ميدان قشتمر هو الميدان الشهير الذي جعله نجيب محفوظ عنواناً للقاهرة 30، ولكنني هنا أذكره علي أنه الميدان الأشهر في القاهرة 40. كنت أرجو أن تكون هذه السطور عن ألمانيا أكبر دول العالم وأكثرها قوة في قرننا العشرين، والتي جعلتها هذه القوة تعاني أكثر ما تعانيه دولة ما من انكسار وإذلال وتقسيم بما لم تعانه أية دولة كبري في عالمنا الحديث! ولكنني أروي هنا بعض ما عشته وما شهدته من ويلات هذه الدولة قبل أن أصل إلي ما أردت أن أذكره عن مأساة هذه الدولة الكبيرة. 6 شارع بين الجناين.. نعم في هذا العنوان 6 شارع بين الجناين أحد الشوارع الكبيرة في ذلك الوقت التي تنفتح علي ميدان فاروق ميدان الجيش بعد قيام الثورة الذي تنفتح عليه الكثير من الشوارع مثل شارع النزهة وشارع السكاكيني وشارع الفجالة وشارع الحسينية الذي يصل إلي ضريح الحسين بن علي في حي الأزهر وأشهر أحياء مصر الإسلامية القديمة، وشارع فاروق شارع الجيش حالياً والذي يصل إلي ميدان العتبة الخضراء والذي كان يسكنه العديد من المشاهير أمثال الكاتب الكبير ابراهيم عبدالقادر المازني وكاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل، وفي بعض نواحيه ولد الموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب، وآخرون. المهم أنني ولدت في 6 شارع بين الجناين قرب قيام الحرب العالمية الثانية 1939 1944، شارع هادئ جميل مليء بالحدائق، يؤدي إلي شارع أحمد سعيد من ناحية، وميدان فاروق من ناحية أخري.. ميدان فاروق يفصل بين هذه المنطقة ومنطقة العباسية الشرقية التي امتدت الآن لتصل إلي مدينة نصر بعد اجتياحها لكل الصحراء التي كانت تتصل منها أو تقودها إلي آخر الناحية الشرقية. لكن من الناحية الأخري كان الشارع شارع فاروق يتقدم بها في اتجاه العتبة الخضراء، لكن عند أول محطة فيها، والتي كان يتوقف عندها الترام رقم8، الواصل إلي العتبة ومنها إلي حي شبرا »ريف مصر».. إلي اليمين من المحطة يقع ميدان قشتمر ومن أشهر علاماته قهوة قشتمر هذه التي كان يجلس إليها أو ربما يزورها يومياً كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، عندما كان يأتيها عبر بعض الحارات الواصلة من شارع الحسينية إلي هذا الفضاء الواسع، أقول هذا نسبة إلي الحي المزدحم الذي ولد فيه نجيب محفوظ وعاش فيه سنوات عمره الأولي.. وقهوة قشتمر كانت تحتل رقم »واحد» في الميدان، بعدها مباشرة أو يلاصقها البيت رقم3 في الميدان، الدور الثالث كانت تسكنه جدتي لأمي، وكل أخوالي قبل زواجهم، أما جدي فهو الحاج محمد أمين الخانجي الحلبي، واضح من اسمه أنه من حلب، عندما كانت حلب هذه مقاطعة تركية اسمها »أنطاكية» وهو واحد من اثنين أدخلا صناعة الكتب في مصر، الثاني هو محمد عيسي البابي الحلبي أيضاً، وكل واحد منهما أنشأ مكتبة في ناحية العتبة. الأول جدي الذي اختار مكاناً له في شارع عبدالعزيز لينشئ مكتبة الخانجي قريباً من قصر عابدين والثاني أنشأ مكتبته التجارية في أول شارع محمد علي في اتجاه دار الكتب المصرية في ذلك الوقت. وكان كلاهما كثير الأسفار إلي سوريا وتركيا، وغيرهما من البلاد، من هنا لم يكن جدي موجوداً طيلة العام، لهذا كان البيت هو بيت نينة.. أو أم أبي. ومن هنا كانت الرحلة المفضلة لأمي، ونحن بعد صغار هي الرحلة اليومية من ميدان فاروق إلي ميدان قشتمر.. المساحة أكبر، والبراح أمام المنزل أكبر، بل ويقودها أيضاً إلي ميدان الظاهر، الظاهر بيبرس، الميدان الكبير الذي يقع وسطه حديقة الظاهر بيبرس ويتوسطها مسجد الظاهر بيبرس الذي شهد الكثير من الأحداث إبان عصر مصر المملوكية، وشهد ما هو أعظم في ظل الحرب العالمية الثانية. فقد كانت قهوة قشتمر مكاناً يلتقي فيه أدباء مصر وكتابها وصحفيوها مع نهاية الحقبة الرابعة من القرن العشرين وبداية الحقبة الخامسة 1940 وما بعدها. 1939 كانت السنة التي تم إعلان قيام الحرب العالمية الثانية عندما قام أدولف هتلر باجتياح بولندا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا وأخيراً فرنسا. وفي سنة 1940 كانت الحرب الحقيقية بين مجموعة دول المحور بقيادة ألمانيا وإيطاليا ومجموعة الدول الأوروبية الأخري، والتي لم تستطع أن توقف هتلر أو جيوشه عند حد معين فقد قامت هذه الجيوش بتخطي الحدود لتذهب إلي الدول التي كانت تحتلها قوات الحلفاء، ومن بينها ليبيا ومصر.. وبدأت دقات الحرب تصل إلي الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وصولاً إلي ليبيا »طبرق» ومصر »العلمين».. هذه المعركة التي استنزفت قوات الجيوش الكبيرة، لكن جيش هتلر كان يتقدم إلي الأمام بعد أن وصل إلي منطقة العلمين في الساحل الشمالي الغربي من مصر، وبعد أن تولي القائد مونتوجمري قيادة الجيش البريطاني ومعه قوات الحلفاء في محاولة لوقف التقدم الهتلري علي أرض مصر. الغارات علي أرض مصر وبدأت الطائرات الألمانية غاراتها علي أرض مصر.. وكان تركيزها علي الاسكندرية أقرب البلاد الكبيرة للساحل الشمالي الغربي، تدكها وتمهد الطريق لوصول القوات الأرضية بقيادة »روميل» القائد الألماني إليها، وبدأت مصر تدرك أن المعركة فوق رأسها وعلي أرضها. كانت الحياة قبل ذلك تمضي هادئة مستقرة.. كل ما فيها يمضي ببطء لكنه كان سلساً، وكان جميلاً.. نذهب إلي المدرسة في الصباح.. وكانت المدرسة في ذلك الوقت هي مدرسة خليل أغا، أو مدرسة تحسين الخطوط الملكية، في الصباح هي واحدة من أهم المدارس الابتدائية، بل هي قصر جميل يقع في شارع فاروق، بعد محطة واحدة أو أقل من ميدان قشتمر، إلي الناحية اليسري، علي ناصيتها اليمني سينما مصر، وعلي ناصيتها اليسري حارة أخري تفصل بينها وبين البيت الذي ولدت فيه نجاة الصغيرة، وشقيقاتها لعم حسني، الخطاط وكان كل من يقترب من المدرسة يعمل خطاطا في مدرسة تحسين الخطوط، هذه المدرسة التي تحتل الدور السفلي من المدرسة، وتبدأ بعد الظهر وعلي امتداد ساعات الليل الأولي.. وعلي ناصية الشارع من الحارة التي يسكن فيها عم حسني، كان محل الموبيليا الذي يملكه عم سليمان، والد المهندس ابراهيم سليمان وزير الإسكان بعد ذلك، وفي مواجهته سينما هوليوود، وبعدها ببيتين اثنين عمارة جديدة أعتقد »164 شارع فاروق» العمارة التي كان يعيش فيها أستاذنا محمد حسنين هيكل مع والده حسنين علي هيكل ووالدته وأخيه فوزي وشقيقاته البنات، وكانت عائلة من الطبقة المتوسطة التي استطاع الوالد فيها أن يعلم أبناءه وبناته تعليماً جامعياً. شارع فاروق الذي أصبح شارع الجيش، هو الشارع الذي يقودك من ميدان فاروق وحتي العتبة الخضراء، عبر باب الشعرية الحي الشعبي الأشهر وكل من ولد فيه وعلي رأسهم الفنان الكبير محمد عبدالوهاب في حي الشعراني، وهناك الفواطية، وهو حي الخياطين وعلي الناحية الأخري مداخل أخري تقودك إلي حي الحسين وحتي يصل إلي العتبة الخضراء بعد أن يمر بحي البرابرة وهو أشهر الأحياء بعمل الملبس، والشيكولاته للحفلات والأفراح. بمعني آخر شارع فاروق من أهم الشوارع التي تخترق القاهرة الحديثة في ذلك الوقت، وانتهاؤه بالعتبة الخضراء كان يعني أنها العتبة الأخيرة قبل الوصول إلي القصر الملكي في عابدين، عبر شارع عبدالعزيز، أما العتبة ذاتها فكانت هي مركز القاهرة مركز كل شيء.. المطافئ، شرطة النجدة، البريد وسوق الخضار وحتي مسرح الأزبكية، وأيضاً الأوبرا المصرية التي أنشئت علي طراز الأوبرا في باريس وفي فيينا.. يعني قلب القاهرة الحديثة