"هل يساعدنا الأدب في الحياة وهل يساعد الأدباء أنفسهم" ؟!..سؤال يطرح من حين لآخر ويتطلب رحلة في محطات الحياة الأدبية ووجوه شهيرة لمبدعين وصف بعضهم بأنهم "بؤساء"، كما أنه يثير تأملات مثقفين كبار في العالم حول معنى الكتابة ووظائف الأدب والإبداع في العصر الرقمي وتحديات ثورة الاتصالات. ويقول القاص والناقد والأكاديمي البريطاني تيم باركز الذي ولد عام 1954 في مانشستر إن لهذا السؤال الكبير ظلاله ومشتقاته مثل:"هل من الحكمة الاستمرار في الكتابة أم أن الأمر مجرد مضيعة للوقت؟!..واذا كان الأمر كذلك فما الذي يتعين فعله أو الاهتمام به" ؟!. ولعل الإجابة على سؤال كهذا يتطلب التعرف على آراء الكتاب الكبار ونظراتهم للأدب والكتابة ومدى استفادتهم من رحلتهم الطويلة مع القلم، كما فعل تيم باركز الذي قال بنهجه الأكاديمي المنضبط أن التسرع في الإجابة قد يفضي لنتائج غير سارة. فكثير من الكتاب والمبدعين بل والمفكرين والفلاسفة عاشوا حياة يمكن وصفها "بالبؤس والتعاسة" حتى أقدم بعضهم على محاولات انتحار مثل الفيلسوف والكاتب المسرحي الروماني سينيكا ووصولا للكاتب والروائي الأمريكي ديفيد فوستر والاس الذي قضى في الثاني عشر من سبتمبر عام 2008 والقائمة تضم أسماء خالدة في تاريخ الأدب مثل ارنست هيمنجواي والفرنسي جيرار دي نرفال كما أنها لاتفرق بين ذكور وإناث فهي تحوي أسماء مثل الكاتبة والشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث التي قضت عام 1963. كما لايمكن وصف الحياة التي عاشها أديب كبير مثل تشارلز ديكنز "بالحياة السعيدة" مع أنه يعد بإجماع النقاد أعظم الروائيين الإنجليز في العصر الفيكتوري، فيما تنسحب الحالة ذاتها الى حد كبير على الأديب الروسي العظيم ليو تولستوي والكاتب التشيكي فرانز كافكا والروائي والشاعر الأمريكي ويليام فوكنر ومواطنه الكاتب والشاعر سكوت فيتزجيرالد، وكذلك الكاتب والشاعر الأيرلندي جيمس جويس في قائمة طويلة من الأسماء الأدبية التي حلقت في سماء الشهرة عبر العالم. والذاكرة الأدبية والثقافية المصرية والعربية تحتفظ بأسماء لمبدعين عانوا من ويلات الحياة، ومن أشهرهم الشاعر المصري عبدالحميد الديب الذي ولد عام 1898 وقضى عام 1943 ولقب "بشاعر البؤس" والشاعر العراقي بدر شاكر السياب الذي ولد في نهاية عام 1926 وقضى في نهاية عام 1964. وفي المقابل ورغم بعض المتاعب لايمكن وصف الحياة التي عاشها مبدعون كتبوا عن البؤس مثل الأديب الفرنسي الكبير فيكتور هوجو صاحب رواية "البؤساء" والذي دفن في "مقبرة العظماء" عام 1885 بأنها كانت حياة تعسة أو بائسة. وكذلك لايمكن وصف حياة أحد أشهر الكتاب الايطاليين في القرن العشرين وهو البرتو مورافيا "بالحياة البائية أو التعسة" والأمر ذاته ينطبق على مواطنته الكاتبة ناتاليا جينزبورج ناهيك عن الكاتب والروائي الروسي فيودر دوستويفسكي صاحب "الجريمة والعقاب" و"الأخوة كارامازوف" وأمير الشعراء العرب أحمد شوقي والنوبلي المصري وهرم الرواية العربية نجيب محفوظ ومواطنه "أمير القصة القصيرة العربية" الدكتور يوسف ادريس. وهاهو الكاتب والأكاديمي البريطاني تيم باركز يعود ليوضح أن الإجابة على سؤال مثل "هل يساعدنا الأدب في الحياة" قد تتوقف على نظرتنا لمفاهيم ووظائف الأدب ذاته ومن ثم وظائف الإبداع حتى وإن عانى بعض الأدباء والمبدعين من معطيات حياة بائسة أو بعيدة عن السعادة الشخصية. فالأدب أو الإبداع ككل في نظر هذا الكاتب والناقد البريطاني يتجاوز معطيات الحياة الشخصية للأديب او المبدع وحتى لو عانى بعض الأدباء والمبدعين من محن وأوضاع قاسية في تفاصيل حيواتهم وهي مفارقة محزنة على اي حال كما انها "مشحونة بالدراما" لأن بعضهم يكتب عن السعادة ويسعى لاضفاء تلاوين البهجة في الحياة الانسانية ككل. وهذا