كنا نتصور دائمًا أن ميدان التشييد والبناء والإعمار قاصر على الرجال فإذا بتلك السيدة الرائعة «بريطانية الجنسية» «عراقية الأصل» تتفوق على الجميع كان مهذبًا بطبعه، رقيقًا بفطرته، لا يرتفع صوته ولا ينفعل، وكانت آماله أعرض من الدنيا، وسعت إليه الشهرة وهو فوق الستين رغم تاريخه العسكرى والأمنى والدبلوماسي، إنه الراحل اللواء «سامح سيف اليزل» الذى شيعناه إلى حيث لا يعود الناس منذ أيام قليلة، وعندما جلست فى صالة العزاء ب»المسجد» الضخم تذكرت أننى أعرفه منذ عشرات السنين لأنى قريب تاريخيًا من عائلته، فوالده هو السفير الراحل «محمود سيف اليزل» الذى كان أول سفير ل»مصر» فى «السودان» بعد الاستقلال واستمر فى موقعه سنوات عشر أحبه فيها السودانيون وارتبطوا به وبأسرته ارتباطًا شديدًا، كما أن أخاه الأكبر هو الدبلوماسى اللامع «سمير سيف اليزل» الذى كان مساعدًا أول لوزير الخارجية المصرية ثم أمينًا عامًا مساعدًا ل»جامعة الدول العربية» وهو الذى تحمل العبء الأكبر فى نقل وزارة الخارجية وترتيب أوضاعها فى مبناها الجديد مع بدايات عهد السيد «عمرو موسى» بتلك الوزارة، وأعرف أيضًا أخاه الدكتور «سعيد» الذى كنت أراه فى «لندن» مع الأسابيع الأولى لوصولى إليها عام 1971، وقد تميز الراحل «سامح سيف اليزل» بالأدب الجم والشهامة المعروفة وقد حكى لى قصصًا كثيرة من تاريخه العسكرى والدبلوماسي، فبعد «نكسة يونيو» رأى جهاز أمن الرئيس «عبد الناصر» أن يجعل حراسته لضباط موثوق بهم من عائلات معروفة للرئيس فكان من نصيب الملازم أول «سامح سيف اليزل» أن يكون حارسًا للزعيم الراحل فى «قاعة السينما» ذات مساء، فطلب منه الرئيس تشغيل «جهاز العرض» فضغط عليه والرئيس يجلس وحده يتابع أحد الأفلام فقد كانت تلك هى تسليته الوحيدة فى تلك السنوات الصعبة أثناء «حرب الاستنزاف»، ثم طلب منه الرئيس إيقاف جهاز التشغيل وطلب الرئيس العشاء فجاءه أحد العاملين فى المنزل يدفع «ترولي» متهالكا عليه قطعة من «الجبنة البيضاء» وطبق من «الخبز الجاف» مع بعض «السلطة الخضراء»، وعندما وصلت إلى الرئيس سأل الضابط الصغير «سامح سيف اليزل»: هل تناولت عشاءك؟ فقال له: نعم يافندم، فقال له الرئيس «عبد الناصر»: لا أعتقد أنك قد تناولت العشاء، فقال له: نعم يا فندم لم أتناوله بعد، فقال له: اطلب العشاء لك، وظل الزعيم الراحل لا يمد يده إلى طعامه حتى جاء «ترولي» آخر صغير وعليه بعض المأكولات الخفيفة لضابط الحراسة ولم يبدأ الرئيس فى تناول طعامه إلا عندما رأى الضابط الصغير - الذى لا يعرفه - قد بدأ يأكل، هكذا روى لى «سامح سيف اليزل» وهو اليوم فى دار البقاء وتلك أمانة يجب أن يعرفها الجميع، وقد قال لى الصديق الراحل إن الرئيس «عبد الناصر» قد عرف اسمه فيما بعد بحكم علاقته القديمة بوالده الضابط الذى كان سفيرًا فى «السودان» وعلم أن والدة «سامح سيف اليزل» مريضة فكان الزعيم الراحل - رغم كل مشاغله وهمومه - يسأله كلما رآه عن صحتها، ولازلت أتذكر إحدى النوادر التى حكاها لى «سامح سيف اليزل» عندما كان دبلوماسيًا أمنيًا فى السفارة المصرية فى «كوريا الشمالية» ورأى ذات يوم «طائر الحمام» يرفرف على نوافذ السفارة فسأل الموظف «الكورى المحلي»: هل تأكلون «الحمام»؟ فقال له: لا ولكننى أستطيع أن أدبر لك ذلك إذا أردت، وفوجئ فى اليوم التالى بدعوته لاجتماع فى مقر وزارة الزراعة وأمامه أربعة أو خمسة من المسئولين يناقشون معه موضوع إمكانية بيع زوجين من «الحمام» له فبدت الدهشة على وجهه وظلت المفاوضات من خلال المترجم لأكثر من ساعة ثم طلبوا رقمًا خرافيًا من «الدولارات»، فاعتذر لهم الراحل «سامح» بأدب وقال لهم إنه صرف النظر عن أكل «الحمام» فى «كوريا الشمالية» لأن ذلك ليس أمرًا شديد الضرورة لديه، ولكن مغزى القصة كما يرويها هو تلك الجدية التى تأخذ بها تلك الشعوب الآسيوية مثل هذه الأمور باعتبارها مسألة دبلوماسية تحتاج إلى اجتماعات ومفاوضات، لقد كان رحمه الله إنسانًا مؤنسًا فى حديثه ودودًا فى علاقاته، ولقد سافرنا معًا إلى «نيويورك» منذ عامين أو أكثر وحكى لى عن فترة عمله مع الرئيس الأسبق «مبارك» كمسئول عن الأمن فى مقر الرئاسة مع الشهور الأولى لحكمه وكيف أطاحت به الوشايات حيث نقل بعدها للعمل فى سفارتنا ب»لندن» وهناك اجتمعت له دائرة واسعة من العلاقات وشبكة من الاتصالات أفادته فى مسيرة حياته، والذى يحزننى بحق أن الرجل كان مفعمًا بالأمل فى السنوات الأخيرة متطلعًا إلى دور فى خدمة بلاده حيث داهمه المرض اللعين بطريقة غادرة فى فترة كاد فيها أن يقطف ثمار مسيرة حياته، وعندما انتخب «البرلمان المصري» اتصل بى الراحل هو والصديق اللواء «سعد الجمال» لكى أحاضر أعضاء «المجلس» محاضرات ثلاث فى أيام متتالية وقد فعلت ذلك، وكنت أجلس معه فى الاستراحة قبل بدء كل محاضرة وأشعر أن صحته تتراجع وأنه يذبل يومًا بعد يوم ولكن كان لديه أمل فى الشفاء وتعلق بالحياة، ولا أستطيع الآن إلا أن أردد الدعاء له بالرحمة فى مقعد صدق عند مليك مقتدر وأن أتقدم لأسرته الفاضلة وعائلته الكبيرة ورفاقه وأصدقائه ومحبيه بخالص العزاء وصادق المواساة. الطالب الإيطالي سوف يظل هذا اللغز يؤرق المصريين لأن مصرع ذلك الباحث الإيطالى الذى يبدو أنه أكثر أهمية من مجرد طالب «دكتوراه» قد أدى إلى تداعيات سلبية على «مصر» وصورتها فى الخارج، وقد نكون مظلومين وأبرياء من أى اتهام ولكنها لعنة تلاحقنا فى ظروف صعبة تضيف إلينا متاعب مع دولة صديقة رغم أن فينا ما يكفينا، ولقد قالوا قديمًا: إذا أردت أن تعرف الفاعل فابحث عن المستفيد، والمستفيد هنا بالضرورة ليس الحكومة المصرية على الإطلاق فلقد توترت العلاقات «المصرية - الإيطالية» - ولو مرحليًا - وجرى تشويه صورة «مصر» أمام «دول الاتحاد الأوروبي» والعالم الغربي، ولقد قابلت السفير الإيطالى منذ أيام ووجدت الرجل متماسكًا وهادئًا وحريصًا على العلاقات بين البلدين الصديقين واللذين يرتبطان بتاريخ حضارى طويل، ويكفى أن نتذكر