النابض، وهي أو العتبة وشارع فاروق هي نقطة الوصل بين القاهرة الإسلامية والمملوكية والطولونية، وبين مصر الحديثة بعد ذلك التي عرفت ب»مصر الجديدة». ميدان قشتمر أما ميدان قشتمر، فكان يتميز بمبانيه الحديثة، الملاصقة لقهوة قشتمر أو في مواجهتها، قليل من المحلات أشهرها ربما محل سيمون »اليهودي» للخردوات وبعض من أكبر عمارات مصر في ذلك الوقت، بعد ذلك شارع يصل بك إلي امتداد شارع الفجالة من ناحية أخري، أو شارع الظاهر الذي يمضي بك أيضاً إلي حي الفجالة، وكلاهما يلتف حول مسجد الظاهر، وحديقة الظاهر.. التي أصبحت نقطة الارتكاز أو بؤرة العذاب في الحرب العالمية الثانية. مدبح الإنجليز الانجليز، كما نعلم يحتلون مصر من أواخر القرن التاسع عشر، وكانوا يعتبرون أن مصر من أملاكهم العظمي، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا بها وبأهلها ما يشاءون.. ومن هنا فقد اختاروا أن تكون حديقة الظاهر »مذبحاً» لهم، أي أنهم كانوا يقومون بإعداد ذبائحهم علي أرض هذه الحديقة، ويقومون بتوزيع هذه الذبائح علي قواتهم التي كانت تتمركز في قلب القاهرة في كل مكان، خاصة عند الجبل الأصفر في صحراء العباسية الشرقية، قريباً جداً من ميدان فاروق عبرشارع العباسية الشرقية، والذي كان به مصنع الطرابيش ومعبد اليهود »السيناجو». كان هذا هو الحال عندما قامت واستمرت الحرب العالمية الأولي والتي انتهت باندحار الألمان. ولكن الألمان لم ينسوا هذا الموقع، مدبح الانجليز، أو حديقة الأزبكية. جاءوا بكل ذكرياتهم مرة أخري عندما وصلوا إلي مصر وبدأت المعارك غرب الاسكندرية، برئاسة روميل من الناحية الألمانية ومونتوجمري من الناحية البريطانية. وفي الوقت الذي كانت الحرب مستعرة بين الطرفين، فكر الألمان وقالوا: لماذا لا نضرب تمركزات البريطانيين في قلب مصر، حتي يصيبهم الضعف والوهن. وفعلاً في الوقت الذي كانوا يضربون فيه الاسكندرية التي تحولت إلي جحيم وتحول أبناؤها إلي لاجئين فارين إلي القاهرة، بدأ ضرب القاهرة أيضاً. وبدأنا نعرف معني كلمة الغارة التي كانت توقظنا في كل ليلة مع صافراتها المزعجة والمثيرة للخوف، فكنا نجري إلي الأدوار السفلي، حتي لا تنهد الأسقف العليا فوق رؤوسنا. ويوماً بعد يوم ازدادت غارات هتلر. ويوماً بعد يوم راحت أمي »رحمها الله» تفكر في أين نذهب وتحدثت إلي والدي، وقررا معاً أن الحل هو أن نبيت هناك في ميدان قشتمر في بيت جدتي، لأنه أقوي وأحدث، وسنكون هناك في أمان أكثر، وعموماً إذا متنا فسوف نموت جميعاً معاً وهذا أفضل كثيراً أو هكذا كانت تفكر الأمهات في ذلك الوقت. يوم القيامة! وبالفعل كانت أمي تسحبنا في بداية الليل من كل يوم لنذهب جميعاً إلي بيت جدتي، الدور الثالث من رقم 3 ميدان قشتمر، حيث ننام. حتي جاءت تلك الليلة اللعينة التي تحدثنا عنها جميعاً ومازلت أذكر أنها »يوم القيامة» أو أشبه بيوم القيامة. لم يكن هناك أمان أن ننام في الحجرات. أيقظتنا أمي وجدتي وكذلك أيقظنا خالي زكي »أصغر أخوالي» وخالتي آمال وكانت في مثل عمرنا، حتي نقوم ونتخذ لنا مكاناً علي أرض الصالة، ممنوع علينا أن نقعد علي الأرائك أو الفوتيهات، يجب أن تكون رؤوسنا جميعاً في مكان منخفض.. حتي إذا طارت شظية عبر أحد الشبابيك فلا يجب أن تكون في مستوي رؤوسنا. وبدأت الغارة.. نسمع صوت الطائرات »زبلن» الألمانية فوق رؤوسنا.. تلقي بعض القنابل الخفيفة.. ثم، ماذا يحدث يا رب وتزداد القنابل ويزداد إزعاجها.. حتي بدأت تلقي بما كان أبي يعرفه في ذلك بالطوربيد. الطوربيد الأول سقط علي قهوة قشتمر، قريباً جداً من السور الذي يجمع بين البيت الذي نحن فيه وبين القهوة.. انفجار لا قبل لإنسان به.. وفي أقل من