يظهر تاريخ الفلسفة، من حيث هو تاريخ نظر العقل في العقل، اهمية استثنائية. فقد غدا، دون سائر الفروع التاريخية، موضوعاً لنفسه. فقد وضعت مؤلفات وعقدت ندوات عالمية حول تاريخ الفلسفة. وابتداءً من القرن التاسع عشر، قرن تمخُض المركزية الإثنية الأوروبية، بات تاريخ الفلسفة مركزاً لصراع أنثروبولوجي. فالحضارة الأوروبية الغربية، التي قرأت نفسها حضارة عقل مطلق، أعادت على ضوء هذه القراءة النرجسية قراءة تاريخ الفلسفة. وقد كانت النقطة المركزية في إعادة القراءة هذه ما لا نتردد في ان نسميه تغريب (نفي) Occidentalisationالعقل اليوناني بوصفه العقل المؤسس للحظة ميلاد الفلسفة. ولهذا نجد، الحضارات الإنسانية دوائر مغلقة، قد ينفذ بعضها إلى بعض، لكن كل حضارة تظل ذات طابع وهوية ونظرة خاصة إلى الحياة، فالحضارة "تولد، وهي تحمل معها صورة وجودها"، كما رأي اشبنغلر، لذلك فإنه «من المستحيل على فرد من أفراد ينتمون إلىإحدى الحضارات أن يفهموا حضارة أخري غير حضارتهم فهمًا كاملًا ودقيقًا». وسواء نعتنا اشبنغلر بالمتشائم أم وافقناه على فلسفته الحضارية تلك، فإننا نجد أنفسنا مضطرين إلى القبول بمقولته السابقة لانطباقها على الفلاسفة المسلمين في فهمهم للفلسفة اليونانية، ولا سيما كتب أرسطو. كما اننا لنؤمن بأن تاريخ الفلسفة ليس تاريخًا بقدر ما هو فلسفة. فالفلسفات تظل حية بعد انتهاء عصورها. فالأفلاطونية لم تمت بموت أفلاطون بدليل ظهور الأفلاطونية الجديدة، والكانطية لم تنته بنهاية صاحبها بدليل وجود الكانطية الجديدة في القرن العشرين. أي أنه لم يتوقف الفكر الغربي منذ عصر النهضة حتى الآن عن مسائلة مقوماته وأساليب اشتغاله، الأمر الذي جعل من النقد مكوناً من مكونات النظر إلى الذات والأشياء والزمان، ومنذ بدايات الحداثة الفكرية، وهي لم تكف عن محاسبة نتائجها بأساليب تسترشد بمقاييس العقل والعلم حيث قام الفكر الفلسفي الغربي منذ ديكارت وحتى الستينات من القرن الماضي بإقصاء جميع الملكات الإنسانية الأخرى من أهواء وخيال، واعتبرها مصدرًا للخطأ وعنصرًا مشوشًا على المعرفة الحقة. ولعل مفهوم العقل من المفاهيم الفلسفية التي ثار حولها جدل كبير وتساؤلات عديدة حيث اختلف الآراء حول المفهوم وفقًا للنسق الخاص بكل فيلسوف، مما يفسر وجود العديد من التعريفات المختلفة للعقل. ولكل من أفلاطون وأرسطو نظرية في العقل، هي نظرية في المعرفة، بالإضافة إلى أن أفلاطون وأرسطو من أوائل الفلاسفة الذين أعطوا العقل معنًا واضحًا. فقد عبر كل منهما عن العقل بتلك القدرات العقلية العليا من تخيل وتذكر وتجريد وتعميم ومقارنة واستدلال واستنباط وحدس وتأمل، مميزين في ذلك بين العقل وقدراته وبين الظواهر النفسية التي تتمثل في الإحساس والرغبات،والانفعالات،والعواطف، والإرادة. كما اقترنت فلسفة ديكارت بالاتجاه العقلي من الحقبة الحديثة اقترانًا شبه بالترادف الفكر المتضمن (ديكارت أو الفلسفة العقلية)، ويعود السبب في ذلك إلى الطابع العقلي في مجمل فلسفته. يقول ديكارت: «أعترف أنني ولدت وفي نفسي نزعة عقلية تجعلني أعتبر أن أكبر لذة من الدراسة هي دوماً بالنسبة إلى أن لا أصغي إلي حجج الآخرين، بل أن أكتشفها بوسائلي الخاصة وهذا وحده، ما دفعني، وأنا ما أزال شاباً، إلي دراسة العلوم كلما أنبأني عنوان كتاب باكتشاف جديد». ويبدو أن رأي ديكارت «العقل أعدل الأشياء في الكون توزعاً بين الناس». إنما يعكس نقد الفيلسوف للفكر المدرسي حيث كانت النظرة الواقعية التي أرادت أن تقيم علم الحواس علي العلم، في حين كانت غاية ديكارت إثبات بأن الحواس لا تخدعنا فحسب، بل إنها تعرض علينا عالماً خارجياً لا يمكن أن تكون حقيقته مطابقة لمظهره، وان أقرب العوالم إلى الحقيقة هو العالم الذي يصنعه لنا الفيزيقا الرياضية، لا العالم التقريبي الذي تعرضه علينا أدركتنا الحسية. وعلي ذلك، يمكن أن نفكر من الوهلة الأولي أن ديكارت بتأكيده على هذا التمييز بين الروح والجسد لا يقوم إلا بإعادة التقليد الأفلاطوني. ولكن ديكارت وضع شرطاً ضروريًا يتمثل في الابتعادعلى العالم المحسوس ومتطلبات الجسد، فالتأملات الميتافيزيقية تضع الشك في وجود الحواس والجسد والعلم والله ليكتشف يقيناً أساسيًا وأكيدًا بما أنه يشك يعني أنه يفكر إذن هو موجود «أنا أفكر أنا موجود». أردنا بهذا المقال أن يكون وصفًا مقتضبًا وعرضًا سريعًا للدور الذي قامت به الفلسفة على مدى عقود كثيرة، وتكشف أمامنا كيف للممارسة الفلسفية أثر واضح المعالم والبيان على النشاط الإنساني بمختلف جوانبه. إلا أن أثناء عرضنا ومناقشتنا تطرقنا إلى ضرب أمثله تُعد فاتحة الطريق إلى موضوعات أخرى،ستكون لها نصيب من العرض والتحليل في المقالات المقبلة إن قدر لنا الله البقاء واللقاء.