أن «مصر» هى أكبر دولة فى «جنوب المتوسط» وأن مستقبل العلاقات بين «القاهرة»و»روما» كان واعدًا ويبشر بالخير اقتصاديًا وسياسيًا، كما أن «إيطاليا» دولة داعمة للسياسة المصرية داخليًا وخارجيًا حتى جرى دق هذا «الإسفين» لكى تكون له تداعياته السلبية ونتائجه المقلقة على صعيد العلاقات بين دولتين بينهما تاريخ طويل من التعاون المشترك حتى سحبت «روما» سفيرها فى «القاهرة» بعد يومين من لقائى به، ولعلى أتساءل مع الكاتب الكبير أ.»صلاح منتصر» لماذا كان اختفاء ذلك الباحث هو يوم «عيد ثورة يناير» فى الخامس والعشرين منه؟ ولماذا كان اكتشاف جثمانه فى يوم وصول الوفد الإيطالى رفيع المستوى إلى «القاهرة» لمباحثات اقتصادية بناءة؟ إن كثرة الأدلة وإحكامها تكون أحيانًا لصالح المتهم، وهو يشير إلى أن الفاعل الحقيقى يسعى لتوريط أجهزة الأمن المصرية فى جريمة لا أظن أن لديها من السذاجة ما يجعلها تقدم عليها وبهذه الطريقة الفجة، وإن كنت أعتب على السلطات المصرية المختلفة عدم القدرة على التعامل مع الأزمة على نحو أفضل، فالإخراج لم يكن على المستوى المطلوب فى مثل هذه الحادثة بما يحيط بها من حساسيات وما يكتنفها من غموض، وأنا أظن أن الصدق الكامل والشفافية اللازمة هما الأسلوبان الأمثلان فى مواجهة مثل هذه الأمور. أوراق «بنما» مثلما قامت الدنيا ولم تقعد بسبب تسريبات «ويكيليكس» منذ سنوات قليلة وقبيل «ثورات الربيع العربي» بأسابيع محدودة فإن العالم الآن قد أصبح مشغولًا ب»وثائق بنما» والتى يبدو واضحًا أن وراءها دوافع سياسية لإحراج بعض الساسة والزعماء وفى مقدمتهم «فلاديمير بوتين» «قيصر الكرملين» والخصم العنيد ل»الغرب» رغم اتفاقه معهم فى بعض المسائل الجوهرية والقضايا الدولية، وفى ظنى أن «ويكيليكس» و»وثائق بنما» كلاهما تأكيد على أنه لم يعد فى العالم ما يمكن إخفاؤه، وأن العيون مفتوحة، وأجهزة الرصد نشطة ولم يعد من الممكن أن يفلت مغتصب بجريمته مهما علا قدره وارتفع شأنه فلقد أصبحنا نعيش فى عالم مفتوح لا خصوصية فيه ولا تستر ولا مواربة، إنه العالم الذى لا تخفى فيه خافية، ولا تحتجب لديه معلومة، ولا يعيش فيه من هم فوق المساءلة الدولية أو الوطنية فالنوافذ مفتوحة والسماوات مكشوفة ولا شيء يمكن حجبه مهما امتد به الأمد وطال عليه الوقت. «زها حديد» كنا نتصور دائمًا أن ميدان التشييد والبناء والإعمار قاصر على الرجال فإذا بتلك السيدة الرائعة «بريطانية الجنسية» «عراقية الأصل» تتفوق على الجميع فلقد تمكنت تلك المعمارية العظيمة التى رحلت عن عالمنا منذ أيام عن عمر يناهز السادسة والستين من ترك بصمات قوية على فن «العمارة المعاصر» وأدخلت روحًا مختلفة لم تكن موجودة من قبل حتى إن «ولى عهد بريطانيا» المغرم بالطرز المعمارية قد أشاد بها كما كرمها العالم بالميداليات الذهبية والأوسمة الرفيعة والشهادات المرموقة، فلقد تمكنت تلك السيدة الموهوبة من السيطرة على فن استخدام عنصر المكان وتحويل المساحة الأفقية