نصف ساعة جاء الطوربيد الثاني لكن في وسط الميدان، هذه المرة، بالضبط بين البيت الذي نحن فيه وبين حديقة الأزبكية.. فهمنا أنه صنع حفرة كبيرة جداً.. عرفنا هذا بعد أن كانت سيارة الإسعاف بصوتها المعروف تتجه إلي المكان، ثم اختفي الصوت، نعم وقعت في الحفرة الكبيرة، وتبعتها سيارات المطافئ لتلقي نفس المصير في أقل من عشر دقائق. قلوبنا تدق بشدة، الخوف يطبق علي أفواهنا لا نتكلم.. ليس لكل هذا فقط، ولكن لأننا أحسسنا مع انفجار الطوربيد الثاني طارت شظية ضخمة منه، تطير إلي أعلي، تخترق نافذة شباك خالي زكي، وتتجه إلي الصالة، تطير فوق رؤوسنا لتستقر في حائط الصالة المجاور لباب الخروج. كنا نخاف، لكننا لم ندرك ما الذي كان يحدث بالضبط.. وعندما انتهت الغارة، وفتحنا الأنوار فوجئنا بما لم نتصوره أبداً، أبي الذي كان جالساً هو وحده علي المقعد، وكان في التاسعة والثلاثين من العمر، بشعره الأسود الداكن، انقلب إلي الشعر الأبيض الأشيب، نعم كان الخوف علي أبنائه جميعاً يهز صدره وقلبه.. وكانت جملة واحدة يرددها.. لم يعد لنا مكان هنا، سوف نتجه إلي الريف هذه الليلة. الرحلة الكبري.. بل هي أطول رحلة مشيتها في حياتي ولم أبلغ بعد التاسعة من العمر. فبعد انتهاء الغارة التاريخية علي ميدان قشتمر، فقد أمرنا الوالد بالاستعداد للنزول، وفعلاً نزلنا إلي ساحة الميدان، ورأينا ما لم نره في حياتنا القصيرة، في ذلك الوقت، الحفرة الضخمة جداً التي صنعها الطوربيد وسط الميدان، وبقايا السيارتين الواقعتين فيها، سيارة الإسعاف وسيارة الإطفاء، والناس قد التفوا حول الحفرة الكبيرة يريدون أن يعرفوا ما حدث علي وجه التحديد، وآثار الحفرة الكبيرة التي حدثت في جانب البيت من ورائنا، آثار الطوربيد الأول الذي حطم جزءاً كبيراً من قهوة قشتمر، الجانب الأيمن من البيت الذي كنا فيه.. المهم.. جاءت سيارة تاكسي تقف وتري، فاتجه والدي إلي السائق يسأله: نريد أن نذهب إلي دوران شبرا، كم تأخذ؟ قال له السائق: دلوقتي؟.. قال أبي نعم، قال آخذ أربعة عشر جنيهاً. رد عليه أبي قائلاً: يا أخي ده أنا كل مرتبي اثني عشر جنيهاً.. مشي التاكسي دون أن يجيب ولم تمض دقائق حتي وقفت إلي جوارنا عربة حنطور.. وسأله أبي نفس السؤال: أجاب: اتناشر جنيه ونصف.. طبعاً لم يجب أبي إلا بكلمة: اتوكل علي الله.. ونظر أبي إلينا جميعاً وقال: ليس لنا إلا أن نمشي. وبالفعل.. اتجهنا إلي ما وراء حديقة الظاهر، ومنها إلي شارع رمسيس عبر »تمن الظاهر» وكان قسم البوليس في ذلك الوقت يسمي »التمن» علي أن القاهرة ثمانية أتمان، لكل جزء »تُمن» بضم التاء يعني قسم، المهم نزلنا إلي نفق غمرة ومنها عبر الشرابية إلي بدايات شبرا ودخلنا شارع شبرا فعلاً لنمشيه بطوله في ذلك الوقت وحتي الدوران.. ثم اتجهنا إلي بيت عمتي عائشة التي كانت في نهاية الدوران، قريباً جداً من أسواق روض الفرج، هناك كان »الريف» أي أنه بعيد عن القاهرة هناك الأمن والأمان، فلا أحد من القوات المتحاربة يقترب من هذا المكان لأنه بعيد عن صراع القوات علي أرض مصر، أو الأرض التي يحتلها الانجليز وجيش الانجليز. لا أريد أن أقول: كم ساعة أخذناها لنصل إلي هناك.. ولكن بالتأكيد في عز الظهر.. وصلنا مجهدين، خاوي البطون تماماً، وعندما رأتنا عمتي، ذهلت وقالت: انتو جايين منين؟.. أجاب أبي بأنه لا مكان لنا إلا عندك، فقد ضافت بي الدنيا، واهتزت بنا الأرض هناك حتي لجأنا إليك لعل الدنيا تهدأ بعد أسابيع قليلة، هنا هو المكان الذي آمن علي الأولاد فيه. وبالفعل.. كان اللجوء إلي ريف القاهرة، أو دوران شبرا البعيد عن الأحداث، بعيد عن طائرات هتلر وغاراته وتلك الأيام التي لا نستطيع أن ننساها، والأيام التي