مع الأستاذ عباس العقاد عشت تقريبًا كل عمري الواعي منذ عرفت القراءة والكتابة، ولكني أتمتع من ثلاث سنوات بصحبة دائمة مستغرقة كل الاستغراق معه، أجوب وأغوص في مدائنه باحثًا ومنقبًا بين مقالاته التي بلغت الآلاف، ومؤلفاته التي أربت علي المائة، ودواوين أشعاره التي بلغت ثلاثة عشر ديوانًا غير الأشعار المتفرقة، ويومياته التي ملأت أربعة مجلدات ضخمة، تواصل في معظمها مع قرائه، ليجيب بموسوعيته العريضة وفكره العميق علي أسئلتهم وتساؤلاتهم، في صبر طويل لا يضاهيه إلاَّ إيمانه برسالته التنويرية، ومسئوليته أن ينقل إلي الناس وإلي الأجيال حصاد فكره وثقافته الواسعة وتأملاته الثاقبة التي ضرب بها في كل باب. بدأت هذا الاستغراق الذي يعطيني زادًا ومتعة، منذ أزمعت أن أعرض تاريخ وإنتاج هذا العملاق في موسوعة صدر مجلدها الأول، اخترت لها عنوانًا : « في مدينة العقاد »، ولكن الناقد الكبير الدكتور يوسف نوفل حبّذ فيما كتبه عنه، أن الأجدر بالأستاذ العقاد أن يكون العنوان « في مدائن العقاد »، حالة كون ما أفرزته قريحته قد انتظمته مدن، ولا تتسع له مدينة واحدة . تنوع وعراضة المدائن يكاد يكون الأستاذ العقاد بلا نظير في غزارة وتنوع وعمق إنتاجه، وحسبك أن تعرف عناوين ما خاضه وكتب فيه، لتري أنه نسيج وحده، كتب مطالعات في الكتب والحياة، ومراجعات في الآداب والفنون، وبين الكتب والناس، والفصول، وخلاصة اليومية والشذور، وساعات بين الكتب، وهذه الشجرة، ومجمع الأحياء، والمطالعات، وكتب عن الأنبياء الثلاثة الكبار : إبراهيم الخليل أبو الأنبياء، والمسيح عليه السلام، ومحمد صلي الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين، وعنه تعددت مؤلفاته، فكتب عبقرية محمد، ومطلع النور في طوالع البعثة المحمدية، وتوزعت مقالات أخري عنه في مجموعاته الكثيرة .. وكتب عن الفكر الإنساني وفلاسفته بعامة : الحكم المطلق في القرن العشرين، وتذكار جيتي، ورجعة أبي العلاء المعري، وفرنسيس بيكون، والشيخ الرئيس ابن سينا، وروح عظيم المهاتما غاندي، وعقائد المفكرين في القرن العشرين، وفلاسفة الحكم في العصر الحديث، وصن يات صن أبو الصين، وابن رشد، وعن فلسفة الإمام الغزالي، وعن أفيون الشعوب : المذاهب الهدامة، وبنجامين فرانكلين، وعن إبليس وفلسفة الشر، وعن الضحك : جحا الضاحك المضحك .. وكتب في المذاهب والحركات الضالة : هتلر في الميزان، النازية والأديان، الصهيونية العالمية، الصهيونية وفلسطين، ومذهب ذوي العاهات .. وكتب في الإسلاميات : الله : بحث في نشأة العقيدة الإلهية، والفلسفة القرآنية، والإنسان في القرآن الكريم، والتفكير فريضة إسلامية، والديمقراطية في الإسلام، وحقائق الإسلام وأباطيل خصومه، وما يقال عن الإسلام، والإسلام في القرن العشرين . حاضره ومستقبله، وأثر العرب والإسلام في الحضارة الأوروبية، والشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام، وعن موقف الإسلام من الاستعمار، والمرأة في القرآن، والإسلام دعوة عالمية، والإسلام والحضارة الإنسانية .. وكتب العبقريات