هناك عدد قليل من الكتاب الذين يمكن اعتبارهم مؤثرين مثل جيمس بالدوين، حتى بعد عقود من وفاته. غالبًا ما كان يُنظر إلى هذا المؤلف المولود في هارلم على أنه سابق لعصره، فهو رجل تمكن من حسم الضجيج حول قضايا العرق والهوية والعدالة الاجتماعية وتوفير إطار للتشكيك في السياسة والسلطة. هذا العام، في الثاني من أغسطس، كان من المفترض أن يحتفل بالدوين بعيد ميلاده ال 100. توفي بالدوين في ديسمبر 1987 في منزله في سان بول دي فونس في جنوبفرنسا عن عمر يناهز 63 عامًا، تاركًا إرثًا من الفن والنشاط والحب الذي يتدفق عبر أعماله. بينما كان بالدوين معروفًا على نطاق واسع كصوت رئيسي في حركة الحقوق المدنية الذي سار بجانب مالكولم إكس ومارتن لوثر كينج جونيور، فإن الحقيقة الأقل شهرة عنه كانت تضامنه الدائم مع فلسطين وكيف نظر إلى أوجه التشابه القوية بين حركات التحرير السوداء والفلسطينية - متحدين في نضالهم ضد القمع والإمبريالية. في مقال مثير للجدل في ذلك الوقت عام 1979 لمجلة The Nation، كتب بالدوين: لكن دولة إسرائيل لم تُخلق لإنقاذ اليهود؛ لقد أُنشئت لإنقاذ المصالح الغربية. هذا ما أصبح واضحًا (ولا بد أن أقول إنه كان واضحاً لى دوماً). فقد ظل الفلسطينيون يدفعون ثمن سياسة «فرق تسد» الاستعمارية البريطانية، وضمير أوروبا المسيحى المذنب لأكثر من ثلاثين عاماً. كان بالدوين يكتب عن إسرائيل وفلسطين منذ أوائل الستينيات، لكن آرائه تغيرت بشكل جذرى مع مرور الوقت. ففي مقالاته السابقة، لم يذكر الفلسطينيون إلا قليلاً. وفى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، أصبح بالدوين، مثل العديد من المثقفين الأميركيين السود، ناقداً لإسرائيل ومؤيداً للفلسطينيين. قالت لى نادية الأحمد، الباحثة الفلسطينية والناشطة وأستاذة مساعد فى دراسات الأفريكانية ودراسات الشرق الأوسط فى ديكنسون: «بمجرد أن غير بالدوين رأيه عن إسرائيل، لم يتوقف أبدًا عن انتقادها. كان بالدوين واحدًا من أول الأصوات السوداء الأمريكية الغزيرة التى عرفت إسرائيل على حقيقتها.» ورغم توثيق نفيه الاختيارى فى فرنسا وتركيا، فقد سافر بالدوين على نطاق واسع في أفريقيا والشرق الأوسط. ففي سبتمبر/أيلول 1961، دعته الحكومة الإسرائيلية إلى جولة فى إسرائيل، التى كانت تروج لنفسها باعتبارها ملاذاً ما بعد العنصرية، وتعتزم اجتذاب المفكرين الأميركيين السود، مثل بالدوين، الذين شعروا بالغربة بسبب العنصرية الراسخة فى بلادهم وكانوا يبحثون عن وطن جديد. وفقًا لأبحاث ناديا الأحمد فى كتاب «شكل الغضب القادم» وكييث فيلدمان فى كتاب «ظل فوق فلسطين: الحياة الإمبريالية للعرق فى أمريكا»، كان بالدوين - مثل العديد من الأمريكيين - متفائلًا في البداية بشأن إسرائيل وفكرة دولة للشعب اليهودى، وهى مجموعة تعرضت للتمييز والعنف والترويع. روى بالدوين فى «رسائل من رحلة كيف عومل كطرد بريدى تم الاعتناء به بعناية فائقة من قبل الإسرائيليين في عام 1961، وأنه للوهلة الأولى «أنا والإسرائيليون أحببنا بعضنا البعض». وزار صحراء النقب والبحر الميت والقدس وتل أبيب وحيفا وكيبوتز بالقرب من قطاع غزة. لكن هذه النظرة الرومانسية لإسرائيل لم تدم طويلاً بالنسبة لبولدوين، الذي نشأ فقيراً في هارلم وحفيداً لعبد. تقول الأحمد: «باعتباره رجلاً لامعاً ونشأ في الظروف التي نشأ فيها، كان بإمكانه أن يرى المراقبة والدولة البوليسية. كان بإمكانه أن يرى وحشية الشرطة ضد الفلسطينيين. وتقول أيضاً: «أينما ذهبنا، كانت هناك دائماً حدود». إنه يدرك تمام الإدراك أن اليهود ذوى البشرة السمراء والسود فى إسرائيل مواطنون من الدرجة الثانية». وقد كان فبعد حوالي عقد من الزمن بدأ بالدوين يتبنى موقفًا معاديًا للصهيونية علنًا. في مقاله عام 1972 «خذنى إلى الماء»، شرح بالدوين لماذا رفض الاستقرار فى إسرائيل: «إذا كنت قد هربت إلى إسرائيل، الدولة التي أُنشئت لحماية المصالح الغربية، لكنت فى مأزق أكثر ضيقًا: فى أى جانب من القدس كنت سأقرر العيش؟» في مقابلة عام 1970 مع إيدا لويس، قال بالدوين حتى: «أنا معادٍ للصهيونية. لا أعتقد أن لديهم «اليهود» الحق، بعد 3000 عام، فى استعادة الأرض بالقنابل والبنادق الغربية على أساس وصية دينية، عندما كنت في إسرائيل، كان الأمر كما لو كنت في وسط كتاب «النار المرة القادمة.» مع تصريحات تعتبر من المحرمات في ذلك الوقت، خاصة من مثقف معروف، لم يكن من المستغرب أن يُعتبر بالدوين معاديًا للسامية من قبل العديد من الصهاينة الأمريكيين و قد تمت مراقبته من قبل العديد من وسائل الإعلام. في عام 1971، رسم بالدوين تشابهات واضحة بين الأمريكيين السود والعرب، قائلًا للمحاورة مارجريت ميد: «يجب أن تتذكري، مهما بدا هذا مريرًا، بغض النظر عن مدى مرارتي، أنني كنت، في أمريكا، العربي على أيدي اليهود.» عند ذلك أغلقت ميد المقابلة بسرعة قائلة إن بالدوين كان «يدلي بتعليق عنصري تمامًا.» حدث الكثير في العالم خلال الستينيات دفع بالدوين لتغيير رأيه حول إسرائيل وفلسطين. قامت إسرائيل بتوسيع أراضيها بشكل عدواني، ولا سيما احتلال مرتفعات الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية، وأثبتت نفسها كقوة عسكرية عظمى بعد هزيمة ثلاثة جيوش عربية فى حرب الأيام الستة. فى الوقت نفسه، تزامنت الاحتجاجات المناهضة لحرب فيتنام مع حركات القوة السوداء فى الولاياتالمتحدة. وعلى المستوى الشخصى، أصيب بالدوين بالصدمة بعد اغتيال صديقيه مالكولم إكس ومارتن لوثر كينج جونيور. وكان مالكولم إكس إلى جانب محمد على - أحد أعلى الأصوات الأميركية السوداء التي دعت إلى تحرير فلسطين في ذلك الوقت. وفي عام 1964، قال مالكولم إكس في القاهرة إن «المشكلة القائمة فى فلسطين ليست مشكلة دينية... بل هي مسألة استعمار». وفى نفس العام، قبل عام واحد من اغتياله، زار مالكولم إكس غزة، التى كانت آنذاك تحت السيطرة المصرية. لقد اتفق بالدوين مع ادعاءات مالكولم إكس حول النفاق الأمريكي عندما يتصرف المستوطنون اليهود