يبدو أن الصراع لم يمت.. فرغم الضربات الطاحنة التى تعرض لها التنظيم الإخوانى على مدار السنوات الماضية إلا أن محاولاته للبقاء وبسط نفوذه وأجندته ما زالت مستمرة. يراها البعض بصورة واضحة عبر السوشيال الميديا التى تسعر صفحاتها بمواجهات فكرية وصفها المتخصصون بحروب الجيل الرابع، التى تقوم فى الأساس على زعزعة الثقة والطمأنينة وقتل الولاء والانتماء والتشكيك.. وفى الوقت الذى ظن فيه الجميع أن العالم الافتراضى هو الملجأ الأخير لهذه المواجهات، ظهرت حادثة شارع فيصل لتشير إلى أن الصراع لم يغادر العالم الواقعى، بل من وقت لآخر يبحث التنظيم عن ثغور للعودة إلى الأرض فى محاولة مستميتة للبقاء.. وهى المحاولات التى تقف أمامها إدارة الدولة بكل قوة لمنع هذا الطموح من البعث مرة أخرى. الخطورة الحقيقية لجماعة الإخوان تكمن فى أفكارها وتصوراتها الدينية، التى تتلخص فى أن الدين واحد وهو الإسلام وقد تركه الناس وعادوا إلى الجاهلية، ومن أجل ذلك فالجماعة والانتماء لها والدعم واجب، لأنها الوحيدة المنوطة بتصحيح عقيدة الناس، الذين يجب التعالى عليهم، والانعزال الشعورى عنهم، حتى يعودوا لرشدهم، وهذه التصورات يجتمع عليها كل العناصر، وفى القلب منها: التيار القطبي، الحاكم للجماعة منذ ستينيات القرن الماضي. ويتباين أعضاء الجماعة فيما بينهم فقط حول التنظيم والحفاظ عليه واستراتيجياته ومن ثم ينقسم فى العادة إلى عددٍ من القيادات والهيئات إلا أنهم جميعاً لا يفترقون فى ضرورة المواجهة وإزالة الأنظمة الحاكمة وتربية عناصر التنظيم على قواعد الأيديولوجية السابقة. ويمكن أن نحدد خطورة تصورات جماعة الإخوان الدينية فى التالي: تؤمن الجماعة بضرورة التوغل والاختراق للمجتمع الجاهلي، وفى حال فشلت فى السيطرة عليه ضرورة هدمه من الداخل. تعتقد أنها خارجة عن المجتمع وليست جزءاً منه، وأنها يجب أن تنفصل عنه شعورياً ، وتتعالى عليه، وفق أفكار سيد قطب. ترى الإخوان أن الدعوة يجب أن تكون لأفكارها، وأنها مصلحة تعلو على كل شيء، ومن الممكن أن يقوم التنظيم بأى شيء من أجلها، حتى لو اضطر للكذب والاحتيال والقتل أحياناً. وتؤمن أن السلطة ضرورة حتمية من أجل تغيير المجتمع، والسيطرة على رءوس الأموال، والمؤسسات الدينية، هدف استراتيجى لا مناص منه، وأن ذلك يمكن أن يستوجب اختراق المؤسسات والنقابات والمواجهة وعمل تنظيم خاص موازٍ، يمكنها من القتال للوصول للحكم. وترى أن الجماعات الشبيهة بها، والخارجة عنها، من المهم التحالف معها على الأهداف الاستراتيجية العامة، خاصة أنها تستطيع إشغال الحكومة عن خطط الإخوان السرية. ومن أجل تحقيق ما سبق تنتهج الجماعة عدة مسارات هي: السياسي، والاقتصادى السري، والدعوي، والخاص العسكرى المسلح، وتعمل فيها بوقتٍ واحد، وبجماعات موازية علنية وسرية واحدة، واتضح هذا عقب وصولهم للحكم ثم عزلهم عنه بفعل الثورة الشعبية فى 30 يونيو، ففى عام 2014 تحرك عناصر الجماعة من خلال العمليات