على مدار الأسابيع كانت مصر وبالتحديد مدينة العلمين قبلة الاتصالات الدبلوماسية واللقاءات السياسية الداعية والساعية لوقف إطلاق النار فى غزة، حيث استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسى رئيس الوزراء العراقى محمد شياع السودانى، وكان محور الحديث هو التهدئة فى المنطقة، وخفض التصعيد الإقليمى وقيام المجتمع الدولى بدوره لإتمام اتفاق التهدئة ووقف إطلاق النار فى غزة، وكذلك وقف العدوان الإسرائيلى على الضفة الغربية، وإنهاء المأساة الإنسانية فى الأراضى الفلسطينية. كما تلقى الرئيس السيسى اتصالين فى غاية الأهمية من الرئيس الأمريكى جو بايدن، والرئيس الألمانى أولاف شولتز لمناقشة دعم الدور المصرى فى التحركات المشتركة الداعية لحفظ الأمن فى الإقليم ودعم جهود السلام فى الشرق الأوسط، ودعم مسار التوصل إلى اتفاق لتبادل الرهائن والمحتجزين وخفض التصعيد بالمنطقة. الزيارات والاتصالات المكثفة بالقاهرة مؤشر على قوة الدور المصرى فى الشرق الأوسط، والثقة الدولية فى قدرة القاهرة على معالجة مخاطر وتعقيدات الموقف الإقليمى المشتعل، وفى المقابل وضعت مصر على الطاولة الدولية مسارات الحل وفق الثوابت المصرية، التى لم تتغير منذ اندلاع الصراع فى بدايات القرن الماضى وحتى اللحظة، وتتلخص فى رفض التهجير القسرى للفلسطينيين، والتزام كل الأطراف بقرارات الشرعية الدولية، وعلى رأسها إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود العام 1967 وعاصمتها القدسالشرقية، وكان التحذير المصرى واضحًا قبل اندلاع الأحداث فى 7 أكتوبر الماضى، إن التأخير فى إقامة الدولة الفلسطينية يضع المنطقة فى خطر دائم، ويجعل السلام والأمن حلمين بعيدي المنال. وقد حققت التحركات المستمرة والدور المحورى -الذى يضطلع به الرئيس السيسى من أجل إحلال السلام- نجاحات مهمة فى تعميق العلاقات المصرية الأمريكية، والمصرية الأوروبية بشكل عام، وأصبح الحديث فى مختلف الدوائر ينطلق من أن العلاقات المصرية الأمريكية تمثل حجر الزاوية للاستقرار الإقليمى، وأن مصر قادرة عبر علاقاتها المميزة مع كل الأطراف على حفظ الاستقرار والأمن فى الإقليم، ولها دور مهم فى حل الأزمة بغزة وغيرها من الأزمات المشتعلة فى المنطقة. واتضح للجميع بمن فيهم الولاياتالمتحدة أن التعنت الإسرائيلى هو العقبة أمام الوصول إلى اتفاق للتهدئة، فبنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى يبحث عن توسيع الصراع، والبقاء فى السلطة أطول فترة ممكنة باستجابته للتيارات المتطرفة فى حكومته، ومن جهتها قبلت حماس المبادرة الأمريكية التى طرحها الرئيس بايدن، وهى تنطلق من روح المبادرة المصرية الهادفة للوصول إلى تهدئة وتبادل للمحتجزين وتبريد الصراع، لكن نتنيناهو تعامل بصلف مع فكرة التهدئة، ورفض تبادل المحتجزين، رغم ضغط عائلات الأسرى، ويبحث عن نصر عسكرى بعيد المنال، ويتلاعب بالمبادرة الأمريكية، ويستغل ظرف الانتخابات والمائة يوم الأخيرة للرئيس بايدن من أجل الهروب من أى التزام، ويستمر فى إشعال فتيل الانفجار القادم. المتأمل فى حال المنطقة يجد أن الشرق الأوسط تغير كثيرًا منذ أحداث العام 2011، دول تفككت وصراعات اشتعلت وصعدت الميليشيات إلى السطح، وأصبح لها قرار فى الحرب والسلام، وتغولت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على الحق الفلسطينى، وتداخلت أنظمة إقليمية فى المشهد المعقد، وبحثت عن مكاسب تفاوضية مع القوى العظمى، حتى تحولت المنطقة إلى حقل تجارب كبير لسياسات قوى متعددة، زادت المشهد تعقيدًا، واقتربت به من حافة الهاوية، وأصبحت القضية الفلسطينية رهينة قرارات قادمة من خارج الأراضى المحتلة، وأصبحت قنبلة موقوتة تنتظر إشارة الانفجار مرة بعد أخرى. تتحمل