عرف الفراعنة تجفيف الأطعمة بأشعة الشمس وتفننوا فى حفظها حتى أنهم كانوا يصطحبونها معهم إلى العالم الآخر، اعتقادا منهم بأنهم قد يحتاجونها فى رحلتهم إلى الآخرة، وعلى مر العصور توارثت الأمهات والجدات تلك العادة الفرعونية فتسابقن فى تجفيف الخضراوات فى مواسمها تحسباً للحاجة إليها، وبات التجفيف طقساً من الطقوس المنزلية المصرية تتحكم فيه أشعة الشمس الحامية. بمرور الوقت، سرعان ما أصبح التجفيف باستخدام الأفران الحرارية مشروعا كبيرا تقوم عليه أعمال المصانع، حتى أن العشرات من قرى الصعيد وتحديداً فى الأقصر وأسوان انتشرت بها المناشر لتجفيف الطماطم وتصديرها للأسواق الأوربية التى أصبحت تنتظر الطماطم المصرية المجففة على أحر من الجمر لجودتها العالية وطعمها المميز، وذلك ضمن مشروع التعاون بين وزارة الزراعة ومنظمة الأممالمتحدة للتنمية الصناعية، وتم فيه دعم المزارعين وتدريبهم على أعمال التجفيف كجزء من حمايتهم من تقلب أسعار الطماطم من ناحية ولترويجها بالأسواق العالمية من ناحية أخرى، إضافة إلى ثمرة الوادى الجديد فى تجفيف الليمون ∩الكومى∪. ورغم شهرة عملية التجفيف بين المصريين، لا توجد أسواق شعبية رائجة للمنتجات المجففة ويقتصر بيعها على السلاسل التجارية الكبرى فقط، لضعف الثقافة الغذائية حول فوائد المحاصيل المجففة وقيمتها الغذائية العالية فضلا عن أن عملية التجفيف مكلفة مادياً. منار معبد، واحدة من رائدات تجفيف الأطعمة والفاكهة فى مصر، قررت استغلال منزلها الريفى بمنطقة دهشور لإطلاق مشروعها المميز لتجفيف كافة أنواع الفواكه والخضار بالطاقة الشمسية فى وقت قصير ودون الحاجة لإضافة الملح أو السكر مستعينة ببعض السيدات البسيطات كى يكون مصدر دخل لهن يساعدهن على مشاق الحياة وينشر بينهن الثقافة الغذائية الصحية. وكانت الخطوة الأولى فى رحلتها عدم استسلامها لضغوط أحفادها المستمرة بشراء الحلوى المصنعة و∀الفاست فوود∀ فجاءت فكرة تجفيف الأطعمة بعد أن لاحظت نهم الأحفاد للأطعمة المحفوظة والابتعاد عن الأكلات الصحية، وتقول: قررت تجربة تجفيف أنواع من الفاكهة بالفرن الكهربى من دون إضافة أى مكونات أخرى، وبالفعل نجحت التجربة وأحبها أحفادى وزملاؤهم فى المدرسة، لأقرر بعدها السفر إلى الهند لمدة ثلاثة أسابيع لدراسة فن التجفيف فى وقت قياسى من دون استخدام الطاقة الكهربية، خاصة أن الهنود يجففون كافة الأطعمة بالطاقة الشمسية. وسرعان ما نجحت تجربتها وحازت إعجاب الأحفاد وزملاءهم بالمدرسة الذين أصبحوا أول زبائنها. ولم تكتفِ بذلك بل انضمت لحركة ∩سلوو فودز∪ عام 2015 التى ظهرت فى إيطاليا منذ ما يزيد على 20 عاماً للحفاظ على الأطعمة التراثية فى كل دولة، ومحاربة كافة الأنماط الغذائية الخاطئة ونشر ثقافة الطعام الصحى بين الأطفال والمراهقين فضلا على توعية الفلاح حول طرق الزراعة غير الآمنة ومحاولة إقناعهم بالزراعة النظيفة، ونجحت جهودها بالفعل فى إحدى قرى محافظة الفيوم. فى مزرعة ∀معبد∀ بدهشور، فى الجيزة تصطف مناشر تجفيف الفاكهة جنباً إلى جنب كى تمتص أشعة الشمس الدافئة وتحولها إلى طاقة تسهم فى حفظ الفاكهة وقتاً طويلاً. تقف منار أمام المناشر كى تنظم قطع الفواكه من برتقال وفراولة داخل المناشر وتلقى نظرة فاحصة على قطع الفلفل الأحمر للتأكد من جودة جفافها وصلاحيتها، وتحث العاملات على الانتهاء من تقطيع الخضراوات سريعاً قبل مغادرة أشعة الشمس فالعمل بالمزرعة يبدأ منذ الساعة الثامنة صباحاً حتى الثانية