من أغرب الغرائب، أن يأخذ البعض علي الأستاذ العقاد، أو يتهموه، بأن اتجاهه إلي الإسلاميات منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي، كان إفلاسًا أو ضربًا من الإفلاس بعد أن قال كل ما عنده من فكر في مجموعاته وإصداراته الأولي حتي أواخر الثلاثينيات، أو أنه كان تخليًّا عن الأدب وعن الدور الفكري، أو إقلاعًا عن التنوير الذي بدأ به وأنفق فيه جل همّه في السنوات الثلاثين الأولي من رحلته . وقد طالعت بإمعان رحلة الأستاذ العقاد، فوجدت أنه لم يترك رسالته التنويرية حين اتجه إلي الكتابة في الإسلام وعنه وعن رموزه، وإنما اتجه إلي تنوير ألزم وأوسع مساحة ونطاقًا ..فتعداد المسلمين يجاوز الآن المليار بكثير، وهم موزّعون في الأمة العربية، وفي كثير من الأمم الآسيوية والأفريقية، ووصل إلي كثير من البقاع في أوروبا حتي بلغ تعداده في بعضها ما يجاوز الأربعة والخمسة ملايين، ويصل فيما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي إلي خمسة عشر مليونًا من المسلمين . ومَنْ دَرَسَ مسيرة أو تاريخ الإسلام، وما كان قد تعرض له من جمود طويل بعد عصر الأئمة المجتهدين، وما يعترضه منذ نهض للإصلاح روادٌ اعترضت مسيرتهم كثيرٌ من العقابيل والصعاب، يدرك أن الأمة الإسلامية وأقصد تعداد المسلمين في العالم قطاع عريض جدًا، كان ولا يزال يحتاج إلي تنوير وإلي استنارة تتصل بالإسلام الصحيح الذي تلقاه المسلمون وعرفوه في عصر النبوّة والخلفاء الراشدين، حيث دخلت عليه عبر هذه السنين ملصقات ومفاهيم لا تنتمي إلي الإسلام، وقد زادت ظواهر ذلك حتي بتنا نري أرواحًا تُحصد باسم الإسلام خلافًا للإسلام . ويمكن لكل متابع موضوعي، أن يري بوضوح أن عقيدة الإسلام كانت في أشد الحاجة إلي التجلية ليبدوالإسلام لجماعة المسلمين كما أراده الله وأنزله علي رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد اضطلع الأستاذ الإمام محمد عبده بدورٍ كبير في هذا الإصلاح، وتابعه بعض أعلام التنويريين من الأزهر وقليلون من غير الأزهر، ومع ذلك ظلت عقيدة الإسلام في حاجة ماسة إلي مزيد من التجلية، ولم يكن بين جيل الأستاذ العقاد من غير الأزهريين مَنْ أبدي اهتمامًا ملموسًا بالاضطلاع بهذه المهمة الحيوية المتعلقة بتنوير الملايين من المنتمين إلي الإسلام، بل وربما أتت المحاولة الأولي للدكتور طه حسين بعكس هذا الاتجاه فيما كان قد صدر عنه بكتاب « في الشعر الجاهلي »، الذي أثار ضجةً كبري وتداعياتٍ يعرفها القاصي والداني، أدت إلي عدول الدكتور طه عن كثيرٍ مما ضمّنه هذا الكتاب، وحذف بعض جوانبه وإضافة أخري، وإصدار الكتاب في طبعةٍ أخري باسم « في الأدب الجاهلي ». وفيما عدا كتاب « مرآة الإسلام » فإن ما كتبه الدكتور طه حسين عن الإسلام اقتصر علي التاريخ والسيرة، يبدو ذلك في علي هامش السيرة، والشيخان، والوعد الحق، والفتنة الكبري، وهي مع لزومها وأهميتها، إلاَّ أنها كانت تاريخًا ولم تكن تصديًا للعقيدة الإسلامية . وقد أخرج الدكتور محمد حسين هيكل كتابه الضافي « حياة محمد »، وأتبعه بكتابيه : الصديق أبوبكر، والفاروق عمر، ولم يفسح له العمر لإتمام كتابه عن عثمان بن عفان، وكُتِبَ فصله الأخير بعد وفاته، وقد بلغ كتابا «حياة محمد » و« الفاروق عمر » درجة هائلة من الذيوع والانتشار، إلاَّ أن العناية بالتاريخ كانت هي الأساس في هذه المؤلفات . ولم يخرج الأستاذ مصطفي صادق الرافعي في الإسلاميات سوي كتابه : « إعجاز القرآن والبلاغة النبوية »، إلاَّ أنه في البلاغة اللغوية لكل من القرآن والسنة، ودارت جميع فصوله حول البلاغة والبيان والإعجاز اللغوي، أما مجموعة تاريخ آداب العرب، فموضوعها آداب العربية، وفيما عدا ذلك لا توجد إلاَّ بعض مقالات إسلامية قليلة متفرقة في مجموعة وحي القلم . ومن ثم فقد كان اتجاه الأستاذ العقاد إلي الإسلاميات، اتجاهًا واجبًا للنهوض برسالة التنوير التي كانت المكتبة الإسلامية في أشد الحاجة إليها. الاستنارة الإسلامية ودور الأستاذ العقاد علي تميز عبقريات وتراجم الأستاذ العقاد، إلاّ أن كتابته في عقيدة الإسلام، كانت لازمة لتجلية هذه العقيدة، وإتاحة الفهم المستنير لها، بعدما وقعت أجيال في قبضة الجمود الذي ران لقرون، ولم تكن هذه الكتابات خروجًا أوانسحابًا من التنوير كما ظن البعض، وإنما كانت تنويرًا أوسع مديً وأشمل نطاقًا وأكثر تأثيرًا في استنارة عقول ملايين من البشر دانوا بالإسلام، وانحرفت ببعضهم السبل عن فهم الإسلام فهمًا صحيحًا علي حقيقته بسبب سنوات الهبوط والجمود، وما أخرجته من غثاء عاني منه العالم الإسلامي طويلاً . من كتابات الأستاذ العقاد في عقيدة الإسلام : الله بحث في نشأة العقيدة الإلهية، موكب النور في طوالع البعثة المحمدية، الفلسفة القرآنية، التفكير فريضة إسلامية، الإنسان في القرآن الكريم، المرأة في القرآن الكريم، الديمقراطية في الإسلام، ما يقال عن الإسلام، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، الإسلام في القرن العشرين : حاضره ومستقبله، شريعة الإسلام والشيوعية، الإسلام والاستعمار، عبقرية الإصلاح والتعليم : الإمام محمد عبده، الإسلام دعوة عالمية، الإسلام والحضارة الإنسانية، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، فضلاً عن مئات المقالات المتفرقة في المجلدات الأربعة لليوميات، وفي غيرها من المجموعات . ومَنْ يدرس هذه الأعمال، ير بوضوح أن الأستاذ العقاد لم يترك رسالة التنوير، حين اتجه من أول الأربعينيات إلي الكتابات الإسلامية، بل إنه حمل مشعل النور إلي مئات الملايين إلي أمة المسلمين التي ينتمي إليها، يبسط إليهم الإسلام، ويهز الجمود الذي ران، ويصحح المفاهيم الخاطئة التي تجذرت، ويقود عقول الملايين من البشر إلي مواطن النور والفهم، ويعلي لديهم قيمة العقل والتفكير، ويضعهم علي الطريق الصحيح للإسهام المستنير في نهر الحياة . وجدير بالذكر أن الأستاذ العقاد حظي بتقدير كبير من الأزهر علي كتاباته الإسلامية، وأن من أكبروا الأستاذ العقاد وقدروا فضله في المنافحة عن الإسلام، من أئمة وشيوخ الأزهر، كانوا من المستنيرين الداعين للاستنارة، كالإمام الأكبر محمود شلتوت والشيخ الباقوري والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب . الدكتور لويس عوض ربما كان للدكتور لويس عوض بعض العذر في عدم مطالعته هذه الأعمال الإسلامية، وربما كان له تعلّة في ميله بحكم ديانته عن الإسلام، ومن ثم عدم تقدير هذه الأعمال تقديرها الصحيح، وإدراجها الإدراج الواجب في باب التنوير الذي ظن أن الأستاذ العقاد تخلي عنه حين اتجه إلي الإسلاميات، وتبني هذا النظر القاصر في سلسلة مقالاته : « تأملات في أدب العقاد »، وفي مقالاته عن « الثورة والثقافة »، والمُعاد نشرها في كتابه « الثورة والأدب »، ونعي فيها علي الأستاذ العقاد فيمن نعي عليهم الفراغ الذي نجم في الأدب بين سنتي 1936 و1952، وأدلي بأن الأستاذ العقاد انصرف بذلك عن الأدب والفكر والتنوير بعد أن أتم رسالته الأدبية بأعماله الأولي . ولا أظن أن للدكتور لويس عوض عذرًا في عدم مطالعته لهذه الأعمال الإسلامية، ومن ثم اقتطاع هذه الأعمال من باب الأدب والتنوير، فلا عذر لناقدٍ أيًّا كان دينه في أن يترك شيئًا لا يلم به مما هولازم لتكوين آرائه النقدية، وعن قامة