بقلم: د.ياسمينا شاهين في ميزان أحكام الحياة الذي وضعه الله تعالى لينظم الكون وييسر أعمال البشر وفق القوانين المحكمة، حاول البشر كعادتهم أن يتدخلوا ويضعوا بصماتهم التاريخية كالعادة. منهم من حاول أن يتدخل إيجابيا بحسن النية وبحسب المقدرة و وجهة النظر، و منهم من يتدخل سلبيا بتعمد بغرض كسر كل القواعد والقيود وتيسيرها لأهوائه الشخصية ومنهم من يقف صامتا متفرجا بدعوى: "و أنا مالي مش أنا اللي هغير الكون " ! و استمر الصراع، و بات السؤال الأزلي دائما و أبدا :- " لمن الحكم و لمن اليد المطلقة ؟" .. أيحكم القلب أم العقل ؟ أيفوز المنطق ؟ أم ينتصر الواقع ؟ أم يستطيع الضمير أن ينهي الأزمة بكلمة حق تساوي الكثير في كفة العدالة و إرضاء الرأي العام ؟!! من يتحكم في مجريات الأمور و القضايا المفصلية في الحياة ؟! الحدث ؟ القاضي ؟ الرأي العام ؟ الصحافة ؟ الدفاع ؟ المجني عليه ؟ أم حتى الجاني؟! كيف ننظر في الأمور ؟ و كيف نبحث عن دوافع الأشياء ؟ أنبحث بالمعلومات المجردة ؟ أم نبحث بعين ثاقبة فلسفية تنظر و تبحث فيما وراء الأشياء ؟! و ما هي المرجعية ؟ و المرجعية ذاتية أم قانونية ؟ و هل يمكن أن ينال الحكم رضا الجميع ؟! و ماذا يجب أن يكون رد الفعل ؟! الصمت أم الكلام ؟ الواقع أم الأحلام ؟ الرضا أم الاعتراض ؟ التشجيع على الاستمرار أم الإجبار على التراجع ؟!! وتكمن الكارثة عندما يلعب المال دوره الفتاك ، وتلعب الأنانية دور الأسد الذي يبحث عن إشباع ذاته أيا كانت الفريسة في أي وقت و أي زمان و أي مكان دون تفكير أو حسابات !! وهذه ليست حسبة اليوم أو الغد، و لكن يرجع بها الزمن منذ أن قتل قابيل أخاه هابيل !! و ستزال حتى قيام الساعة ... والأغرب في الأمر، أن الإنسان دائما ما يكون السبب الرئيسي والجاني الحقيقي، فهو من يدع للشيطان مكاناً ويترك له المساحة والحرية التامة ليفعل ما يشاء وقتما يريد و يخطط للأمور كما يحلو له بكل سهولة دون أدنى مقاومة!! وسبحان الله، عندما يصل الإنسان لمراده بعد أن يدهس حلم أخ له في الإنسانية ويسرق من آخر و يذل هذا و يؤذي ذاك، تجده لا يشبع ولا يكتفي وفي بعض الأحيان قد لا يكون سعيداً و نادراً ما يندم على ما فعل إذا كان متبقي له بضع من ضمير!! ولكن من يدفع الثمن؟ أول من يدفع من دمه و لحمه، هم أقرب الناس إليه، أهله وذويه !! فهذه أم حرق الألم فؤادها وهذا أب انقطعت أسباب الحيل لديه وهذا أخ سقط صريعاً وهذه زوجة تطلق وهذا ابن يشرد وهذا مجتمع يتوه ويتفكك يوماً بعد يوم ... لك أن تتخيل يا سيدي، موقف القاضي، فهو بشر مثلي و مثلك، سخره الله ليحكم بين الناس وكلمته سيف يمكن أن يقطع به يداً أو رقبة ويمكن أن ينجي به بريئاً . و بما أنه بشر، فقد يخطئ بالطبع وقد يصيب وقد يتعامل بالقلب أو العقل وقد يتم خداعه أو تتزين الحقائق أمامه ، ولأنه يدرك كل ذلك ولأن الخطأ في الأحكام في منتهى الخطورة و المسئولية ولأنه قد