والامتدادات الرئيسية إلى روائع معمارية فهى بحق مبدعة من طراز فريد فى فن ملء الفراغ الهندسى بأسلوب جديد وتشكيلات مبهرة، إن «زها حديد» هى ابنة الوزير العراقى «محمد حديد» الذى عمل فى الحقبة الملكية ب»العراق» - وطنه - هو وعائلته، ولقد ساقتنى الظروف أثناء زيارة ل»جامعة أكسفورد البريطانية» منذ سنوات قليلة إلى لقاء مع شقيقها البروفيسور الراحل «فولاذ حديد» وتحدثنا طويلًا عن «الشئون العربية» وتحدث هو عن ذكرياته فى «مصر» ثم تطرق الحديث إلى شقيقته المعمارية العالمية «زها حديد» وكيف أثرت تأثيرًا شديدًا فى الذوق المعمارى وفى الأساس الإنشائى حتى إن اسمها اقترن بعدد من المبانى الرائعة والمنشآت المتميزة فى أنحاء العالم ودخلت التاريخ باعتبارها عبقرية فريدة فى «هندسة العمارة» وشخصية البناء الحديث فهى بالفعل «امرأة من حديد» اسمًا وموضوعًا، ولقد نعتتها «الأوساط الغربية» ومعظم دول العالم باعتبارها نقطة تحول فى ذلك الفن العمرانى الذى يعكس الشخصية الحضارية للإنسان المعاصر.. لقد وقفت «زها حديد» أثناء زيارتها لمصر عام 2009 تتطلع إلى الأهرامات لتستلهم من إبداع المصريين القدماء إلهامًا جديدًا يضيف إلى روح العصر وعبقرية التجديد التى امتلكتها تلك المعمارية الراحلة. اختبارات السلك الدبلوماسي شاركت فى لجنة «الاختبار الشفوي» التى يترأسها نائب وزير الخارجية لاختيار الملحقين الدبلوماسيين الجدد الذين اجتازوا «الامتحان التحريري» من قبل وأصبح تعيينهم فى الوظيفة الدبلوماسية مرتبطًا بمتوسط درجات الامتحانين «الشفوى والتحريري» وبنسب معينة، ولقد لاحظت أن المستوى التعليمى المتراجع فى «مصر» قد أصبح ينعكس عامًا بعد عام على مستوى المتقدمين، ولازلت أذكر أن الأمر كان مختلفًا منذ عقدين أو أكثر فكانت هناك نماذج لبعض المتقدمين تبهرنا بإجادتها الرفيعة ل»اللغات الأجنبية» وفهمها العميق لأصول «القانون الدولي» وشئون التجارة العالمية مع ثقافة واسعة وإلمام كبير بمعارف شتى ومعلومات صحيحة ولكن الأمر اختلف الآن إذ لم يعد المستوى كما كان وأصبحنا نتأكد أن مستوى التعليم فى البلاد هو الذى يتحكم فى ازدهار المهن المختلفة والحرف المتعددة، ويهمنى أن أسجل هنا الدرجة العالية من الموضوعية التى تتسم بها اختبارات وزارة الخارجية فلقد رسب لدينا أبناء زملاء من السفراء وبعض كبار المسئولين ولم تفرق لجنة «الشفوي» بين فتًى وفتاة، أو محجبة أو سافرة، أو مسلم ومسيحى فالكل أبناء الوطن بلا تفرقة أو تمييز، ولقد حرصت اللجنة - بتوصية شديدة من وزير الخارجية «سامح شكري» - على ضرورة التدقيق الشديد فى انتقاء الكفاءات فى الدبلوماسية المصرية حتى لا يحصل على الوظيفة من لا يملك مؤهلاتها الحقيقية لأن الوطن لن ينهض إلا بسواعد أبنائه المجتهدين فى كافة المجالات الإنتاجية والخدمية والسيادية.. تحية للدبلوماسية المصرية، وتهنئة لجيل جديد يطرق أبوابها متسلحًا بالفكر السليم والعلم الواسع والمعرفة الرحبة والخلق الكريم.