بدأنا فيها هنا نعرف طعم النوم علي أرض مصر ولو كان هذا في أطراف القاهرة! ميدان قشتمر هو الميدان الشهير الذي جعله نجيب محفوظ عنواناً للقاهرة 30، ولكنني هنا أذكره علي أنه الميدان الأشهر في القاهرة 40. كنت أرجو أن تكون هذه السطور عن ألمانيا أكبر دول العالم وأكثرها قوة في قرننا العشرين، والتي جعلتها هذه القوة تعاني أكثر ما تعانيه دولة ما من انكسار وإذلال وتقسيم بما لم تعانه أية دولة كبري في عالمنا الحديث! ولكنني أروي هنا بعض ما عشته وما شهدته من ويلات هذه الدولة قبل أن أصل إلي ما أردت أن أذكره عن مأساة هذه الدولة الكبيرة. 6 شارع بين الجناين.. نعم في هذا العنوان 6 شارع بين الجناين أحد الشوارع الكبيرة في ذلك الوقت التي تنفتح علي ميدان فاروق ميدان الجيش بعد قيام الثورة الذي تنفتح عليه الكثير من الشوارع مثل شارع النزهة وشارع السكاكيني وشارع الفجالة وشارع الحسينية الذي يصل إلي ضريح الحسين بن علي في حي الأزهر وأشهر أحياء مصر الإسلامية القديمة، وشارع فاروق شارع الجيش حالياً والذي يصل إلي ميدان العتبة الخضراء والذي كان يسكنه العديد من المشاهير أمثال الكاتب الكبير ابراهيم عبدالقادر المازني وكاتبنا الكبير محمد حسنين هيكل، وفي بعض نواحيه ولد الموسيقار العظيم محمد عبدالوهاب، وآخرون. المهم أنني ولدت في 6 شارع بين الجناين قرب قيام الحرب العالمية الثانية 1939 1944، شارع هادئ جميل مليء بالحدائق، يؤدي إلي شارع أحمد سعيد من ناحية، وميدان فاروق من ناحية أخري.. ميدان فاروق يفصل بين هذه المنطقة ومنطقة العباسية الشرقية التي امتدت الآن لتصل إلي مدينة نصر بعد اجتياحها لكل الصحراء التي كانت تتصل منها أو تقودها إلي آخر الناحية الشرقية. لكن من الناحية الأخري كان الشارع شارع فاروق يتقدم بها في اتجاه العتبة الخضراء، لكن عند أول محطة فيها، والتي كان يتوقف عندها الترام رقم8، الواصل إلي العتبة ومنها إلي حي شبرا »ريف مصر».. إلي اليمين من المحطة يقع ميدان قشتمر ومن أشهر علاماته قهوة قشتمر هذه التي كان يجلس إليها أو ربما يزورها يومياً كاتبنا الكبير نجيب محفوظ، عندما كان يأتيها عبر بعض الحارات الواصلة من شارع الحسينية إلي هذا الفضاء الواسع، أقول هذا نسبة إلي الحي المزدحم الذي ولد فيه نجيب محفوظ وعاش فيه سنوات عمره الأولي.. وقهوة قشتمر كانت تحتل رقم »واحد» في الميدان، بعدها مباشرة أو يلاصقها البيت رقم3 في الميدان، الدور الثالث كانت تسكنه جدتي لأمي، وكل أخوالي قبل زواجهم، أما جدي فهو الحاج محمد أمين الخانجي الحلبي، واضح من اسمه أنه من حلب، عندما كانت حلب هذه مقاطعة تركية اسمها »أنطاكية» وهو واحد من اثنين أدخلا صناعة الكتب في مصر، الثاني هو محمد عيسي البابي الحلبي أيضاً، وكل واحد منهما أنشأ مكتبة في ناحية العتبة. الأول جدي الذي اختار مكاناً له في شارع عبدالعزيز لينشئ مكتبة الخانجي قريباً من قصر عابدين والثاني أنشأ مكتبته التجارية في أول شارع محمد علي في اتجاه دار الكتب المصرية في ذلك الوقت. وكان كلاهما كثير الأسفار إلي سوريا وتركيا، وغيرهما من البلاد، من هنا لم يكن جدي موجوداً طيلة العام، لهذا كان البيت هو بيت نينة.. أو أم أبي. ومن هنا كانت الرحلة المفضلة لأمي، ونحن بعد صغار هي الرحلة اليومية من ميدان فاروق إلي ميدان قشتمر.. المساحة أكبر، والبراح أمام المنزل أكبر، بل ويقودها أيضاً إلي ميدان الظاهر، الظاهر بيبرس، الميدان الكبير الذي يقع وسطه حديقة الظاهر بيبرس ويتوسطها مسجد الظاهر بيبرس الذي شهد الكثير من الأحداث إبان عصر مصر المملوكية، وشهد ما هو أعظم في ظل الحرب العالمية الثانية. فقد كانت قهوة قشتمر مكاناً يلتقي فيه أدباء مصر وكتابها وصحفيوها مع نهاية الحقبة الرابعة من القرن العشرين وبداية الحقبة الخامسة 1940 وما بعدها. 