عاطف محمد عبد المجيد يجب أن أكتب لكَ مقدمة كتابك على قطعة من حجر الجرانيت الذى استخدمه أجدادك الفراعنة لتشييد الحضارة وبناء المجد، ف «ملك القلوب» كما أسمتك الأميرة ديانا ذات يوم هو أيقونة إنسانية نعتز بها جميعًا، ونرى أن سيرته الذاتية هى ذخيرة أكاديمية وأخلاقية للأجيال القادمة. هذا ما يقوله د. مصطفى الفقى فى تقديمه لكتاب «مذكرات مجدى يعقوب..جراح خارج السرب» الصادر عن الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، واصفًا فيه يعقوب بأنه شخصية استثنائية فى تاريخ العلم والطب تسعى إلى رفع المعاناة عن البشر، وتقوم برعاية صحة الإنسان من خلال أكثر الأجهزة أهمية فى جسده وهو القلب. بينما تكتب السيدة مارى آرتشر فى تقديمها للطبعة الإنجليزية للكتاب، إن مجدى يعقوب عبقري، مغامر، طبيب مُلهِم، جراح قلب رائد، عالم صاحب ريادة فى الطب الحيوي، صديق رؤساء وملوك ووزراء وفقراء وبائسين، وهو رجل فريد متعدد الخصال. مجدى يعقوب طبيب الفقراء الذى كرمته بريطانيا بمنحه لقب «سير»، وكتب سيرته هنا كل من سيمون بيرسن وفيونا جورمان من خلال عدد من الحوارات التى أجرياها معه شخصيًّا، وعدد آخر من الحوارات التى أجرياها مع عدد من مرضاه وأقاربهم، وعدد ممن عملوا معه، قائلين إن هذه هى سيرته وقصة حياته مثلما يحكيها، وقصة الذين عمل معهم وتركوا فيه أثرًا، قصة يرجو أن تُلهم غيره فيسير على دربه، واصفين إياها بأنها قصة رجل متواضع عاش يراكم المعرفة مثلما عاش كثيرون يراكمون الثروة، واصفين إياه بأنه طبيب يُعلى من قيمة المجتمع، ويؤمن بالنضال من أجل عالم أكثر إنصافًا، كان مختلفًا منذ بدايته، وتلك صفة اصطبغت بها حياته وهو راشد وتشكلت بها حياته العملية جراحًا وعالِمًا، رغم أن معلميه كانوا يرونه متأخرًا عقليًّا، لا يطرح أسئلة ولا يتكلم مع أحد، طالبين من أهله عرضه على معالج أو طبيب نفسي، غير أن هذا الولد الجالس فى آخر الفصل ولا ينطق بحرف أصبح الأول على الفصل وتحدثت نتائجه عن نفسها إذ ظن بعضهم أنه طالب غشاش. ملكات دراسية ما حفّز مجدى يعقوب وهو صغير على الإصرار على النجاح وعلى أن يصبح جراح قلب ماهر هو موت عمته يوجين بسبب مرض فى القلب، غير أنه حين أخبر أباه حبيب بعزمه هذا قال له: لا يمكن أن تفعل ذلك وأنت على ما أنت عليه من فوضى. لا يمكن أن تصبح جراح قلب. تركيبتك المزاجية لا تلائم ذلك. مجدى يعقوب الذى لا يطيق منظر الدم وهو خارج غرفة العمليات، ظهرت ملكاته الدراسية المبكرة، حيث كتب عن النشاط الإشعاعي، وحاز على منحة دراسية تقدم إليها آلاف الطلاب فى العام 1951 وكان من العشرة الأوائل، وهكذا وبعد وفاة عمته بعشر سنوات إلا، والغريب ابن بلبيس، الذى قرر أن يصبح جراح قلب وهو فى الخامسة عشر من عمره، قد وضع قدمه على الطريق. الطب والإنسانية. المذكرات التى ترصد حياة مجدى يعقوب خطوة بخطوة منذ ولادته وحتى أيامه هذه، نعرف منها أن والده حبيب كان قد قاوم فكرة ذهابه إلى أوروبا قائلًا له إنه أمامه مستقبل مشرق فى جامعة القاهرة، وأنه اجتنب السياسة إلى حد كبير، وركز فى دراسته الطبية، وأنه لم يحب مخالطة السياسيين، بل فضّل أن ينصب تركيزه على الطب والإنسانية، وأنه أصبح نجمًا جراحيًّا ذا شهرة يُحسد عليها، وأنه ألقى محاضرات حول زراعة القلب فى مؤتمرات الجراحة الدولية، وأنه يرى أن نظام الرعاية الصحية