في إسرائيل بعنف فإن الغرب يشيد بهم، ولكن عندما يفعل السود ذلك فإنهم يتعرضون للهجوم أو السجن أو القتل. وكتب بالدوين في مقالة نشرتها صحيفة نيويورك تايمز عام 1967: «اليهودى رجل أبيض، وعندما ينهض الرجال البيض ضد القمع فإنهم أبطال: وعندما ينهض الرجال السود فإنهم يعودون إلى وحشيتهم الأصلية». قال الباحثون إن ما غيّر فعليًا رأى بالدوين حول إسرائيل وفلسطين (وقدم معاداة الصهيونية إلى الجمهور الأمريكى) هو المواقف التي اتخذها حزب الفهد الأسود ولجنة التنسيق الطلابية اللاعنفية (SNCC). قالت نادية الأحمد إن محادثات بالدوين مع أعضاء الفهود السود، ستوكلى كارمايكل وهيوى بى نيوتن وبوبى سيل حول كيف أن إسرائيل هي امتداد للإمبريالية الأمريكية ومستعمرة استيطانية بيضاء، هى ما «أدى إلى تطرف بالدوين حقًا». وقال: «إن حقيقة احتضان بالدوين لحزب الفهود السود كانت كبيرة، لأنه كان هناك الكثير من المنتقدين السود لحزب الفهود السود وما يمثلونه». ومن الأصوات البارزة الأخرى المرتبطة بحزب الفهد الأسود وصديقة بالدوين أنجيلا ديفيس، التى أصبحت بلا شك أهم شخصية تضامنية بين السود والفلسطينيين. كتب بالدوين إلى ديفيس أثناء وجودها في السجن عام 1970، وذكرت ديفيس لاحقًا أنها تلقت الدعم من السجناء السياسيين الفلسطينيين ومن المحامين الإسرائيليين الذين يدافعون عن الفلسطينيين أثناء وجودهم خلف القضبان. ما تزال مثل هذه القصص عن التضامن الدولي ذات أهمية كبرى في السنوات الأخيرة. فقد روى لنا برينس شاكور، وهو كاتب وناشط أسود شاب تأثر بشكل كبير ببالدوين، كيف أصبح مهتمًا بفلسطين أثناء حركة «حياة السود مهمة» فى عام 2014. قال لي شاكور: «كان الناس يتبادلون الرسائل عبر الإنترنت حول طرق حل مشكلة عبوات الغاز المسيل للدموع ومقاومة عنف الشرطة، سواء فى الضفة الغربية أو فى فيرجسون». وحول الوضع في فلسطين اليوم، أضاف شاكور: «عندما يتصل السود بالإنترنت ويرون أناسًا آخرين يعانون بطرق بدائية، ويستخدم اليمين المتطرف مقاطع فيديو عن العنف كسلاح، فإن هذه العملية مألوفة جدًا للسود». وفقًا لمايكل آر. فيشباخ، مؤلف كتاب «القوة السوداء وفلسطين: الدول الملونة العابرة للحدود الوطنية»، يرى الشباب الأميركيون السود أوجه التشابه هذه بسهولة، وخاصة نتيجة لوسائل التواصل الاجتماعى وانتشار حركات مثل «حياة السود مهمة» و«مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها». وقال: «إنها جزء من نفس النضال». ومع التخطيط لإقامة فعاليات لإحياء ذكرى حياة بالدوين وإرثه في الذكرى المئوية لميلاده في نيويورك ولندن وباريس وأماكن أخرى، سيشيد كثيرون بكتابات بالدوين، ولكن لا ينبغى لأحد أن يتجاهل سياساته المتجذرة في التضامن، والتى لا تزال تلهم الأجيال الجديدة في جميع أنحاء العالم. وكما كتب بالدوين نفسه ذات مرة: «إن المفارقة في التعليم هي على وجه التحديد أنه بمجرد أن يبدأ الفرد فى الوعي، فإنه يبدأ فى فحص المجتمع الذى يتلقى فيه التعليم».