النوع من المفارقات حاضر دوما في قلب الأدب والابداع، وإن أشار تيم باركز الى ان الأديب الذي قد يتعرض في حياته الشخصية لتلك المفارقات وهو يكتب عنها انما يعبر عن حقيقة لاسبيل للتشكيك فيها آلا وهي أن أي أديب او مبدع مهما كان هو في نهاية المطاف "انسان مثل غيره من البشر". ومن ثم فلن يكون من الصواب الطعن أو التشكيك في أهمية الأدب والابداع ككل حتى وإن عانى بعض الأدباء والمبدعين من تفاصيل حياة بائسة أو بعيدة عما تعارف عليه الناس بشأن معاني السعادة وهاهو تيم باركز يعيد للأذهان اننا نشعر بالمتعة ونحن نقرأ بعض ما تركه هؤلاء الأدباء البؤساء مثل فرانز كافكا ونعرف معاني الدهشة مع روائع في الكتابة تركها خلفه هذا الكاتب التشيكي الذي قضى في عمر مبكر مثل رائعة "المسخ". ولاريب أن الأمر ذاته ينطبق على أدباء ومبدعين وصفوا بأنهم كانوا من "البؤساء" لكنهم قدموا لهذا العالم مايسعده من روائع في الكتابة مثل ويليام فوكنر وجيمس جويس وديفيد فوستر والاس ناهيك عن تولستوي وسكوت فيتزجيرالد فيما يلفت تيم باركز الى ان "سيد النثر والشعر الانجليزي ويليام شكسبير" لم يغفل في ثنايا رحلته الابداعية عن معالجة تلك القضية. فالمبدع الحقيقي هو سبب من أسباب السعادة في هذا العالم حتى ولو عانى هو شخصيا من التعاسة أو كتب عنها لتتحول "بنشوة الابداع الى عزاء ونوع من السلوى للمتألمين"، فيما تقول مبدعة مصرية هي الكاتبة الدكتورة نوال السعداوي:"الكتابة معناها أن اعيش مكتفية بذاتي". وتضيف نوال السعداوي:"لم تكن الكتابة عندي مهنة مثل الطب وإنما كانت هي الوجود او العدم" وتتابع أنها عندما لزمت الفراش في أيام من شهر يوليو الماضي بعد اجراء عملية جراحية في عينها منعتها من رؤية الحروف او القراءة والكتابة اصبحت "كجنين يصارع الظلمة ليخرج الى الوجود وضوء الشمس". ولعل مثقفة مصرية كالدكتورة نوال السعداوي تقدم بما كتبته نوعا من الإجابة لسؤال يردده البعض أيضا من حين لآخر مثل "هل هناك جدوى للكتابة " ؟!..والحقيقة أن السؤال مستمر عبر مراحل وعقود زمنية عديدة وطرح في الانتقال من الصحافة المكتوبة الى الاذاعة ثم ظهور "الراديو الترانزسستور" الذي جعل عالمنا قرية عالمية في نهاية عقد الخمسينيات من القرن الماضي وفق وصف مارشال ماكلوهان الباحث الكندي الشهير في نظريات وسائل الاتصال الجماهيري. وكان من الطبيعي أيضا ان يطرح السؤال ذاته من جانب العديد من الباحثين في ظل "ثورة التلفاز" ثم "الثورة الرقمية" حيث عالم الانترنت وما يصفه بعض الكتاب العرب "ببروز خطاب التغريدات الموجز ايجازا شديدا والتناص داخله بين اللغة الرقمية واللغة العربية والعامية ومفرداتها". وإذ افضت هذه الثورة الرقمية ضمن تداعيات عديدة وعميقة "لفجوات بين الكتابة الرقمية وعالمها الافتراضي وتفاعلاته واختصاراته الوجيزة وانتاج الدلالة داخله وبين الكتابة الورقية وتراجع مستمر في قراء الصحف والمجلات وتحولهم من الورقي الى الرقمي لاسيما بين الأجيال الجديدة والشابة"، فإن هناك من يشير أيضا لتراجع أعداد الكتاب" ذوي الأساليب اللغوية الخاصة" و"سطوة الكتابة المتشابهة التي لاتستطيع التمييز بين كتابها على نحو أدى الى شيوع نمط كتابي متشابه يدفع الى الصد عن القراءة والتلقي". والجدل الثقافي مطلوب في قضية وجودية لأي كاتب مثل "جدوى الكتابة" وفي حالة غياب اي اهتمام بالكتابة لابد وأن يشعر الكاتب بالاحباط والاغتراب على حد وصف المفكر والكاتب المصري الراحل السيد يسين الذي لم يخف يوما ما حرصه الشديد على قراءة تعليقات القراء لما يكتبه على الشبكة الالكترونية وعبر بريده الالكتروني ولو كانت تحوي انتقادات عنيفة ورافضة لآرائه حتى لايعاني من ظاهرة "اغتراب الكاتب". ومع التساؤلات القلقة حتى فى الصحافة الثقافية الغربية عن جدوى الكتابة وازمة الكلمة تساءل الكاتب والناقد والأكاديمى البريطانى تيم باركز عما اذا كان العالم بحاجة لروايات وقصص ؟!..