الخمسة المعروفة : عبقرية محمد، وعبقرية الصديق، وعبقرية عمر، وعبقرية الإمام عليّ، وعبقرية خالد .. وكتب تراجم عن كبار الصحابة : عثمان ذو النورين، الحسين أبو الشهداء، الصديقة بنت الصديق (أم المؤمنين)، فاطمة الزهراء والفاطميون، وداعي السماء بلال بن رباح، ومعاوية بن ابي سفيان في الميزان، وعمرو بن العاص .. وفتح قضية بالغة الأهمية في الشعر العربي بحركة وكتاب الديوان الذي وضعه والأستاذ المازني، ورواية قمبيز لشوقي في الميزان .. وكتب في اللغة والشعر : اللغة الشاعرة . في مزايا فن التعبير في اللغة العربية، شعراء مصر وبيئاتهم في الجيل الماضي، ابن الرومي : حياته من شعره، شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة، جميل بثينة، أبو نواس الحسن بن هانئ، أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، دراسات في المذاهب الأدبية والاجتماعية، بحوث في اللغة والأدب (مجموعة مقالات جمعت بعد وفاته)، آراء في الآداب والفنون، خواطر في الفن والقصة .. وفي الآداب العالمية : برنارد شو، فرنسيس بيكون، التعريف بشكسبير، تذكار جيتي، الثقافة العربية أسبق من ثقافة اليونان والعبريين، شاعر أندلسي وجائزة عالمية، جوائز الأدب العالمية، فنون وشجون، مواقف وقضايا في الأدب والسياسة (مجموعة بعد وفاته) .. ومما كتبه عن الشخصيات العالمية والزعامات المصرية وعبقريات الإصلاح : القائد الأعظم محمد علي جناح، الزعيم سعد زغلول : سيرة وتحية، الرحالة « كاف » عبد الرحمن الكواكبي، الأستاذ الإمام محمد عبده عبقري الإصلاح والتعليم، رجال عرفتهم .. وكتب عن تجربته في السجن : عالم السدود والقيود، وعن حكومة القبضة الحديدية لمحمد محمود، وعن ضرب الإسكندرية في يوليو 1882، وعن القرن العشرين : ما كان وما سيكون .. وكان إلي ذلك شاعرًا مجيدًا يشهد له بالموهبة والعمق أفذاذ الشعراء، وتشهد علي ذلك دواوين أشعاره : ديوان يقظة الصباح، ديوان وهج الظهيرة، ديوان أشباح الأصيل، ديوان العقاد (أربعة دواوين في ديوان)، ديوان أشجان الليل، ديوان وحي الأربعين، ديوان هدية الكروان، ديوان عابر سبيل، ديوان أعاصير مغرب، ديوان بعد الأعاصير، ديوان من دواوين (مقتطفات من الدواوين السابقة)، ديوان ما بعد البعد .. إلي رواية سارة، وثلاث قصص قصيرة ظهرت في دوريات في الأربعينيات، وأعمال ترجمها منها « عرائس وشياطين » لمجموعة أشعار عالمية، ومقالات مترجمة لفرنسيس بيكون، وأخري لبنجامين فرانكلين، وترجمة تقرير اللورد ميلنر، وترجمة عدة أعمال من حديقة أبيقور لأناتول فرانس، إلي المراجعات والإشراف، إلي المقالات التي بلغت الآلاف، ومجلدات اليوميات الأربعة الضخمة، ويلحق بها كتاب : ويسألونك الذي ضم إجابات علي أسئلة عريضة، ومجموعة علي الأثير، وهي مجموعة من الأحاديث الإذاعية والمحاضرات ألقاها الأستاذ العقاد، ونشرت تباعاً في دوريات منذ سنة 1934، ثم جمعتها دار المعارف مصنفةً في كتاب « علي الأثير » . لماذا هو جامعة وحده ؟! علي أن وصف «الجامعة» الذي يستحقه الأستاذ العقاد، لا يتساند فقط إلي هذا