1939 كانت السنة التي تم إعلان قيام الحرب العالمية الثانية عندما قام أدولف هتلر باجتياح بولندا والنمسا وتشيكوسلوفاكيا وأخيراً فرنسا. وفي سنة 1940 كانت الحرب الحقيقية بين مجموعة دول المحور بقيادة ألمانيا وإيطاليا ومجموعة الدول الأوروبية الأخري، والتي لم تستطع أن توقف هتلر أو جيوشه عند حد معين فقد قامت هذه الجيوش بتخطي الحدود لتذهب إلي الدول التي كانت تحتلها قوات الحلفاء، ومن بينها ليبيا ومصر.. وبدأت دقات الحرب تصل إلي الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط وصولاً إلي ليبيا »طبرق» ومصر »العلمين».. هذه المعركة التي استنزفت قوات الجيوش الكبيرة، لكن جيش هتلر كان يتقدم إلي الأمام بعد أن وصل إلي منطقة العلمين في الساحل الشمالي الغربي من مصر، وبعد أن تولي القائد مونتوجمري قيادة الجيش البريطاني ومعه قوات الحلفاء في محاولة لوقف التقدم الهتلري علي أرض مصر. الغارات علي أرض مصر وبدأت الطائرات الألمانية غاراتها علي أرض مصر.. وكان تركيزها علي الاسكندرية أقرب البلاد الكبيرة للساحل الشمالي الغربي، تدكها وتمهد الطريق لوصول القوات الأرضية بقيادة »روميل» القائد الألماني إليها، وبدأت مصر تدرك أن المعركة فوق رأسها وعلي أرضها. كانت الحياة قبل ذلك تمضي هادئة مستقرة.. كل ما فيها يمضي ببطء لكنه كان سلساً، وكان جميلاً.. نذهب إلي المدرسة في الصباح.. وكانت المدرسة في ذلك الوقت هي مدرسة خليل أغا، أو مدرسة تحسين الخطوط الملكية، في الصباح هي واحدة من أهم المدارس الابتدائية، بل هي قصر جميل يقع في شارع فاروق، بعد محطة واحدة أو أقل من ميدان قشتمر، إلي الناحية اليسري، علي ناصيتها اليمني سينما مصر، وعلي ناصيتها اليسري حارة أخري تفصل بينها وبين البيت الذي ولدت فيه نجاة الصغيرة، وشقيقاتها لعم حسني، الخطاط وكان كل من يقترب من المدرسة يعمل خطاطا في مدرسة تحسين الخطوط، هذه المدرسة التي تحتل الدور السفلي من المدرسة، وتبدأ بعد الظهر وعلي امتداد ساعات الليل الأولي.. وعلي ناصية الشارع من الحارة التي يسكن فيها عم حسني، كان محل الموبيليا الذي يملكه عم سليمان، والد المهندس ابراهيم سليمان وزير الإسكان بعد ذلك، وفي مواجهته سينما هوليوود، وبعدها ببيتين اثنين عمارة جديدة أعتقد »164 شارع فاروق» العمارة التي كان يعيش فيها أستاذنا محمد حسنين هيكل مع والده حسنين علي هيكل ووالدته وأخيه فوزي وشقيقاته البنات، وكانت عائلة من الطبقة المتوسطة التي استطاع الوالد فيها أن يعلم أبناءه وبناته تعليماً جامعياً. شارع فاروق الذي أصبح شارع الجيش، هو الشارع الذي يقودك من ميدان فاروق وحتي العتبة الخضراء، عبر باب الشعرية الحي الشعبي الأشهر وكل من ولد فيه وعلي رأسهم الفنان الكبير محمد عبدالوهاب في حي الشعراني، وهناك الفواطية، وهو حي الخياطين وعلي الناحية الأخري مداخل أخري تقودك إلي حي الحسين وحتي يصل إلي العتبة الخضراء بعد أن يمر بحي البرابرة وهو أشهر الأحياء بعمل الملبس، والشيكولاته للحفلات والأفراح. بمعني آخر شارع فاروق من أهم الشوارع التي تخترق القاهرة الحديثة في ذلك الوقت، وانتهاؤه بالعتبة الخضراء كان يعني أنها العتبة الأخيرة قبل الوصول إلي القصر الملكي في عابدين، عبر شارع عبدالعزيز، أما العتبة ذاتها فكانت هي مركز القاهرة مركز كل شيء.. المطافئ، شرطة النجدة، البريد وسوق الخضار وحتي مسرح الأزبكية، وأيضاً الأوبرا المصرية التي أنشئت علي طراز الأوبرا في باريس وفي فيينا.. يعني قلب القاهرة الحديثة النابض، وهي أو العتبة وشارع فاروق هي نقطة