المسلحّة التى أطلقوا عليها نوعية. وطرح القيادى «محمد كمال» فى يناير عام 2015 فكرة ما يُعرف ب (فعل الثورة المبدع) التى ترتكز على تشكيل جماعات إرهابية مسلحة أطلق عليها العقاب الثورى وجبهة المقاومة الشعبية، ولما باءت بالفشل ظهرت «كتائب حلوان»، ثم أنشأت فى عام 2015 مجموعتى «حسم ولواء الثورة». وقسّمت جماعة الإخوان التنظيم إلى عمل جماهيرى وعمل دعوى واستقطابى وعمل نوعى ( مسلح)، وتم إنشاء مكتب القيادة العامة ضم ممثلين عن الجماعة من جميع دول العالم، لتنفيذ مخططاتهم الرامية إلى العودة للسلطة. وعبّرت الجماعة عن رؤيتها من خلال الرسالة التى تم نشرها بعنوان ( رُؤْيَتُنَا.. الثورةُ المصريةُ.. فريضةٌ شرعيةٌ، وفرصةٌ تاريخيةٌ)، التى ورد فيها الدعوة لتفكيكِ السلطة عن طريق قيادة مبدعة – فرق جريئة – جماهير عريضة. وتناولت هذه الرسالة العودة للحكم عن طريق المحور الثورى والسياسي، والوَعْى والحشد، وذلك من أجل التواصل مع الجماهير وتكوين رأى عام، وهى الخطة التى عُرفت لاحقًا بخطة "الإنهاك والإرباك – الإفشال – الحسم"، التى طُرح فيها اللجوء إلى ما سُمى بالعمل النوعى أو السلمية المبدعة والتى كانت تعنى استخدام مستوى أعلى من العنف وبشكل أكثر منهجية من ذلك العنف المحدود والعشوائي. وعليه بدأت الجماعة فى «هيكلة» عملية الحراك المناهض للدولة وتقسيمه إلى القسمين: القسم الأول «العام» وهو المسئول عن المسيرات والفعاليات السلمية أما القسم الثانى فيعتبر مهماً لأنه يُستقطب إليه (العمل النوعى شبه المسلح) أبناء الجماعة المعروفون بولائهم التام للتنظيم الذين سيقومون بعمليات إرهابية مسلحة. وتم تكليف القيادى «عليّ بطيخ» بإعداد استراتيجية للحراك المسلح فقام بوضع خطة أطلق عليها (القيادة العامة للجان الحراك المسلح) التى اعتمدت على المناهج الجهادية وأخذت نفس الهيكل التنظيمى للحرس الثورى الإيرانى وطبقته حرفياً. وشكّلت الجماعة لجنة تعيد صياغة أفكار قطب عُرفت باسم "الهيئة الشرعية لعلماء الإخوان المسلمين" فى سبتمبر 2014 وأصدرت فى أوائل عام2015 كتاب "فقه المقاومة الشعبية"، نفت فيه الشرعية عن النظام الحاكم، ووضعت الضوابط الشرعية لاستهداف الشرطة والجيش والمنشآت العامة، على اعتبار أن النظام الحاكم كافر، ويجوز تطبيق مفهوم « دفع الصائل» الذى يصل أحياناً إلى حد القتل فى أحوال عدة قام بشرحها، مدشنًا علنيًا لشرعية العمليات الإرهابية فى مواجهة الدولة. واعتبر القيادى الإخوانى «مجدى شلش» أن كتاب «فقه المقاومة الشعبية» بمثابة التأسيس الثالث للجماعة، والذى بُنى على معادلة تقضى بامتلاك القوة وتأتى عن طريق خطة ل «الإرباك والإنهاك والإفشال ثم السيطرة وإسقاط النظام»، قائلاً فى فيديو شهير: «السلمية ليست ثابتاً من ثوابت الإخوان» وأن «شعار سلميتنا أقوى من الرصاص تغير الآن ليصبح سلميتنا أقوى بالرصاص». ووصلت خطورة أفكار الإخوان إلى قمتها وهى مستويات العنف، التى انتقلت من المستوى الأول