كلما أتيحت لى فرصة الحديث مع الرئيس السيسى، كنت ألح عليه بأفكار تعطى للفقراء والبسطاء أسماكا. لم يكن الرئيس يعترض، وانما كان يرد بهدوء: أليس الأجدى لهم أن نوفر لكل منهم سنارة؟! كنت أتكلم عن توزيع أراض على صغار المزارعين والشباب يستصلحونها ويفلحونها بأنفسهم. كان حاضرا فى ذهنى مشروع الإصلاح الزراعى الذى أطلقته ثورة 23 يوليو بعد قيامها بثمانية وأربعين يوما. لم يكن يمانع وكان يقول: ما أسهل هذا. لكنه يضيف: أليس الأفضل لهم وللبلد أن نقيم مجتمعات ريفية صناعية متكاملة، فيحصل المزارع أو الشاب على قطعة أرض فى إطار مشروع مدروس شامل، يجد فيه المسكن والمستشفى والمدرسة والخدمات الأمنية والحكومية والاجتماعية، ويجد أيضا المصنع لمنتجاته الزراعية وشركات تسويقها؟! كنت ألح بمقترحات فيها خوف على المستقبل، وكان يرد برؤية فيها أمل فى المستقبل! عندما حضرت تدشين مشروع المليون ونصف المليون فدان أمس الأول، وشاهدت باكورة المشروع وهى مزرعة العشرة آلاف فدان بمنطقة «سهل بركة» فى الفرافرة الجديدة. قلت لنفسى وأكتب الآن: كان مع الرئيس كل الحق!
يمتلك السيسى جرأة الحلم، ويمتلك جسارة صنع هذا الحُلم. برنامجه الرئاسى كان عنوانه «الحُلم المصرى». حين كنت وزميلى محمد عبدالهادى علام رئيس تحرير الأهرام، نحاوره قبل انتخابات رئاسة الجمهورية. سألته عن برنامجه، فأخرج من حقيبة أوراقه ثلاثة ملفات متخمة، اطلعت عليها بسرعة، كان كل فصل منها خاص بمشروع ضخم فى مختلف المجالات، وفى أوراق كل فصل مراحل التنفيذ، وتوقيتات الانتهاء من كل مرحلة، والجهة المسئولة عنها، والتكلفة التقديرية الشاملة والتفصيلية. منها كان مشروع استصلاح وزراعة أربعة ملايين فدان، وكان مرحلته الأولى على مساحة مليون فدان. كان عنوان هذا الفصل «حُلم الريف المصرى الجديد»! كان المقرر أن يتم إطلاق مشروع المليون فدان منذ شهور، لكن الدراسات الخاصة بالآبار، واستيراد معدات حفرها استغرقت بعض الوقت، فضلا عن أن الرئيس آثر أن يلتقى بمزيد من الخبراء، وأن يجتمع بمستثمرين كبار فى مجال الزراعة، وأن يقابل فلاحين ومزارعين عاديين لتكون الصورة أكثر اكتمالا، وكلف الهيئة الهندسية بإنشاء مزرعة نموذجية على مساحة عشرة آلاف فدان فى الفرافرة، تضم قرى سكنية وخدمية، وفق التصور الذى كان يتمناه، لتكون مثالا على المجتمعات المتكاملة فى «الريف المصرى الجديد». عندما تأخر إطلاق المشروع، قرر السيسى زيادة مساحته من مليون إلى مليون ونصف المليون فدان، وكلف الرجل الهمام اللواء أركان حرب كامل الوزير بإنجازه فى عامين فقط!