الوصل بين القاهرة الإسلامية والمملوكية والطولونية، وبين مصر الحديثة بعد ذلك التي عرفت ب»مصر الجديدة». ميدان قشتمر أما ميدان قشتمر، فكان يتميز بمبانيه الحديثة، الملاصقة لقهوة قشتمر أو في مواجهتها، قليل من المحلات أشهرها ربما محل سيمون »اليهودي» للخردوات وبعض من أكبر عمارات مصر في ذلك الوقت، بعد ذلك شارع يصل بك إلي امتداد شارع الفجالة من ناحية أخري، أو شارع الظاهر الذي يمضي بك أيضاً إلي حي الفجالة، وكلاهما يلتف حول مسجد الظاهر، وحديقة الظاهر.. التي أصبحت نقطة الارتكاز أو بؤرة العذاب في الحرب العالمية الثانية. مدبح الإنجليز الانجليز، كما نعلم يحتلون مصر من أواخر القرن التاسع عشر، وكانوا يعتبرون أن مصر من أملاكهم العظمي، وأنهم يستطيعون أن يفعلوا بها وبأهلها ما يشاءون.. ومن هنا فقد اختاروا أن تكون حديقة الظاهر »مذبحاً» لهم، أي أنهم كانوا يقومون بإعداد ذبائحهم علي أرض هذه الحديقة، ويقومون بتوزيع هذه الذبائح علي قواتهم التي كانت تتمركز في قلب القاهرة في كل مكان، خاصة عند الجبل الأصفر في صحراء العباسية الشرقية، قريباً جداً من ميدان فاروق عبرشارع العباسية الشرقية، والذي كان به مصنع الطرابيش ومعبد اليهود »السيناجو». كان هذا هو الحال عندما قامت واستمرت الحرب العالمية الأولي والتي انتهت باندحار الألمان. ولكن الألمان لم ينسوا هذا الموقع، مدبح الانجليز، أو حديقة الأزبكية. جاءوا بكل ذكرياتهم مرة أخري عندما وصلوا إلي مصر وبدأت المعارك غرب الاسكندرية، برئاسة روميل من الناحية الألمانية ومونتوجمري من الناحية البريطانية. وفي الوقت الذي كانت الحرب مستعرة بين الطرفين، فكر الألمان وقالوا: لماذا لا نضرب تمركزات البريطانيين في قلب مصر، حتي يصيبهم الضعف والوهن. وفعلاً في الوقت الذي كانوا يضربون فيه الاسكندرية التي تحولت إلي جحيم وتحول أبناؤها إلي لاجئين فارين إلي القاهرة، بدأ ضرب القاهرة أيضاً. وبدأنا نعرف معني كلمة الغارة التي كانت توقظنا في كل ليلة مع صافراتها المزعجة والمثيرة للخوف، فكنا نجري إلي الأدوار السفلي، حتي لا تنهد الأسقف العليا فوق رؤوسنا. ويوماً بعد يوم ازدادت غارات هتلر. ويوماً بعد يوم راحت أمي »رحمها الله» تفكر في أين نذهب وتحدثت إلي والدي، وقررا معاً أن الحل هو أن نبيت هناك في ميدان قشتمر في بيت جدتي، لأنه أقوي وأحدث، وسنكون هناك في أمان أكثر، وعموماً إذا متنا فسوف نموت جميعاً معاً وهذا أفضل كثيراً أو هكذا كانت تفكر الأمهات في ذلك الوقت. يوم القيامة! وبالفعل كانت أمي تسحبنا في بداية الليل من كل يوم لنذهب جميعاً إلي بيت جدتي، الدور الثالث من رقم 3 ميدان قشتمر، حيث ننام. حتي جاءت تلك الليلة اللعينة التي تحدثنا عنها جميعاً ومازلت أذكر أنها »يوم القيامة» أو أشبه بيوم القيامة. لم يكن هناك أمان أن ننام في الحجرات. أيقظتنا أمي وجدتي وكذلك أيقظنا خالي زكي »أصغر أخوالي» وخالتي آمال وكانت في مثل عمرنا، حتي نقوم ونتخذ لنا مكاناً علي أرض الصالة، ممنوع علينا أن نقعد علي الأرائك أو الفوتيهات، يجب أن تكون رؤوسنا جميعاً في مكان منخفض.. حتي إذا طارت شظية عبر أحد الشبابيك فلا يجب أن تكون في مستوي رؤوسنا. وبدأت الغارة.. نسمع صوت الطائرات »زبلن» الألمانية فوق رؤوسنا.. تلقي بعض القنابل الخفيفة.. ثم، ماذا يحدث يا رب وتزداد القنابل ويزداد إزعاجها.. حتي بدأت تلقي بما كان أبي يعرفه في ذلك بالطوربيد. الطوربيد الأول سقط علي قهوة قشتمر، قريباً جداً من السور الذي يجمع بين البيت الذي نحن فيه وبين القهوة.. انفجار لا قبل لإنسان به.. وفي أقل من نصف ساعة جاء الطوربيد الثاني لكن في وسط الميدان، هذه المرة، بالضبط بين