مصر العبء الأكبر فى تهدئة الشرق الأوسط، تقف وتعمل من أجل السلام، وهى تتحمل نزيفا واستنزافا للمقدرات يلازمها منذ اشتعال المنطقة بالفوضى عام 2011، تتعامل مع تعقيدات الموقف الإقليمى، وهى محاطة بحدود ملتهبة ودول تتفكك وجوار يعيش فى صراع على النفوذ والموارد، فبنظرة عابرة على خريطة مصر وما يجرى فى الجوارين الليبيى والسودانى وما يجرى أيضًا فى البحر الأحمر تكشف حجم التحديات غير المسبوقة التى تعيشها مصر فى محيطها، وتأثيره المباشر عليها وعلى المنطقة. لا أتحدث هنا عن مؤامرة لتفكيك الدول العربية، كما كان يتم الحديث عنه فى السابق، ولكن أتحدث عن واقع نعيشه جميعًا منذ 2011، فالمخطط حقيقى، والدول تفككت من الداخل، وكانت تنظيمات وجماعات مثل الإخوان الإرهابية تمثل رأس حربة فى تطبيق ذلك المخطط بالفعل، وفتحت أفكارها المتشددة المجال أمام ظهور تنظيمات أشد تطرفًا وخطورة مثل داعش، وفشلت التدخلات الدولية والأممية فى تهدئة الأوضاع داخل تلك الدول، وفشلت فى إعادتها مرة أخرى، وأصبح مطلوبًا من مصر التعامل مع حالة التفكك الإقليمى، كما تتعامل مع الإقليم المشتعل، وهى عملية شاقة وشديدة التعقيد. صمدت مصر بثبات فى مواجهة إعصار التفكك والتشرذم العاصف بالمنطقة، كشفت حقيقة ما يجرى حولها، وتجاوزت بهدوء محاولات الاستدراج والتوريط، تحركت بثبات انفعالى مبهر ومدهش، وفرضت احترام أمنها القومى على الجميع، وغيرت خريطة التحالفات وفق مصالحها، واختارت الوقوف فى المربع الصحيح كدولة قوية ومحورية فى إقليمها وقارتها الإفريقية. وانتقلت من نقطة الثبات إلى نقطة الحركة فى دعم مؤسسات الدولة الوطنية داخل الدول المفككة، ورفضت تقسيم الوطن الواحد، وتحدثت بوضوح عن رفض التدخل الخارجى فى الشئون الداخلية لتلك الدول، وبكل صراحة كانت تلك التدخلات الخارجية يصاحبها فى كثير من الأحيان (الخطأ فى التقدير)، وهو ما حدث على سبيل المثال من جانب (الناتو) فى ليبيا، وغيرها من التدخلات التى دفعت نحو التقسيم، وفتحت الباب على زيادة التناحر والصراعات الداخلية، دون وضع رؤية موحدة للحل، تحافظ على الوحدة ولا تشجع على التفكك. يمكننا القول إن مصر طبقت مقولة المفكر الصينى الأشهر (صن تزو) صاحب كتاب (فن الحرب) بإخضاع مخطط التفكك دون قتال، وقدمت نموذجًا فى مواجهته بثبات، دون الانجرار إلى دفع فاتورة إنسانية باهظة أو تعريض أرواح الناس للخطر، بل والانتصار على المخطط بتقديم النموذج المصرى باعتباره تجربة يمكن القياس عليها وتطبيقها، بما تتضمنه من أفكار ترفض المساس بالمؤسسات الوطنية، وفى مقدمتها القوات المسلحة، والالتزام بالدستور والقانون فى كل تحركات الدولة، واحتواء كل التيارات فى تجربة إصلاح سياسى حقيقي، تعمل على إعلاء قيمة الوطن على مصالح الأشخاص، مع الاهتمام بالتنمية والعمل المستمر، بما يسمح بتطور أداء الدولة وتعظيم قدرتها على تقديم خدمات أفضل لمواطنيها، مع الحرص على توفير جودة حياة فى ظل أصعب الظروف والتحديات الاقتصادية. لا أبالغ إذا قلت إن الإعصار لا يزال يعصف بالمنطقة، وإن القادم بعد حرب غزة لن يكون كما قبلها، فنحن أمام محطة تاريخية جديدة، والعالم على شفا تغيير كبير فى السياسات وتشكيل التحالفات، والرهان على مصر كبير فى الاستفادة من دورها الداعم للسلم والأمن الإقليميين، وقدرتها على إسكات البنادق بسياستها المتزنة واحترامها لمصالح الغير، وهو ما يتطلب تفكيرًا مختلفًا فى المستقبل، ينطلق من تعظيم قدرة مصر السياسية والاقتصادية، فهى معامل أمان لشعبها وشعوب المنطقتين العربية والإفريقية، التى تتطلع للحصول على مساعدة مصر ودعمها فى مواجهة الأخطار المتزايدة، وذلك هو دورنا التاريخى، الذى لا يمكن أن نغيب عنه مهما كانت الظروف والتحديات.