أسئلة كثيرة فرضها الواقع المتسارع للتكنولوجيا، وفرض معها الحديث عن التأهيل العلمى والفنى للمفتى وهى القضية التى اضطلع بها مؤتمر الإفتاء الأخير. هل يُمكن أن يُحيل الروبوت الآلى مشايخ الفتوى إلى التقاعد، ويُصبح الذكاء الاصطناعى «مولانا» الجديد الذى يفرض هيمنته على الجوانب الدينية، مثلما فرضها على جوانب كثيرة من حياة الناس، بحيث نناديه بمولانا الشيخ روبوت؟.. نحن نشتكى كثيرًا ونجلد أنفسنا بأن لدينا فوضى فى الفتاوى؛ وكأن الحديث فى الدين أصبح المنصة التى يقذفها الجميع بالآراء، دونما دراية ولا دراسة لازمة؛ فكل غير ذى صفة يتأوّل ما شاء لإثبات وجهات نظره وصواب رأيه؛ وتزدحم الفضائيات بالكثير من المشايخ الذين لا يملكون من الشهادات والمؤهلات سوى أنهم خريجو الأزهر؛ وكأن الفتوى قد أصبحت مهنة من لا مهنة له.. وأحيانًا كثيرة مهنة من لا أخلاق له! أسئلة كثيرة فرضها الواقع المتسارع للتكنولوجيا، وفرض معها الحديث عن التأهيل العلمى والفنى للمفتي، وهى القضية التى اضطلع بها مؤتمر الإفتاء فى نسخته التاسعة التى انتهت الأسبوع الماضى بمشاركة أكثر من مائة دولة؛ وهدف إلى ضبط الحقل الإفتائى وتفعيل منظومة القيم لمواجهة تحديات الإنسان المعاصر، والذى ابتدأته منذ سنوات بمواجهة الخطاب المتطرف والعنيف، والإسلاموفوبيا، إلى أن وصلت إلى البناء الأخلاقى فى الوقت الذى يعانى فيه العالم من تحلل القيم و«الدينوفوبيا» أو العداء للأديان جميعها؛ ولكن هناك مخاوف أيضًا من المبالغة فى التكنولوجيا بالجانب الإفتائي؛ إذ كيف ستتعامل الروبوتات مع الأسئلة التى تحمل فتاوى متضاربة؛ وكيف نبرمجها لمراعاة الزمان والمكان وفقه الواقع، واختلاف النطاقات الجغرافية؟ كما أنه من الوارد أن يُسهم الروبوت فى اندياح المشكلة ويذيع فتاوى مغلوطة، وقد يُبيح البيانات الشخصية ويُفشى خصوصية المُستفتين! لقد كنت سعيدًا جدًّا حين دعانى صديقى د. طارق أبو هشيمة، مدير المؤشر العالمى للفتوى، إلى الورشة التى عقدها بعنوان: «نحو صياغة ميثاق أخلاقى إفتائى للتطورات فى مجالات العلوم التجريبية والطبيعية والاجتماعية».. وفى هذه الورشة لفت نظرى عدة بحوث عن مستقبلية الإفتاء، أبرزها بحث بعنوان: «الفتوى وأخلاقيات الفضاء الرقمى والذكاء الاصطناعي»؛ وهدف إلى التعرف على السياج الأخلاقى الذى يحكم سير العملية الإفتائية عبر الفضاء الرقمى الواسع، ودراسة مدى تفاعل الفتوى مع القضايا الأخلاقية الناجمة عن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعى، وكيف تصبح الفتوى جسرًا بين الأخلاق والتحديات المعاصرة.. وأكد الحضور أن الذكاء الاصطناعى سلاح ذو حدين، واقتحامه للمجال الدينى لا مفرّ منه، وسيصبح ضرورة مستقبلية لمواكبة تطورات العصر، فيمكن للذكاء الاصطناعى أن يكون أداة لنشر الفتوى الصحيحة أو غير الصحيحة، وينبغى الحذر فى استعماله فى الفتاوى؛ للحفاظ على البُعد البشرى والاعتبارات الثقافية والأخلاقية اللازمة لتقديم فتاوى شرعية شاملة ومتوازنة. فى هذه الورشة سعدت بآراء د. إبراهيم نجم، الأمين العام للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء بالعالم، وإثرائه النقاش الدائم، والاشتباك مع قضايا العصر؛ كما رأيت رسوخ المفتين المصريين، وسعة أُفقهم، واطلاعهم على التقنيات الحديثة، واتخاذهم مواقف إيجابية منها وعدم معاداتها، وأبرزهم مفتى الديار، د. شوقى علام، ود. على جمعة، اللذان أباحا الذكاء الاصطناعى ما لم يتضمن محظورات شرعية؛ بخلاف فتاوى كندية وإيرانية قد وصفته بالتكنولوجيا «الشيطانية» التى تستهدف استبدال خلق الله.. لكن يبقى الخوف من «التزييف العميق» ونشر المفاسد مصدر القلق الأول عند العلماء؛ وكذلك تصميم الروبوت نفسه، برأس أو بدون، قد لاقى انقسامات حادة، فالآلة التى تُشبه الإنسان بالرأس حرام، وبدون حلال؛ وفى تحريك صور الموتى بتقنية «الحنين العميق» قد عدّه بعض المفتين نوعًا من اللغو والعبث، وأباحه بعضهم لأنه مجرد صورة من آلة بلا روح. سيبقى هذا التفاعل بين الدين وروح العصر مستمرًّا وشاغلًا لعقول العلماء المسلمين؛ لأنه أساس الدراسات الفقهية التى تضبط ضجيج الإيقاعات العصرية على نغمة الحلال والحرام.