الإنتاج الغزير المتنوع العميق، وإنما قصدت به الدور التنويري الذي قام به رغم أنه لم يكن صاحب منبر يتيح له التواصل مع الأدباء والساعين إلي المعرفة، فلم يكن أستاذًا بجامعة له فيها زملاء وطلاب ومريدون، ولا كان صاحب دار نشر أو جريدة يستطيع أن يستثمرها بانتظام لتحقيق هذه الرسالة، ولم يكن يعتمد إلاَّ علي ما يصدره من كتب وما يُنشر له من مقالات هنا وهناك بين الدوريات المختلفة . فكيف استطاع الأستاذ العقاد أن يكون «دائرة حاضنة» تقوم مقام الجامعة، وأن يتواصل تواصلاً فاعلاً حيًّا مع المعاصرين، ومع الأجيال المتتابعة ؟! هذه الصعوبة في التواصل هي التي تشهد للأستاذ العقاد بالحرص الحريص علي أداء رسالته التنويرية، ولم تكن ندوته الأسبوعية لتصلح وحدها مع أهميتها ودلالتها علي حرصه علي التواصل لم تكن لتصلح وحدها لاستيعاب هذه الرسالة وأدائها . بيد أنك تجد أداء هذه الرسالة حاضرًا في كثير من مقالاته في المجاميع التي أشرت إليها، فإذا أردت التركيز فستجدها حاضرةً في كتابه : ويسألونك، وفي أغلبية يومياته المجموعة في أربعة مجلدات ضخمة، لمقالات كتبها أسبوعيًّا بأخبار اليوم والأخبار، منذ 12/7/1951 وحتي 26/2/1964، أي قبل وفاته في 13 مارس 1964 بأسبوعين . ستجد نسبة كبيرة من هذه الكتابات إجابات شافية علي أسئلة وتساؤلات أتته من قراء من مصر ومن كثير من الأقطار العربية، وكان مع حرصه علي الإجابة حريصًا علي ذكر اسم السائل وصفته، وهو حرص فيه ذكاء ووفاء وفطنة، فلم يكن هناك انترنت ولا وسائل للاتصال والتواصل غير الخطابات البريدية، وهي تستغرق للوصول أيامًا إنْ لم يكن أسابيع، يتكبد فيها السائل فيما يتكبده طول الانتظار والشوق إلي تلقي الإجابة أو الإيضاح، والتعريف بالسائل تشجيع له ولغيره علي التواصل رغم صعوبة وسائله في ذلك الأوان . ولا مراء أن خصوبة الحياة الأدبية والثقافية آنذاك قد ساعدت علي انتشار كتابات الأستاذ العقاد، والإقبال من ثم علي قراءتها، والتمعن فيما كانت تثيره من قضايا فكرية ودينية وأدبية، وما كان ذلك يستولده من أسئلة أو تساؤلات وجد السائلون بغيتهم في الأستاذ العقاد نفسه، ليس فقط لأنه الكاتب، ولا لصيته وعراضة علمه فحسب، وإنما أيضًا لأنه يُعْني بالإجابة وبالتواصل الإنساني الحي مع سائليه، فيذكرهم بالاسم، ويذكر صفاتهم، ولا يبخل بالتنويه بقدراتهم .. ويجيبهم في اهتمام لا يبخل فيه بجهد في جمع مادته وبحثها وعرض أصولها مجدولة بفكره الذي استهوي الباحثين عن الجدية والموضوعية . حرص العقاد علي مجانية الثقافة وكان في مقدمة أسباب هذا التواصل الحي، بين جامعة الأستاذ العقاد الحاضنة، وبين متابعيه، حرصه الحريص علي التزام مبدأ مجانية الثقافة، فلم يكن يلجأ إلي الطبعات القشيبة المكلفة غالية الثمن، وإنما كان علي العكس حريصًا علي الكتابة في السلسلات الدورية التي تباع بقروش معدودة، وفي مقدمتها سلسلة « كتاب الهلال » التي كانت تصل إلي البلدان العربية، وسلسلة « اقرأ » التي تصدرها دار المعارف، والتي قامت هي ودار الهلال بتيسير الثقافة والأدب بكتب