البيت الذي نحن فيه وبين حديقة الأزبكية.. فهمنا أنه صنع حفرة كبيرة جداً.. عرفنا هذا بعد أن كانت سيارة الإسعاف بصوتها المعروف تتجه إلي المكان، ثم اختفي الصوت، نعم وقعت في الحفرة الكبيرة، وتبعتها سيارات المطافئ لتلقي نفس المصير في أقل من عشر دقائق. قلوبنا تدق بشدة، الخوف يطبق علي أفواهنا لا نتكلم.. ليس لكل هذا فقط، ولكن لأننا أحسسنا مع انفجار الطوربيد الثاني طارت شظية ضخمة منه، تطير إلي أعلي، تخترق نافذة شباك خالي زكي، وتتجه إلي الصالة، تطير فوق رؤوسنا لتستقر في حائط الصالة المجاور لباب الخروج. كنا نخاف، لكننا لم ندرك ما الذي كان يحدث بالضبط.. وعندما انتهت الغارة، وفتحنا الأنوار فوجئنا بما لم نتصوره أبداً، أبي الذي كان جالساً هو وحده علي المقعد، وكان في التاسعة والثلاثين من العمر، بشعره الأسود الداكن، انقلب إلي الشعر الأبيض الأشيب، نعم كان الخوف علي أبنائه جميعاً يهز صدره وقلبه.. وكانت جملة واحدة يرددها.. لم يعد لنا مكان هنا، سوف نتجه إلي الريف هذه الليلة. الرحلة الكبري.. بل هي أطول رحلة مشيتها في حياتي ولم أبلغ بعد التاسعة من العمر. فبعد انتهاء الغارة التاريخية علي ميدان قشتمر، فقد أمرنا الوالد بالاستعداد للنزول، وفعلاً نزلنا إلي ساحة الميدان، ورأينا ما لم نره في حياتنا القصيرة، في ذلك الوقت، الحفرة الضخمة جداً التي صنعها الطوربيد وسط الميدان، وبقايا السيارتين الواقعتين فيها، سيارة الإسعاف وسيارة الإطفاء، والناس قد التفوا حول الحفرة الكبيرة يريدون أن يعرفوا ما حدث علي وجه التحديد، وآثار الحفرة الكبيرة التي حدثت في جانب البيت من ورائنا، آثار الطوربيد الأول الذي حطم جزءاً كبيراً من قهوة قشتمر، الجانب الأيمن من البيت الذي كنا فيه.. المهم.. جاءت سيارة تاكسي تقف وتري، فاتجه والدي إلي السائق يسأله: نريد أن نذهب إلي دوران شبرا، كم تأخذ؟ قال له السائق: دلوقتي؟.. قال أبي نعم، قال آخذ أربعة عشر جنيهاً. رد عليه أبي قائلاً: يا أخي ده أنا كل مرتبي اثني عشر جنيهاً.. مشي التاكسي دون أن يجيب ولم تمض دقائق حتي وقفت إلي جوارنا عربة حنطور.. وسأله أبي نفس السؤال: أجاب: اتناشر جنيه ونصف.. طبعاً لم يجب أبي إلا بكلمة: اتوكل علي الله.. ونظر أبي إلينا جميعاً وقال: ليس لنا إلا أن نمشي. وبالفعل.. اتجهنا إلي ما وراء حديقة الظاهر، ومنها إلي شارع رمسيس عبر »تمن الظاهر» وكان قسم البوليس في ذلك الوقت يسمي »التمن» علي أن القاهرة ثمانية أتمان، لكل جزء »تُمن» بضم التاء يعني قسم، المهم نزلنا إلي نفق غمرة ومنها عبر الشرابية إلي بدايات شبرا ودخلنا شارع شبرا فعلاً لنمشيه بطوله في ذلك الوقت وحتي الدوران.. ثم اتجهنا إلي بيت عمتي عائشة التي كانت في نهاية الدوران، قريباً جداً من أسواق روض الفرج، هناك كان »الريف» أي أنه بعيد عن القاهرة هناك الأمن والأمان، فلا أحد من القوات المتحاربة يقترب من هذا المكان لأنه بعيد عن صراع القوات علي أرض مصر، أو الأرض التي يحتلها الانجليز وجيش الانجليز. لا أريد أن أقول: كم ساعة أخذناها لنصل إلي هناك.. ولكن بالتأكيد في عز الظهر.. وصلنا مجهدين، خاوي البطون تماماً، وعندما رأتنا عمتي، ذهلت وقالت: انتو جايين منين؟.. أجاب أبي بأنه لا مكان لنا إلا عندك، فقد ضافت بي الدنيا، واهتزت بنا الأرض هناك حتي لجأنا إليك لعل الدنيا تهدأ بعد أسابيع قليلة، هنا هو المكان الذي آمن علي الأولاد فيه. وبالفعل.. كان اللجوء إلي ريف القاهرة، أو دوران شبرا البعيد عن الأحداث، بعيد عن طائرات هتلر وغاراته وتلك الأيام التي لا نستطيع أن ننساها، والأيام التي بدأنا فيها هنا نعرف طعم النوم علي أرض مصر ولو كان هذا في أطراف القاهرة!