عشرة ظهراً. سبع سيدات من كافة الأعمار يعملن بجد ونشاط كأنهن عاملات فى خلية نحل لا يتوانين عن تقديم المشورة إلى منار بعد أن اكتسبن خبرة فى فن التجفيف من خلال المدرب الألمانى الذى أحضرته منار إليهن خصيصاً، يقترحن عليها تجفيف البطاطا وطحنها كى تصبح مسحوقاً يدخل فى صناعة الحلويات وأنواع الكيك المختلفة بل فكرن فى تجفيف البطيخ. صحيح أن المشروع لم يحقق الربح المنشود، لكن يوما تلو الآخر تزيد مبيعاتهن، خاصة مع قيامهن بالبدء بتجفيف فواكه وخضر جديدة، خاصة أنه يعتمد فى اختيارها على أسس صحية كما تقول منار، فلا بد أن تكون من مزرعة لا تبالغ فى استخدام المخصبات والمبيدات الكيماوية إضافة إلى أن يكون طعمها وشكلها مقبولا، مؤكدة أن أسواق الأطعمة المجففة قليلة للغاية فما زال المواطن المصرى مولعا بالأكل المحفوظ إضافة إلى كونها مرتفعة السعر. وحول خطوات التجفيف تقول: تعتمد العملية فى الأساس على الطاقة الشمسية، ففى الصيف لا تستغرق العملية سوى يوم أو اثنين على الأكثر مقارنة بالشتاء الذى قد تمتد فيه العملية إلى أسبوع وأكثر. وتوضح: نعتمد فى العملية على جودة المنتج من فواكه وخضر، ثم نقوم بتقطيعها إلى شرائح صغيرة لتسريع التجفيف، ونضعها فى المناشر ونغطيها جيداً منعاً للتعرض للهواء أو الرطوبة، وهناك بعض الخضراوات التى تطحن وتحول إلى بودرة كالبصل والثوم، ومؤخراً قمنا بطحن بعض الفواكه كالفراولة والمانجو لتستخدم فى صناعة الآيس كريم والحلويات المختلفة. وعن العوائق التى واجهتها فى هذا المشروع تقول: حتى الآن لا أمتلك إلا مجففا شمسيا واحدا، ما يجعل إنتاجنا محدوداً، فضلاً عن عدم وجود مكان آخر لتطبيق الفكرة فيه، لكن العائق الأكبر هو كيفية تغيير الثقافة الغذائية والوعى الغذائى للمصريين، خاصة فى ظل انتشار الأطعمة السريعة، وبالطبع يرتبط ذلك بوعى الأمهات وإيمانهن بضرورة إقناع أطفالهن بتناول الوجبات الصحية. وإذا كانت منار نجحت فى تجفيف الفاكهة شمسياً، فإن المهندس بهاء إسماعيل كان من القلائل الذين روجوا فكرة تجفيف الطماطم وتصديرها للأسواق الأوربية وباتت شركته من الشركات الرائدة فى ذلك المجال رغم ندرة أسواقها المحلية، فالأوربيون خاصة فى ألمانيا وإسبانيا يعتمدون عليها فى صناعة البيتزا والصلصات المختلفة. يقول بهاء: يعد التجفيف وسيلة لحفظ الخضراوات التى تحتوى على نسبة رطوبة عالية منعاً لتلفها، وهذا الأمر معروف منذ زمن الفراعنة، وما زال يُمارس فى الريف بطرق بدائية، أهمها الخضر والنباتات العطرية وتحول حالياً إلى صناعة، لكنها لم تأخذ حقها بشكل كافٍ، وقد بدأت فكرة تجفيف الطماطم فى مصر منذ نحو عشر سنوات كتجفيف شمسى فى الصعيد عن طريق الطاولات، أما تجفيف الفاكهة فليس معروفا على نطاق واسع إلا فى أوساط معينة خصوصاً مع ارتفاع أسعارها. وحول فقدان الفواكه والخضر قيمتها الغذائية بالتجفيف يوضح: ليس صحيحاً ما يُثار حول أن التعرض للشمس يقتل الفيتامينات والمعادن الموجودة فى الخضر والفاكهة، فالتجفيف ببساطة يعنى سحب كمية المياه الموجودة بما لا يضر بقيمة الثمرة كطعم وكغذاء، ولكن يرتبط فى الأساس بدرجة الحرارة سواء أكانت عالية أو منخفضة، مشيراً إلى أن هناك قلة فى أسواق المنتجات فلا يعرفها إلا الأجانب أو الأشخاص الذين كانوا يعيشون بالخارج على عكس المواطن العادى، ومن أشهر الدول المستوردة للطماطم المجففة دول أوروبا، خاصة ألمانياوإيطاليا، إلى جانب دول أخرى مثل البرازيل والولايات المتحدة.