في داخل كل منا كيان معنوي عملاق، لا يُدرك له مكان، ولا يُعرف له شكل، ولا يطلع على مكنوناته بعد الله أحداً، مستيقظ إذا نامت العيون، حارس إذا سكنت الجوارح، مُذكر إذا غفل العقل، مُبَصِّرٌ إن ضل الفؤاد، بارع في الحساب، خبير في الرصد، صامت لكن منطقه يعلو فوق كل بلاغة، ساكن لكن حركته أنشط من كل حركة، هادئ لكن غضبه أشد من أي غضب، إنه الداعي إلى كل خير والناهي عن كل شر. إنه القانون الذي ينبع من الذات ليقيم حركة الإنسان في الحياة على ميزان القيم والمبادئ، ذاك القانون الذي تُصاغ مواده من خلال جامعة الحياة بأقسامها المتعددة، أسرة، ومؤسسات تربوية ودينية تثقيفية..الخ، بحيث تتكامل مواد هذا القانون بتكامل وتكاتف عمل هذه المؤسسات مع بعضها، حتى تُرَسِّخ دعائمه وتقيم بنيانه على أسس متينة من تقوى الله وحب الخير. إنه الضمير، أو القلب، أو النفس اللوامة، أو الفطرة السليمة، أو ما شابه ذلك من مترادفات تولد في أعماق النفس لحظة أن تلعق الرئتان أول شهيق وتطرد أول زفير، تولد ضعيفة هزيلة مثلها مثل صاحبها، تحتاج إلى الغذاء، وتحتاج إلى السقاء، وتحتاج إلى التعهد بالعناية والرعاية كي يتسق نموها مع نمو البدن، فلا قيمة لبناء بدني دون أن يوازيه بناء نفسي يميز الإنسان عن غيره من المخلوقات، فالعبرة ليست بأجسام ممشوقة وصور جميلة، العبرة بقدر ما يحمل الضمير من معان ٍللخير تترجمها الجوارح إلى أعمال. يخطئ من يتصور أنه قدم للمجتمع خيراً، وقتما يدفع إليه بشاب يافع قوى البنيان، رائع المظهر، لكنه بلا محتوى أو مضمون، لكنه بلا خلق أو ضمير، فهذه النوعية تشكل عبئاً جديداً يقع على كاهل المجتمع لا إضافة نوعية إليه، ومن ثم فالأسرة والمؤسسات التربوية مطالبة بإعادة النظر فيما تقدمه من أساليب وبرامج تربوية حتى تخرج للحياة جيلاً قادراً على تحمل المسئولية بيقظة وضمير. إن التربية بشتى مفرداتها ومكوناتها هي التي تلقى في أعماق النفس البشرية نبتة الوازع الذاتي، ثم تتحول تلك النبتة يوماً إلى شجرة وارفة الظل يمتد ظلها إلى نظرة العين، وإلى كلمة اللسان، وإلى حركة اليد، وإلى خطوة الرجل.. الخ، فتؤدى هذه الجوارح عملها كما أراد الله لها أن تعمل بلا شطط على الطريق المستقيم، وإن حدث وشذت عن القاعدة - كعادة النفس بارتكاب معصية أو ذنب - عادت سريعاً إلى الحق، إذ يسكن في حنايا المرء رقيب داخلي يدعوه إلى الخير وينهاه عن الشر. إن استشعار مراقبة الله في السر والعلانية، والاعتقاد الجازم بأن الله يعلم مكنونات الصدور هو أكبر داع إلى حياة الضمير ويقظته الدائمة، فعين الله لا يخفى عليها شيء، وعليه فليس بإمكان المخلوق أن يغيب عن رقابة الخالق، فذلك شأن البشر الذين يغفلون أو يسهون عندما يراقبون أو يتابعون.. إذا خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت، لكن قل على رقيب، ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تُخفى عليه يغيب أنا مؤمن إيماناً لا يتطرق إليه شك أن القوانين - وحدها ورغم أهميتها - لا تكفى لضبط سلوك البشر ومحاربة الجريمة، فرغم غابة القوانين والتشريعات لازالت هناك ثقوب ينفذ منها ضعاف النفوس للسطو على أمن وسلامة المجتمع، ولا تستطيع يد القانون أن تقتص منهم جراء ما فعلوه، فكيف تصل يد القانون البشرى إلى مدرس لا يراقب الله في عمله، ويتعمد الإهمال في شرح وعرض دروسه ليجد الطالب نفسه مجبراً على اللجوء إلى درس خاص؟!، كيف تصل القانون البشرى إلى طبيب أهمل عمله العام في مستشفى الفقراء، حتى يذهبوا رغم أنوفهم إلى عيادته الخاصة في استغلال بشع لآلام وأوجاع البشر؟!، كيف تصل يد القانون البشرى إلى موظف باع ضميره للشيطان، فقبل الرشوة وعطل مصالح الخلق؟!، كيف تصل يد القانون البشرى إلى محام فاسد زيف الحقيقة وأحال الظالم إلى مظلوم باستغلال ثغرة في القانون؟!. إن الإجابة تبدو مستحيلة إذا ما غاب عن النفس قانون الضمير.. ولن ينفع القانون فينا رادعاً حتى نكون ذوى ضمائر تردع. إن الرقابة البشرية على حاجة الناس لها وعلى أهميتها، سواءً كانت رقابة إدارية، أو مالية، أو أسرية، أو اجتماعية، أو فكرية - قد تغفل وقد تغيب، ولكن رقابة المحكمة الداخلية متمثلة في ضمير حي لا تغفل ولا تغيب. وأخيراً..فقد أعجبتني حكمة أظن أن تبلور كل ما فات ( إن العدل ليس نصاً في القانون..لكنه في ضمير القاضي ).