مزرعة الفرافرة وحدها، نموذج فى الإنجاز: «سهل بركة» - حيث تقع المزرعة - يبعد 650 كيلو متراً عن القاهرة. المسافة بينه وبين الواحات البحرية 140 كيلو مترا. ويبعد غربا عن مدينة ديروط بمحافظة أسيوط 310 كيلو مترات. فى غضون شهور معدودة، اخضرت 10 آلاف فدان بالشعير والقمح، بعد حفر 40 بئرا ترويها، وتم إنجاز قريتين زراعيتين وأخرى خدمية بنسبة 25٪، بها ألفا بيت ريفى وأسواق تجارية ومنشآت خدمية، بجانب شبكات المياه والصرف، وشبكات الكهرباء بالطاقة الحرارية والطاقة الشمسية. إنجاز هائل لشباب مصرى صلب من رجال القوات المسلحة والشركات الوطنية، واصلوا العمل ليل نهار، فى ظروف قاسية، حتى استطاعوا أن يقدموا شيئاً لبلدهم تفخر به.
منذ شهور، سمعت الرئيس يتحدث فى حفل إفطار بشهر رمضان المبارك، عن حُلم الريف المصرى الجديد، ويقول إنه سيضاهى الريف الأوروبى. وأمس الأول، سمعناه يقول فى الاحتفال بتدشين مشروع المليون ونصف المليون فدان، وهو يشير إلى المنازل الريفية الراقية أمام منصة الحفل؟ أليس من حق الفلاح المصرى أن يحلم ببيت كهذا. بكوب مياه نظيف. بخدمات صرف صحى. بمستشفى ومراكز ثقافية واجتماعية وأسواق مثل هذه؟! الحُلم بدأ يتحقق فى الفرافرة. فى غضون عامين، وربما أقل، ستضاف إلى رقعة مصر الزراعية مساحة تعادل ٢٠٪ من الأرض المزروعة. منذ قيام ثورة يوليو وحتى الآن، زادت مساحة الرقعة الزراعية ٣ ملايين فدان، بمعدل سنوى فى حدود ٥٠ ألف فدان. نصف هذه المساحة التى استصلحناها فى ٦٠ عاماً، سوف نستصلحها فى عامين فقط! الأكثر من ذلك.. يريد السيسى أن يصل بالمساحة إلى ٤ ملايين فدان فى ٤ سنوات.. وسمعناه يطرح على المستثمرين الزراعيين، أن يساهموا فى مشروع المليون ونصف المليون فدان، وفق النموذج الموضوع للمجتمعات الريفية الصناعية المتكاملة، أو يستصلحوا باقى المساحة (٢٫٥ مليون فدان) وفق رؤاهم، شريطة أن يتم ذلك فى أقل من ٤ سنوات. إذن الحُلم يمتد إلى استصلاح أراض جديدة بنسبة ٥٠٪ من إجمالى مساحة الأرض المزروعة فى البلاد خلال مدة ٩٦ شهراً أو أقل!. عريضة هى أحلام السيسى.. يرى على أرض مصر ريفاً أوروبيا فى مشروع الأربعة ملايين فدان يرى «ريفييرا» مصرية فى العلمين، وسنغافورة فى منطقة القناة، ومدناً صناعية متخصصة بمذاق مصرى وأداء تختلط فيه الكفاءة الألمانية بالعزيمة اليابانية. يريد كل هذا فى سنوات معدودة! يحطم نبرات التيئيس والإحباط، بإشعال منارات فى بقاع مختلفة على أرض مصر. قصص نجاح فى قناة السويس التى ازدوجت فى ١٢ شهراً، وفى الفرافرة الجديدة التى قامت على الرمال الصفراء واخضرت فى شهور أربعة، وفى مدينة الجلالة التى سيجدها المصريون وكأنها أنشئت فى غمضة عين، ومن بعد ذلك فى العاصمة الإدارية، وفى العلمين الجديدة، وفى المليون ونصف المليون فدان.. وغيرها. يضىء السيسى هذه المنارات، لتكون دليلاً على أنه لاشىء يستحيل على المصريين، مادامت هناك رؤية ومشروع وطنى، وبرنامج مدروس، وإدارة حاسمة، وإرادة لا تلين.
