أبدأ بالاعتراف أننى محظوظ، أولا لأن عادة القراءة أدركتنى مبكرا جدا بينما كنت على العتبة الفاصلة بين الطفولة والصبا، وثانيا لأنى تعرفت منذ البواكير على أجناس مختلفة جدا من آيات الأدب والإبداع، من ضمنها قراءة أغلب أعمال الأديب الفرنسى الكبير «جول فيرن» (1828 - 1905) الذى لم يحصل فى حياته أبدا على اعتراف نقدى بأنه واحد من عمالقة الأدب الفرنسى فى عصره، على الرغم من زيوع شهرته فى أوساط جموع القراء العاديين على نحو طبق الآفاق فى وطنه وخارجه، إذ قرأ الملايين، بشغف، أعماله فى أنحاء العالم كله، لكنه ظل حتى وفاته منظورا إليه باعتباره مجرد كاتب تسلية وعبقرى فى مغازلة خيال الأطفال فحسب. بعد رحيلة، رويدا رويدا، بدأ الاعتراف بقيمته الأدبية الرفيعة فضلا عن أنه واحد من أعلام التبشير الإبداعى المبكر بما سيحققه العلم للبشرية من فتوحات وقفزات هائلة وتطبيقات تكنولوجية مدهشة تلامس حدود السحر. أما قائمة أعماله الرائعة والكثيرة فى آن (بعضها استعان بها صناع فن السينما مثل،«عشرين ألف فرسخ تحت الماء» و«رحلة إلى القمر») فقد تنوعت موضوعاتها على نحو مدهش فمن «80 يوم حول العالم» وخيالات الوصول إلى الفضاء الفسيح خارج كوكبنا، إلى الغوص فى أعماق المحيطات والذهاب إلى مناطق فى الكوكب لم يذهب إليها خيال أحد من قبله.. هنا يأتى ذكر واحدة من أجمل أعمال جول فيرن وأشدها غرابة تلك التى تحمل عنوان «رحلة فى باطن الأرض»، فهذه الرواية على أجوائها الغرائبية وروعة أسلوب القص فيها بحيث تمسك بتلابيب القارئ من أول سطر لآخر كلمة، تكشف عن عبقرية إبداعية مذهلة. رحلة فى باطن الأرض، تبدأ كعادة فيرن بداية هادئة يغلب عليها الطابع العلمى، إذ تدور الأحداث فى بيت ألمانى أنيق وعريق تغشاه أجواء عائلية وغرامية أيضا، غير أن الأمور تتبدل فجأة بفعل صدفة تقود صاحب الدار البروفيسور وعالم الجيولوجيا «ليدزبروك»الذى يساعده تلميذه وقريبه الشاب «أكسل»، إلى العثور على مخطوطة قديمة كتبها كيميائى عاش فى القرن السادس عشر يؤكد فيها وجود حفرة بركانية فى أيسلندا تقود من يستطيع العبور منها إلى باطن الأرض، يقرر البروفيسور أن هذه تستحق المغامرة للتأكد من صحتها والتعرف على طبيعة تك وين مركز كوكبنا، وبالفعل يبدأ الرحلة مصطحبا معه مساعده الذى يترك مضطرا محبوبته تلميذة أستاذه أيضا، ومن ثم يذهبان إلى أيسلندا حيث يشاركهما شخص أيسلندى يكون بمثابة دليل لهما ويبدأ الثلاثة معا من الحفرة البركانية مغامرة فريدة يتعرضون خلالها لأهوال رهيبة ويكتشفون عوالم ومعالم ساحرة، فضلا عن أنهم يصادفون كائنات كثيرة تحلق جميعا فى أعلى سماوات الغرابة والخطورة كذلك. تستمر رحلة الثلاثة فى هذا العالم المدفون فى باطن كوكب الأرض والمحفوف بشتى أنواع الغرائب ومناظر خلابة رسمها جول فيرن بريشة لغته الجميلة الجزلة، بالإحكام والبراعة نفسها التى صاغ بها أخطار كابوسية لا تخطر البال كابدها أبطال حكايته العجيبة.. وتتصاعد الأحداث التى تحبس أنفاس القراء وترفع وتيرة ضربات قلوبهم حتى آخر مشاهد الحكاية حين ينتهى خطر أخير يواجهه رفاق الرحلة الثلاث عندما يداهمهم تسونامى رهيب يقذف بهم إلى سطح الأرض مرة أخرى، لكنهم يخرجون من مكان مختلف تماما عن الفتحة التى دخلوا منها إلى باطن الكوكب فى أقصى شمال القارة الأوروبية، إذ يجدون أنفسهم فى بقعة تقع على الطرف الجنوبى للقارة فى البحر المتوسط !