هكذا كنت أفكر فيما أنا غارق فى الماضي، أقلب صفحات الأعداد الأولى بدءا من 18 يوليو 1993 أسعى لتذكر الظروف التى التقيت فيها الأستاذ جمال الغيطاني، من أخذ على عاتقه مهمة وضع الأسس، تدوين الدستور، قبل منح البنيان الحرية فى التشكل وفق مبدأي: التنوع، وحرية التعبير. أتوقف بعد افتتاحية الغيطانى فى العدد الثاني، والتى نعيد نشرها هذا العدد، عند صفحة البريد، اقرأ رسالة من أحد القراء يهنئ بالصدور، ويدلى بمقترحات، ثم رد من المسئول يؤكد له أن مقترحاته قيد البحث لتنفيذ ما يمكن منها، فى ذلك الوقت كان القارئ الكلاسيكى لا يزال موجودًا، يخاطب الكاتب والجريدة عبر خطابات مكتوبة بخط اليد يتولى إيصالها ساعى البريد، كان هناك من يكتب على المظروف «شكرًا لساعى البريد» لا أعرف لماذا! ربما يكسبون تعاطفه لئلا يهمل خطاباتهم لأنه لا وسيلة أخرى للتيقن أنها ستصل إلى الوجهة التى يريدونها. أنتبه على صوت مميز يأتى من ال«موبايل» يشير لوصول رسالة ما، أرفع عينى من على الأوراق القديمة، أنظر إلى الرسالة مترددًا فى فتحها، سيعلم مرسلها أنى تلقيتها، رفعت التكنولوجيا عن عاتقه عناء توجيه الشكر لساعى البريد، بل ووفق «اتيكيت» قواعد التواصل الحديثة فإنه ينتظر الرد مباشرة. أعود للنظر فى الأعداد القديمة وينتابنى حنين ما إلى الطرق الكلاسيكية.. كانت بقايا من قواعد التعامل ما زالت باقية. كنت أفكر حائرًا فى معنى ما وراء السنوات المنقضية ثم وجدته بالضبط فى تلك المقارنة بين الهدوء المنبعث من تلك الأعداد الأولى وبين الضجيج المنبعث من هاتفي، بين شكل المعارك الثقافية فى ذلك الوقت وبينها الآن، أقرأ افتتاحية للغيطانى يتحدث فيها عن اتهامات موجهة للجريدة من اليمين واليسار، لكنى مشتت بين هذا وبين متابعة منشورات من مثقفين على مواقع التواصل الاجتماعي، معركة ما تجبرنى حدة الكلمات والاتهامات فيها على إغلاق مجلد الأعداد الأولى للجريدة منساقًا بالكامل إلى اللحظة الحالية غير قادر على تحديد رأى أوالانحياز لطرف لكنى فى الأحوال كلها مندهش من المسافة الآخذة فى الاتساع بعنف بين ما نكتبه وما نلتزم به على أرض الواقع، بين ما تعنيه الثقافة وما يفعله المثقفون، أو على الأقل الأعلى صوتًا بينهم والذين قد لا يمثلون الجماعة الثقافية المصرية بأكملها غير أن خفوت الأصوات الأخرى وطبيعة الجمهور العام المنجذبة إلى الصراعات تعطى الانطباع بأن هذه الثقافة قد تقزمت إلى الحد الذى تواضعت به أفكارها وموضوعاتها إلى مجرد قاموس من شتائم الشارع واتهامات بلا منطق توزع بلا حساب. ينقل الغيطانى فى افتتاحية العدد الثالث بعض الاتهامات الموجهة للجريدة «على المقهى قال أحد الأصدقاء المنتمين إلى اليسار.. هذه جريدة موجهة إلى اليمين لماذا «ألم تر الاحتفاء بعبد العليم القبانى.. إنهم يريدون إرضاء ثروت أباظة» «هل قرأتها؟» «لا» «كيف إذن؟ إن سيرة عبد العليم القبانى من أجمل السير فى الأدب العربي..» وفى مقطع آخر من الافتتاحية ذاتها ينقل الغيطانى تحذيرًا من صديق قال له محذرًا: «انتبه رائحة اليسار تفوح من الجريدة. وذلك لأننا ننشر الشعر الحر، ولأننا طرحنا قضية فتوى الشيخ الغزالى من منظور الخلاف» سيبدو من الغريب أن توجه اتهامات لجريدة ما بذلك اليقين بعد ثلاثة أعداد فقط من صدورها، لكنى شخصيًا وبعد سنوات من العمل فى المجال الصحفى والثقافى أدركت أن ثمة اتهامات معبأة سلفًا وجاهزة للاستخدام بحسب الفصيل (الشلة بالمعنى المعاصر) الذى تنحاز إليه، فى الوقت الذى صدرت فيه «أخبار الأدب» كان التقسيم يجرى على أساس يمين ويسار، كان اليسار قد سقط عمليًا لكن قاموسه ظل فاعلًا، لتأخرنا فى عملية الترجمة ربما وعدم الاطلاع على الأخبار والمستجدات العالمية إلا بعدها بفترة، كجندى وحيد لم تصله أوامر بانتهاء الأعمال العسكرية. أو لأن الأجيال التى كان لها السيطرة على المشهد فضلت الإبقاء على الأمور كما هي، على روتين المعارك وقاموسها واتهاماتها وبقى هذا مستمرًا إلى أن بليت الكلمات من كثرة الاستخدام ولم تعد موافقة لمعنى واقعي! ما يجرى على الساحة الثقافية المصرية حاليًا يتم وفق الاستراتيجية القديمة التى اعتادت تقسيم المشتغلين بالعمل الثقافى إلى جماعات وأحزاب، لكن الفارق أن العناوين البراقة لم يعد لها وجود، سقط المشروع الثقافى العام، وتحولت الجماعة الثقافية إلى مشاريع فردية،ودخل إلى الحقل الثقافى فاعلون جدد تحت مسميات مختلفة: فاعل ثقافي، مسوق أفكار، ناشط، مدير ندوات، «أدمن جروب» لكنه كان دخولا بلا تنظيم ما يضع الأطر والقواعد، بلا مرجعيات قادرة على فرض شكل أو تصور يرضى به الجميع، وهكذا وبدلًا من أن تكون العناصر الجديدة إضافة على «الرأسمال الثقافي» كما يسميه بورديو فإنها تسحب من أرصدته بعد الخلط العشوائى بين قيم الثقافة والتجارة! فى مواكبة لقانون مواقع التواصل الاجتماعى بالسعى المحموم إلى التواجد وإعلاء الذات ينفجر الغضب من حيث لا يدرى أحد، على أى شيء، وفى أى نقاش، على الجوائز، على المهرجانات والندوات، ضد ومع آراء، عند رحيل أحد المبدعين، على ملف صحفى عن الشعر، غضب يشبه شجارات الشوارع، يستعير قاموسها وأسلحتها: الاحتماء بعصبة، التخويف، التخوين، الاستهزاء والحط من قيمة الآخر. واللافت أنها كلها آليات ضد منطق العمل الثقافى الذى لن يزدهر ويتنامى إلا بتوفير حرية الرأى والتعبير، قبول الأفكار المختلفة والمغايرة، التسامح، وغير ذلك مما هو معروف، ومما تحتشد به كتبنا، ومما نطالب الناس الالتزام به، فى حالة تستحق الدراسة من الازدواجية، وربما الفصام، بين ما نقوله وما نعنيه حقًا، بين ذواتنا على الورق وفى الحقيقة. لا بد أن انفلات النقاشات «غير الثقافية» زاد عن الحد المقبول إلى الدرجة التى أعلن بها أكثر من مثقف عن امتعاضهم مما آلت إليه الأمور، واتفق معهم كثير من المهتمين بالثقافة، ممن يرسمون لها شكلًا مغايرًا، وتصورًا أرقى، لهذا نحن فى حاجة إلى فتح نقاش جاد حول ما تعنيه الثقافة بالنسبة إلينا، فى هذا الزمن تحديدًا، لنضع تعريفًا، أو تعريفات، ليس مقتطعًا من كتب كانت تعبر عن طرائق تفكير أهلها وقت صدورها، وفى الوقت نفسه ليس تعريفًا مرتبطاً بالتصورات الساذجة عند الجمهور الذى التصق بذهنه من التعليمات المدرسية أن الثقافة مرادف للأخلاق الحميدة، وأن الأدب وفق هذا التعريف يعنى الحفاظ على منظومة القيم (الغامضة والمبهمة) لكن فى الحالات كلها من الضرورى إدراك البديهية الأساسية فى العمل الثقافي: أن بضاعتنا الأفكار، وأنه يتم التعبير عنها ب«الكلام» وكلاهما وجه للآخر، والناظر إلى «الوسط الثقافي» المصرى فى مرحلته الحالية يدرك مباشرة أن ثمة عيبا جوهريا أصاب بضاعته!