الترتيب المنطقى للأمور، والمقدمات السليمة التى تفضى حتما إلى النتائج المرجوة، هى نهج السيسى فى التخطيط للمشروع الوطنى المصرى وهو بناء الدولة الحديثة، والتنفيذ بأسلوبه السهل الممتنع. قبل أن يضع حجر الأساس لحفر القناة الجديدة، كانت معدات الحفر على الأرض والكراكات فى المياه. قبل أن يطلق مشروع المليون ونصف المليون فدان، كانت حفارات آبار المياه قد وصلت ، وكانت المزرعة النموذج قد أقيمت. وقبلها كانت الدراسات المستفيضة لموارد المياه من ترع نيلية، أو مخزون جوفى، قد أجريت وحُدِّثت، وكانت الخرائط توضح مستوى جودة الأراضى فى كل منطقة ونوعية الزراعات الصالحة لكل منها، وكذلك عمق الآبار ودرجة ملوحة المياه، وكفايتها، ومدى تجددها. عندما أراد أن ينهض بالصناعة، نظر أولاً إلى المصانع المغلقة والمتعثرة، لإزالة المعوقات أمام دوران آلاتها، ثم نظر إلى المزايا النسبية لمصر فى الصناعات التى تجيدها كالأثاث والسجاد والجلود والرخام وغيرها، وقرر إقامة مدن صناعية متخصصة فى كل مجال منها، وفى المناطق التى تجيدها وتتقنها. وحين كلف الحكومة باتخاذ إجراءات مكافحة الغلاء، لم يضرب للناس موعداً محدداً لخفض أسعار السلع الغذائية، إلا بعدما وفر سيارات تبريد اللحوم والأغذية، ومنافذ البيع الثابتة والمتحركة، وتم استيراد الدواجن والأبقار والسلع الأخرى التى ستباع بأسعار مخفضة.
هذا النهج هو نفسه الذى يتبعه فى تشجيع رجال الصناعة والانتاج وفى جذب الاستثمارات العربية والأجنبية لتوفير أكبر قدر من فرص العمل وتشغيل الشباب. فإذا كنت تريد إقامة مشروعات جديدة، عليك أن تذلل العقبات التشريعية واللائحية التى تعترضها أو تؤخرها أو تقلل من قدرتك على منافسة الآخرين فى جذب الاستثمار. عليك أن توفر الأرض للمشروعات، وتمد لها المرافق، وتطور شبكة الطرق لنقل الخامات إليها والمنتجات منها، وتحدث المطارات والموانئ. عليك أن توفر لها الطاقة الكافية لإدارة آلاتها الآن وفى المستقبل عندما تتوسع فى خطوط إنتاجها. عليك أن ترفع أداء الأجهزة الحكومية حتى لا تكون مصدر إعاقة أو عنصر طرد. أشياء كثيرة من هذا تمت، خاصة فى مجال الطرق والطاقة والتشريعات الخاصة بالاستثمارات، وأشياء تتم فى مجال الموانئ والمطارات، وأشياء أخرى لابد من اقتحامها كأداء الأجهزة الحكومية وبيروقراطيتها المقيتة. ولعلنا سمعنا الرئيس أمس الأول، وهو يتحدث عن أنه لا مكان للبيروقراطية فى مشروع المليون ونصف المليون فدان، وأن العقود ستسلم للمنتفعين مع تسلمهم الأرض.
أتطلع ومعى الملايين، بتفاؤل ونحن نستقبل العام الجديد، ويزداد تفاؤلنا كلما تطلعنا إلى الماضى القريب، وكلما نظرنا إلى آفاق الغد الذى نرنو إليه بإذن الله. وليسمح لى الرئيس السيسى إذا قابلته، أن ألح بمقترحاتى القلقة، لتزرع فى قلبى وقلوبنا أملاً ويصنع حلماً.