اختار بمحض إرادته أن يتولى هذا الأمر ، فهو يفكر ألف مرة مدام يرى الله دوما أمام عينيه ، خوفاً منه و رحمة بمصائر الناس .. وفي ظل سعيه الدائم لإعمال القانون وبنوده ، فهو يسعى جاهداً في إعمال فطنته لبحث الدوافع العقلية والنفسية والمرضية وراء الحادث وله سلطة تقديرية لتخفيف العقوبة أو ربما إلغائها !! و لم يكن هذا محض صدفة أو دستور، بل يرجع الأمر إلى "شرع الله " الذي حرص على الأخذ بالأعذار والظروف التي أحاطت بالمتهم على سبيل الرأفة دون الإخلال بالعدالة والحفاظ على الحقوق. فلا يوجد أبيض أو أسود في المسائل القانونية بدليل وجود محاكم النقض والاستئناف و الدستورية العليا و خاصة أن مشرعي القانون قد يدرجون العديد من المصطلحات التي قد تحمل أكثر من معنى .. ولكي يصلح القانون، لابد و أن يفسر تفسيراً يعطي للقاضي الحق لتطبيق الحد الأدنى و الأقصى للعقوبة . ولولا هذا الشعور و هذه الفطنة و الحكمة و الفلسفة التي تساوي في قدرها قدر الأدلة و المستندات بل قد تغلبها في أوقات كثيرة، لاستطاع الجاني أن يصبح بريئاً و لحصل البريء على الإعدام !! فلا يمكن أن تحكم مجموعة أوراق فقط على مصير و مستقبل إنسان !!! ولو كان هذا ممكناً، لأصبحت الأحكام مميكنة و إلكترونية !! أتعرف عزيزي القارئ علام أتحدث ؟ إني أتحدث عن "روح القانون " وأتعجب كثيرا من البعض الذين يسفهون من هذه الكلمة و يستهزئون بها ويسخرون من القضاة الذين ينظرون لبعض القضايا بالجانب الشعوري والفلسفي إلى جانب الوعي الحقيقي والعقلي !! وكيف يحكم الرأي العام الدفة بمجرد الاضطلاع على مجموعة أخبار، الله وحده من يعلم مدى صحتها أو دقتها ، دون دراسة أبعاد القضية أو حتى ما يسمى ب "أ ب.. قانون" على أقل تقدير ! فإن كنا سنحكم في القضايا بوجهات نظر كل فرد منا الشخصية ، لما رسينا على حكم و لأصبحت الدنيا أشبه بالغابة ! فلا يمكن أن يتفق الكل على نفس الحكم ! ولكن الحكمة تقتضي أن ننظر في الأمور نظرة ثاقبة و أن نعمل العقل دون أن ننسى أننا بشر . والبشر يشعر و يحس و يفهم و يتفهم و يخطئ و يغفل ويصيب و يندم و يتوب و يعفو و يتسامح و العبرة بالنهايات و ميزان الحسنات و عدم تكرار الأخطاء .. وإن لم يستطع الإنسان العفو في مجمل حياته، لأصبح جماداً أو ربما أسوأ بكثير .. فالله هو الغفور الرحيم، فكيف لبشر أن ينطق بعد هذه الجملة !! القانون دستور حياة، وعظمة القانون في كونه يرد الحقوق بأهدأ الطرق و أقلها أذى و دمار . فلا يدهس أحلام البشر و لا يدمر و يشتت أسر . به تستقيم الحياة و تهدأ النفوس .. ونحن في النهاية بين خيارين :- - إما أن نحترم قوانين الكون الذي نحيا فيه - وإما أن نحوله إلى غابة، يأكل فيها القوي الضعيف، ويدهس فيها الظالم المظلوم ، وتكون السيادة فيها للمجرم بلا حساب ، بلا دليل ، بلا أمان ، بلا إنسانية .. وسيبقى القانون دوما بين ميزان العقل و القلب و صراع الواقع و تغليب الضمير ..