بالغة التميز والأهمية فيما كان ثمنه (الزهيد) يدور بين خمسة وعشرة قروش للكتاب، ولا يتجاوز بحال إثني عشر قرشًا في الطبعات الممتازة للكتب الضخمة . إلي ذلك كله كان الأستاذ العقاد ييسر مقالاته، ومنها ما ضمته كتب ومجاميع فيما بعد، في الدوريات والصحف والمجلات السيارة، فيجدها القارئ ميسورة أمامه فيما يتابعه في هذه الدوريات التي تضم بثمن زهيد العديد من المقالات والأعمال الأدبية، والقصص القصيرة، والروايات التي تنشر مسلسلة، إلي عرض أهم الكتب والمطبوعات التي تصدر في الشرق والغرب . استطاع القراء أن يطلعوا علي كثير من مؤلفات الأستاذ العقاد التي كانت تنشر مسلسلةً في هذه الدوريات، وتستطيع أن تجد كثيرًا من أعماله الكبري منشورة تباعًا في هذه الصحف والدوريات، تجد متتابعات « عبقرية محمد »، مثلما تجد متتابعات « ابن الرومي »، وتستطيع إذا مررت مرورًا بدليل مدينة العقاد بالمجلد الأول، أو بمجلديْ العقاد بموسوعة أعلام الأدب المعاصر في مصر، أن تجد معظم مؤلفاته منشورة بالتتابع في دوريات الدستور (القديمة)، والبلاغ، والضياء، وعكاظ، والمؤيد، والجريدة، والمقتطف، والأهالي (القديمة)، وكل شيء، والرسالة، والرجاء، والمشكاة، والأفكار، والبيان، والمحروسة، والجديد، وروز اليوسف اليومية (القديمة)، والجهاد، والأساس، والكتلة، والكتاب، والمواهب، والوادي، وصوت الشرق، وقافلة الزيت، والاثنين، والسياسة، والشبان المسلمون (وليس الإخوان)، والرياض، والكواكب، وفي غيرها من الصحف والمجلات التي لا تزال تصدر حتي اليوم كالهلال الشهري، والمصور، والأزهر، ومنبر الإسلام، وآخر ساعة، وأخبار اليوم، والأخبار، والأهرام، والإذاعة، والعربي، والثقافة، فضلا عن مجلة مجمع اللغة العربية . أتاح الأستاذ العقاد نفسه وإنتاجه القيم لكل من يريد، وبلا ثمن لمن يعييهم بذل الثمن، وقد كان هذا ركيزة أساسية ليس فقط لانتشار إنتاج الأستاذ العقاد، وإنما للقيام بدوره التنويري كحاضن وإِنْ علي البعد للمواهب وللقراء الجادين في القراءة والراغبين في الحصول علي ما ينفع ويثري ويجدي في إنارة العقول وتوسيع دوائر الثقافة . هو جامعة إذن لقد قاربت كتب الأستاذ العقاد علي المائة كتاب، في الفكر، والعقائد والمذاهب، وفي الإسلام، وفي السير والتراجم، وفي الفلسفة والتاريخ، وفي الأدب والشعر والنقد، وفي الحضارة وتطوراتها، وفي الوطنية والسياسة، وفي السيرة الذاتية .. وكتب آلاف المقالات خلاف هذه الكتب في شتي المجالات، وفي العديد من الصحف والمجلات والدوريات، علي مدي أكثر من نصف قرن منذ بدأ كتاباته الأولي عام 1907 حتي لاقي ربه في مارس 1964، فكان رحمه الله نسيجا وحده، وجامعة تنويرية حاضنة لكل المواهب ولكل الراغبين في المعرفة والاستنارة، وملهمًا ومؤثرًا لأدباء ومفكرين، لم يقابلهم ولم يقابلوه، وإنما تلقوا كتاباته مثلما تلقوا إجاباته التي كان حريصًا علي بذلها لكل سائل جاد يتجه إليه بالسؤال طلبًا للعلم والمعرفة، والأدب والثقافة . ما أحوجنا إلي « جامعة » تستطيع أن تنهض بما نهض به الأستاذ العقاد بمفرده !