ومن وجهة نظر الكاتب والروائى الأمريكى جوناثان فرانزن فإن "العالم يحتاج بشدة للكتابة الابداعية القصصية"، غير أن تيم باركز عاد ليتساءل عن طبيعة هذه الحاجة وما الذى سيحدث إن لم تلب ؟! مشيرا لرأى يذهب الى أن أغلب القراء يطالعون القصص التى تعزز قناعاتهم ولاتثير أى شكوك فى مدى صحة هذه القناعات. وأضاف فى طرح بمجلة "نيويورك ريفيو" أن الوسائط الاتصالية الجديدة باتت فى حد ذاتها مشكلة فكاتب مثل جوناثان فرانزن يتهم شبكة الانترنت وتويتر وفيس بوك بأنها تلحق اضرارا بالثقافة الجادة ومتعة الكتاب الورقى. وقبل ذلك بكثير كان الروائى البريطانى دى.اتش.لورانس قد هاجم بشدة روايات الكاتب الروسى العظيم ليو تولستوى. معتبرا انها "لاأخلاقية وتطفح بالشر والفساد" ولم يتوقف الجدل حول جدوى الكلمة ومعنى الإبداع فيما رأى تيم باركز أنه على المستوى الشخصى بات مقتنعا بأن الكتابة هامة شريطة أن تتمتع بمستوى رفيع وإلا فالصمت افضل. وفي سياق مايعرف "بعلم اجتماع القراءة" ومتغيرات "مابعد الحداثة" في الغرب هناك الحاح على ضرورة الا يقدم الكاتب او المؤلف نصا مغلقا محملا بالأحكام القاطعة وزاخرا بالنتائج النهائية والتي عادة ماتقوم على وهم أن المؤلف يمتلك اليقين ويعرف الحقيقة المطلقة. فالكاتب في ظل هذه المتغيرات عليه أن يقدم نصا مفتوحا بمعنى تضمنه لكتابة قد لاتكون واضحة تماما بل يستحسن أن تكون غامضة نوعا ما حتى يتاح للقارئ أن يشارك بفعالية من خلال عملية التأويل في قراءة النص وهو تصور للكتابة قد لايكون بعيدا عن تصور الكاتب والروائي الايطالي الراحل ايتالو كالفينو عن ضرورة عدم اكتمال النص لأن العالم ذاته غير مكتمل ويعاني من نقص ما. أما الكاتبة المصرية الكبيرة الدكتورة نوال السعداوي صاحبة ال54 كتابا والتي بدأت الكتابة منذ الطفولة وكتبت اول قصة وهي في الثالثة عشرة من عمرها ونالت الكثير من الجوائز العالمية فقالت في مقابلة صحفية ان الجائزة الوحيدة التي تسعدها ان "تستوقفني فتاة شابة في الطريق وتقول لي كتابك غير حياتي". ونوال السعداوي التي جمعت مابين الطب والأدب والابداع تقول:"مهما بلغت الآلام والتضحيات في حياتي فهي لاتساوي لذة الكتابة والابداع" معتبرة أن "لذة الابداع تفوق كل متع الدنيا". ووسط أحاديث ونقاشات عن جدوى الكتابة قال الكاتب الصحفى اللبنانى سمير عطا الله:"نحن نكتب للذين يؤمنون بأن الإنسان حر وله كرامة بشرية وله حياة يحياها " فيما كان هذا الكاتب المتميز في جريدة الشرق الأوسط التي تصدر من لندن قد استعاد ذكرى الشاعر اللبنانى خليل حاوى الذى لم يطق الحياة أمام مشهد الدبابات الاسرائيلية فى بيروت عام 1982 فأطلق النار على نفسه "وطائر الشعر الجميل". ويبدو أن العصر الرقمي بمتغيراته الحادة وتغيراته المتلاحقة يفرض بالفعل تحديات ابداعية على الكتاب تتطلب عدة ابداعية ومعرفية وأدوات تحليلية أكثر نضجا ومواءمة بين شروط الابداع ومتطلبات العصر بل ومتغيرات العلاقة بين الكاتب والقارئ فى المشهد الجديد والواقع المتحول مع التأكيد على ان الابداع ليس وصفة جاهزة وانما عملية معقدة لايجوز اختزالها فى تسجيل الواقع او استنساخه أو اعادة انتاجه. ومن الأسئلة التي قد تفرض نفسها على الكاتب أو المبدع: هل تريد ان تعيش منعزلا أم تكون من رواية العالم الكبرى..أليست قيمة المبدع او جزء من قيمته أن مشاعره لاتتوقف عند حدوده فكيف يمكن للكاتب أو المبدع ان يغيب نفسه عن رواية العالم الكبرى؟. ورغم كل التحديات فإن الكتابة مازالت "أداة تغيير للإنسان والمجتمع" وكثيرا ما يتحول الأدب الى عنوان للحقيقة وكثيرا مايكشف عن تلك الأشياء التي لاترى إلا غدا !.