجانب الآخر؛ أميل للانعزال عن الوسط الأدبى، على الرغم من أن لى بعض الأصدقاء من الكتّاب، وقد نبتت صداقتنا تلك من تعارفنا فى عالم الكتابة. ولكن.. بحكم طبيعتى الشخصية، وبحكم نشأتى فى بيئة بدوية بإحدى الدول العربية فى ثمانينيات القرن الماضى، بت معتادًا على هذا البراح الشاسع المحيط بى منذ النشأة، أحب هذه الحرية والفردانية، وأرى أن التحرك ضمن مجاميع وقطعان أمر يتنافى مع طبيعتى، ولذلك لم أعد أزور الندوات الثقافية كثيرًا، ولم أعد زبونًا دائمًا فى مقاهى وسط البلد كما كنت أفعل قبل 15 سنة». مع مرور السنوات فهم همام أنه ليس مطالبًا بأن بعيش حياة فنية ليكون فنانًا، يقول: «فى كل المدن التى عشت فيها، وهى كثيرة، ومتناثرة على خرائط 3 قارات، تصادف أن بيتى وقع دائمًا فى ضواحى المدينة، وعادة يكون واحدًا من البيوت الأخيرة التى لا يليها سوى العدم والفراغ أو بيوت بعيدة خارجة عن زمام المدينة. أنا ابن الضواحى، أحب الهامش وأطمئن إليه، هذه دائرتى الآمنة. أعرف أن كلامى يبدو غريبًا للبعض، سيما أولئك الكتّاب الذين يعيشون خارج القاهرة ويرون أن المركز ينبذهم ويقصيهم. وأنا لا أعتب عليهم وأتفهم موقفهم تمامًا، ولا أستطيع أن أعمم موقفى الداعم للعزلة وتقنين الاحتكاك بالوسط. كل ما هنالك أنه يناسبنى ويريحنى». واختتم أحمد مجدى همام حديثه باقتباس من أبى حيان التوحيدى ورد فى كتابه «الصداقة والصديق» يقول فيه: «وأما الكتَّاب وأهل العلم فإنهم إذا خلوا من التنافس، والتحاسد، والتمارى، والتماحك، فربما صحت لهم الصداقة، وظهر منهم الوفاء، وذلك قليل، وهذا القليل من الأصل قليل». وما بين السجن والملاذ يتحيَّر فكر الشاعرة شيرين العدوى تجاه الإبداع فى العزلة الأدبية، قائلة: «يعيش الكثير من الأدباء حالة من العزلة، سواء كانت طوعية أو مفروضة، وهى حالة تتجلى فى الانسحاب من الحياة الاجتماعية والتوجه نحو العالم الداخلى. هذه العزلة، وإن بدت للبعض كحالة مرضية، إلا أنها فى الحقيقة قد تكون محفزًا قويًا للإبداع. أتعرض لنوبة من هذه النوبات الانعزالية التى تجعلنى أعيد تأمل الواقع بانهزاماته وانتصاراته ثم أجسدها على الورق غير عابئة بما يُقال وقتها وإذا لم أفعل هذا أحس بحالة اكتئاب شديدة، فالملاذ هو القلم، والبيت هو الورق. كثيرًا ما قررت فى لحظات أسميها «قوة عكس الأدباء الآخرين؛ أن أنهى حياتى الأدبية وأحيا خالية الذهن والوفاض لكنى لم أستطع أن أكمل هذا، إذ أن انفصال الأديب عن محيطه هى حالة أشبه بقطع الوريد الذى يغذى الجسد، لأن الأدباء عائلة لها أمشاج وأواصر ودماء لا يستطيع الإنسان الانفصال عنها أو قطعها وكأنه ينتزع من أعضائه، ويختنق من انتهاء الهواء.فالأواصر التى تربط الأدباء وخصوصًا الشعراء دماء لا يشعر بها إلاهم ولا يفهمها غيرهم». تتذكر العدوى نماذج من أدباء وشعراء عاشوا تلك الحالة الانعزالية؛ بدءًا من أمير الشعراء أحمد شوقى، الذى اختار أن يعيش فترة منعزلًا فى قصره بالعباسية، حيث انغمس فى تأملاته وشعره، وكان يختفى قبل غروب الشمس كل يوم فى حال من التأمل؛ والروائية الجزائرية أحلام مستغانمى، التى عاشت فترات من الانطواء والتفكير العميق؛ وأديب نوبل نجيب محفوظ الذى فضَّل العزلة عن الضوضاء والزحام رغم أنه كان يعيش وينزل إلى قهوة الفيشاوى، لكنه رغم انغماسه فى التفاصيل كان يحيا حياة شبه منعزلة وصارمة حتى يستطيع نقل مشاعره على الورق؛ والروائى الألمانى الحائز على جائزة نوبل توماس مان الذى عانى من الاغتراب والوحدة، مما انعكس على أعماله الأدبية؛ والروائية الإنجليزية فرجينيا وولف التى عانت من اضطرابات نفسية دفعتها للعزلة، إلا أنها استطاعت خلالها أن تكتب رواياتها الشهيرة؛ والشاعر الأمريكى تشارلز بوكوفسكى الذى عاش حياة منفردة مليئة بالمشروبات الكحولية، لكنه استطاع أن يخلق عالمًا أدبيًا خاصًا به، وغيرهم. تلك الأمثلة التى ذكرتها العدوى تراها دليلًا على أن العزلة الأدبية ليست بالضرورة أمرًا سلبيًا، بل قد تكون مفتاحًا للإبداع والابتكار، فالكثير من الأعمال الأدبية الخالدة وُلدت فى ظروف من العزلة والانطواء، نتيجة تأثيرها الذى يزيد من التعمق فى الذات ويساعد الأدباء على فهم أنفسهم وعالمهم الداخلى بشكل أفضل، مما ينعكس على عمق كتاباتهم، وكذلك توفير الوقت الكافى للكتابة والتأمل، وخلق عوالم جديدة وخيالية للكاتب. وتُجمل شيرين العدوى أسباب العزلة الأدبية فى: البحث عن الإلهام فى مكان هادئ ومستقر بعيدًا عن ضوضاء الحياة، حتى يتمكنوا من التركيز على كتاباتهم؛ أو الهروب من الواقع ومشاكل الحياة اليومية أو الصراعات الداخلية؛ أو نتيجة الاضطرابات النفسية التى يعانى منها بعض الأدباء مثل الاكتئاب أو القلق، مما يدفعهم للعزلة، والتى تنتج من الهوة بين اليوتوبيا التى يريد أن يحيا فيها والواقع المعاش.