بحجم الأستاذ عباس العقاد . والغريب أن البعض قد جاري هذا النظر، حتي حصر أحد كبارهم أو كاد يحصر إنتاج الأستاذ العقاد في العبقريات، مدليًا عليه بأنها أعظم ما يفاخر به من إنتاج !! فرية أخري مغرقة في الخطأ والأغرب أن مَن أخذوا علي الأستاذ العقاد أن اتجاهه إلي الإسلاميات كان ابتعادًا عن الأدب وعن التنوير، قد قعدوا عن دراسة باقي أعمال الأستاذ العقاد منذ أول أربعينيات القرن الماضي، فحسبوا أنه حين اتجه إلي الإسلاميات، قد ترك ما عداها، ولم يعد معنيًّا لا بالأدب ولا بالفكر العالمي ولا بالتنوير، وهذه بدورها فرية أكثر إغراقًا في البعد عن الحقيقة . فطوال هذه السنوات من أول أربعينيات القرن الماضي، حتي لاقي ربه في 13 مارس 1964، لم ينقطع الأستاذ العقاد عن الكتابة في الفكر وفي الأدب بعامة، ولم يضع مشعل التنوير قط . فقد ظل يكتب بانتظام مقالات في هذه الموضوعات المتنوعة، في المجلات الأدبية والفكرية، وفي الصحف اليومية، فكان يكتب بانتظام لمجلة الهلال الشهرية، وفي الدوريات والمجلات الأدبية، وفي صحف الأهرام والأخبار وأخبار اليوم، وانتظم منذ يوليو1951 حتي قبيل وفاته بأسبوعين، في كتابة يومياته لكل من أخبار اليوم والأخبار، وقد بلغت مئات المقالات في مختلف المجالات الفكرية والأدبية والإنسانية، جُمعت في أربعة مجلدات ضخمة صدر أولها قبل وفاته بنحو عام . وطوال هذه السنين التي أفرز فيها درره الإسلامية، فضلاً عن العبقريات والتراجم الإسلامية، وبالتوازي معها، كتب للأدب والفكر الإنساني بعامة : تذكار جيتي، وسعد زغلول سيرة وتحية، وشعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، وفرنسيس بيكون، وفي بيتي، وهذه الشجرة دراسة شاملة عن المرأة، ويسألونك، والفيلسوف ابن سينا، وعلي الأثير، وروح عظيم : المهاتما غاندي، وعقائد المفكرين في القرن العشرين، وبرناردشو، وفلاسفة الحكم في العصر الحديث، وبين الكتب الناس، وسن يات سن أبوالصين، وضرب الإسكندرية في 11 يوليو1882، والقائد الأعظم محمد علي جناح، والفيلسوف ابن رشد، وإبراهيم الخليل أبوالأنبياء، وحياة المسيح، وفلسفة الثورة في الميزان، وأفيون الشعوب : المذاهب الهدامة، وبنجامين فرانكلين، وجحا الضاحك المضحك، والشيوعية والإنسانية، والصهيونية العالمية، ومطالعات، ولا شيوعية ولا استعمار، وإبليس دراسة في عبقرية الشر، والتعريف بشكسبير، والقرن العشرون . ما كان وما سيكون، والثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين، والرحالة «كاف» : عبد الرحمن الكواكبي، شاعر أندلسي وجائزة عالمية، واللغة الشاعرة . مزايا الفن والتعبير في اللغة العربية، وفلسفة الغزالي، والأستاذ الإمام محمد عبده . عبقري الإصلاح والتعليم، وأشتات مجتمعات في اللغة والأدب، ورجال عرفتهم، وجوائز الأدب العالمية،، إلي غير ذلك مما تم جمعه في كتب أمثال : دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، وردود وحدود، وبحوث في اللغة والأدب، والمرأة ذلك اللغز، والحرب العالمية الثانية، وآراء في الآداب والفنون، وخواطر في الفن والقصة، والصهيونية وفلسطين، ومواقف وقضايا في الأدب والسياسة، ومذهب ذوي العاهات . ويبدو لي أن مشكلة المتابعين للأستاذ العقاد أن إنتاجه بلغ من الغزارة والعمق والتنوع، ما عزّ علي البعض متابعته فضلاً عن الإلمام به ودراسته الدراسة الواجبة، وأن قامته كانت أعلي مما استطاع البعض استيعابه لإعطاء هذا المفكر العظيم حقه . يحسب للأستاذ العقاد أنه كان سادنًا حقيقيًّا للتنوير في الإسلام، وأنه قد ظل طوال حياته رافعًا مشعل التنوير منذ بدأ الكتابة، وحتي لاقي ربه في مارس 1964 !