الشامل حق إنساني، فإذا لم يتوافر ذلك فلا كرامة، مثلما يرى أن العلم هو البحث عن الحقيقة، ولا وصول إلى الحقيقة المطلقة، وأن الحقيقة لا تكف عن المضيّ قُدمًا، وعلى المرء أن ينشر ما يعرفه شريطة ألا يقول إنه الحقيقة. فليسمِّه المعرفة الراهنة، ولنواصل الطيران لحاقًا بماعت، بحثًا عن الحقيقة المطلقة. ثلاثة أعمدة مجدى يعقوب الذى تعلم أن الجراحة فى حقيقتها حالة ذهنية، ولذا لم يرفع صوته أبدًا فى أحد، وكان يطلب من زملائه ألا يتكلموا، ويُشغّل موسيقى كلاسيكية، وكان يحاول دائمًا أن يكون منهجيًّا وحاسمًا، اشترى خاتم زواجه بخمسة دولارات، وأول ما سكن هو وزوجته سكنا فى شقة من غرفة واحدة فى الطابق السابع عشر فى عمارة سكنية شاهقة بجنوب لندن، وكان جراح قلب عالميًّا ملء السمع والبصر، يمقت الصراع ويتجنب المصادمات ما استطاع، ولديه من التواضع ما يجعله يعترف بأخطائه، يغالى فى الابتكار ويبحث طوال الوقت عن طريقة أفضل للعمل، ويردد دائمًا: يأتى على المرء وقت لا يجد من خيار إلا أن يحاول فى شيء جديد، ممتلكًا رؤية بعيدة المدى لإمكانات جراحة القلب. مجدى يعقوب واجه فى حياته تحديات وصعوبات كثيرة، تمكن من تخطيها جميعها، متنقلًا من أرض إلى أرض أرقى منها، مقيمًا مسيرته المهنية على ثلاثة أعمدة وهى الابتكار، البحث، ثم العلم الأساسي، وقد كان، حسب قول البروفيسور السير نيلش سامانى المدير الطبى لمؤسسة القلب البريطانية، رائدًا فى تحسين جراحة القلب على المستوى الدولي، خاصة فى البلاد الفقيرة، حيث بذل فيها وقته وطاقته الهائلة، وإن تأثيره العالمى فى المجال منقطع النظير، وهو ما ينعكس فى كثير من التكريمات المرموقة التى حصل عليها فى المملكة المتحدة وغيرها. جراح القلب العالمى الذى لا يحتمل أن يكون عاديًّا مما جعله يصر على الإفراط فى العمل والسفر فى العالم بجنون، يمكن الآن العثور على اسمه فوق الكثير من المبانى فى أرجاء العالم، إذ تستعمله منظمات إنسانية عديدة، كما يستعمل اسمه ومكانته لدعم قضايا عمله الخيري، برع فى مجالات متنوعة تنوع تجديد عضلة القلب، بيولوجيا الخلايا الجذعية، هندسة الأنسجة، علم مناعة زراعة الأعضاء، وعلى مدار عمله أسس مراكز بحثية، ونشر أكثر من ألف ورقة بحثية طبية وعلمية أفادت الجراحين والعلماء فى بلدان كثيرة، ولا يزال سعيه وراء الحقيقة سعيًا لا هوادة فيه، مثلما كان دائمًا. الغريب بعد أن أعلن شغفى واهتمامى بكتابة المذكرات التى دائمًا ما تحمل خبرات الآخرين، وفيها من التجارب ما فيه فوائد كثيرة يمكننا أن نستفيد منها، أحيى أحمد شافعى الذى أنجز ترجمة هذه المذكرات ترجمة سلسة ورائقة، كما لو كانت المذكرات قد كُتبت فى الأساس باللغة العربية، وأذكر هنا ما قالته مارى آرتشر عن مجدى يعقوب من أنه لمس من قلوب الناس أكثر مما لمس أى شخص عداه، بالمعنى الحرفى للمس القلوب، غير أن هذا التعبير قادر، حرفيًّا واستعاريًّا، على أن يوجز حياة هذا الرجل الفريد الذى يبقى بالنسبة لها رجلًا عظيمًا ذا قلب عظيم، ولا بد أن يشعروا جميعًا بالامتنان لكونه رسا على شواطئ بلدهم ذات يوم. وهكذا هو الغريب ابن بلبيس البلدة الصغيرة الواقعة على أحد فرعيْ النيل فى شمال مصر، ذلك الذى قال له أبوه إنه يفتقر إلى المزاج اللائق ليكون جراح قلب، لم يعد غريبًا، وصار من أشهر، إن لم يكن هو الأشهر، جراحى القلب فى العالم.