العشوائى مثل: حرق أعمدة ومحولات الكهرباء.. إلخ، إلى الثانى وهو السلمية المبدعة التى تستهدف الإنهاك والإرباك وتتجاوز استهداف المنشآت والطرق والمرافق العامة إلى استخدام أسلحة خفيفة وبدائية تحت مبدأ تم نقله عن قول محمد بديع: «ما دون القتل سلمية»، أما الثالث فهو العنف العقابى الذى يستهدف التصفية والاغتيال. لذا فقد نشأت بعد عزل مرسى من الحكم ما يُسمى بحركة «ثوار بنى سويف» التى أعلنت مسئوليتها عن محاولة اغتيال ضابط بمحافظة الفيوم ومقتل طفلته، جاء فى بيان للحركة تقول فيه « أوشكنا على اغتيال شخصيات إعلامية معروفة»، وفى منتصف عام 2014 وحتى بداية 2016 ظهر ما يُسمى (حركة العقاب الثوري) كانت أول عملياتها هى إطلاق الرصاص على كمين شرطة. كما نشأ تنظيم «لواء الثورة» فى 21 أغسطس 2016، ومن أبرز عملياته استهداف كمين شرطة العجيزى فى مدينة السادات بمحافظة المنوفية ، مما أدى إلى مقتل ثلاثة من قوات الشرطة، وفى 22 أكتوبر 2016 تم اغتيال العميد "عادل رجائي» بعد إطلاق الرصاص عليه أمام منزله فى مدينة العبور بمحافظة القليوبية، وفى 1 أبريل 2017 تم استهداف مركز تدريب تابع للشرطة بمحافظة الغربية عن طريق عبوة ناسفة مزروعة داخل دراجة بخارية أردت العشرات ما بين قتيل وجريح. وفى 16 يوليو 2016 ظهرت «حركة حسم»، ومن أبرز عملياتها : اغتيال رئيس مباحث الفيوم ومحاولة اغتيال مفتى الجمهورية الأسبق على جمعة فى 6 أكتوبر 2016، وتفجير عبوة بمحيط نادى شرطة دمياط فى 4 سبتمبر 2016، والعديد من الاغتيالات الأخرى منها: محاولة اغتيال النائب العام المساعد "زكريا عبد العزيز عثمان"، وتفجير كمين لوزارة الداخلية بشارع الهرم بالجيزة فى 16 ديسمبر 2016. أما المرحلة الأخيرة فهى السيطرة بشكل كامل على الدولة، عن طريق: مجموعة ( إسناد حراك شعبى قوي)، ومجموعة (تيارات المواجهة) التى ستقوم بعمليات متعددة ضد أفراد الجيش والشرطة المصرية واغتيال القضاة وضباط قطاع الأمن الوطني، ثم عمل بيانات إعلامية بمسميات متعددة، ودعم حركات أخرى مثل: «جماعة بيت المقدس سيناء» بهدف إظهار الدولة المصرية فى صورة ضعيفة، ثم التوسع فى العمليات الإرهابية، على غرار عملية اغتيال النائب العام هشام بركات فى 29 يونيو 2015، والتفجير الذى تم بمحيط معهد الأورام فى 4 أغسطس 2019. الخطورة الأكبر، هى أن ذلك كله يحدث من الجماعة مع نفى تام فى نفس التوقيت بعدم مسئوليتها عن مجموعات المواجهة العسكرية التى تنتمى إليها، وكذا فى ذات الوقت الذى تقوم بخطة إعلامية ودعائية متنوعة تحاول من خلالها حشد الجماهير، او استقطابها، أو على الأقل جعلها فى موقف حيادي، عن طريق التهوين من الإنجازات، والإكثار والتضخيم للسلبيات، وإخراج الحكومة من وطنيتها. ولن نستطيع تفسير ما يحدث من الجماعة الآن من محاولتها هدم وتفكيك الدولة، إلا من خلال معرفتنا بتصوراتها، ورؤيتها العقيدية والفكرية، ثم الحركية التى تقوم بها، وخططها الحالية والمستقبلية.