نعم هذه هي كوبنهاجن البوابة إلي الشمال الاسكندنافي، وهي بوابة كل الطرق إلي السويد، والنرويجوفنلندا أيضاً لم تكن هذه هي المرة الأولي التي أعبر بها الخط الفاصل بين شمال الدنيا إلي جنوبها.. »الاكويتور» أو »خط الاستواء».. لأن المرة الأولي منذ سنوات قبل ذلك وأنا في طريقي من جنوب شرق آسيا.. أتصور من ماليزيا إلي إندونيسيا.. وقتها عندما أعلن قائد الطائرة الهولندية أننا: الآن نعبر خط الاستواء.. ونظرت من شرفة الطائرة وكأنني سأري شيئاً غريباً لكنني رأيت أن السماء هي السماء والأرض تحتنا والبحار هي الأرض والبحار لا شيء غريب علي الإطلاق إنما هي الجغرافيا وعندها كما رسمت خرائط الدنيا خط »الصفر» بين الشمال والجنوب، وعندها ينقلب الشتاء إلي الصيف، أو ينقلب الصيف إلي شتاء.. هذا هو الواقع الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يلمسه، لكن غير هذا لا شيء علي الإطلاق، الأرض هي الأرض والسماء هي السماء، والجو هو الجو، ربمابد هناك وحر ها هنا أو العكس.. والناس هم الناس يعيش الناس في الجنوب كما يعيش الناس في الشمال، ربما هم أكثر حركة بحكم الجو، أكثر اعتدالاً، لكن هذا كله لا يؤثر في حركة التقدم أو التأخر، بالعكس، ربما كان الناس في الشمال أكثر تقدماً لأن البرد يدفعهم إلي حركة أكثر، فيعملون أكثر ويتقدمون أكثر ويحققون أكثر، لكن هذا ليس الذي رأيته علي أرض البرازيل.. التي رأيت وتابعت فيها العجب!.. ولكن دعوني أبدأ من البداية لهذه الرحلة! كوبنهاجن نقطة الانطلاق! ولأنني كنت علي الطائرة الاسكندنافية فقد كانت كوبنهاجن هي نقطة الانطلاق.. وصلناها ليلاً لنبيت في واحد من أشهر فنادقها في قلب المدينة وهو في نفس الوقت يحمل نفس علامات الطائرة الاسكندنافية. نمنا وصحونا.. لنجد أننا في بوابة اسكاندنافيا نعم هذه هي كوبنهاجن البوابة إلي الشمال الاسكندنافي، وهي بوابة كل الطرق إلي السويد، والنرويجوفنلندا أيضاً، ربما ولو أن فنلندا تتبع قليلاً حلف الشمال الغربي للاتحاد السوفيتي سابقاً، الروسي حالياً، وهي فعلا تحمل معالم القطب الشمالي من ناحية ليل الشتاء الطويل، ولو أن النرويج يصل إلي ما هو أبعد عنها شمالاً، وأكثر الدول الاسكندنافية جميعاً ولوجاً في القطب الشمالي. الصباح هنا في قلب كوبنهاجن يختلف، هنا وسط المدينة، الشارع يمتلئ حركة ونشاطاً، والمحلات التي تحيط بجوانب هذا الفندق الكبير تدلك علي ما يمكن أن تراه أو تشتريه من هذه العاصمة الذائعة الصيت!.. لكن رائحة قهوة الصباح تجذبك أكثر، واقتراب موعد الطائرة يدعوك لأن تسرع في كل ما تقوم به حتي لا يفوتك موعد إقلاعها! الإفطار ينتهي ويأتي صوت إميل عزت، ياللا كل واحد يجيب شنطته بسرعة وينزل فاضل نصف ساعة علي موعد الطائرة. وبالفعل كنا نسرع حتي لا يفوتنا موعد الطائرة، علي الرحلة معنا عدد من الأصدقاء خاصة الذين جاءوا إلي بيتي منذ سنوات قليلة لنرسم معاً خطة تأسيس أول مجموعة متخصصة في الكتابة السياحية التي دعا إليها صديقنا الراحل الكريم عادل عبد ربه دسوقي وقتها كان مديراً كبيراً في »مصر للسياحة».. وهو الآن مستشار سياحي لمصر، وفوميل لبيب، وأمير فهيم المذيع السياحي الشهير وجلال دويدار وآخرون. المهم.. انه عندما التقت حقائبنا وضعناها في قلب درهة الفندق، وقال إميل عزت: خلاص كده، اعتبروها ركبت الطائرة.. وكانت هذه أول مرة نسلم فيها حقائبنا لإدارة الفندق لوضعها في الطائرة لكي تريحنا من عناء الذهاب بها إلي المطار ووزنها، ووضعها علي »السير» الواصل لداخل الطائرة. وأبعد من هذا، كان تسلمنا »البوردنج باس» أو تذكرة الركوب علي الطائرة ومعها رقم القيد لكل واحد منا.. نوعاً من التقدم الذي شهدناه لأول مرة. وعندما حدث هذا، رحت أفكر برأسي وأنظر إلي السماء البعيدة كيف نطير إليها، ونطير في رحابها لتحملنا السماء الأمريكية أولاً، ثم إلي جنوب الدنيا، نعم الأرض الضاربة في الجنوب، إلي البرازيل التي تحتل قلب واجهة الجنوب الأمريكي، بعيداً بعيداً عن كل ما نعرفه، بل إنها بعيدة جداً عن أمريكا وسواحل أمريكا لنعبر كل شرق الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي النقطة الفاصلة بينها وبين أمريكا اللاتينية أمريكاالجنوبية ونخترق بلدانا أو شواطئ كثيرة لنصل إلي قلب الجنوب، إلي قلب البرازيل، وبوابتها أن يطلقون عليها »ريو دي جانيرو». »ريو دي جانيرو» نعم.. أربع عشرة ساعة كاملة كان وقت الطيران من أقصي الشمال »كوبنهاجن» إلي قلب الجنوب شاطئ البرازيل من مشكلاتي الحقيقية أنني باختصار لا أنام وأنا في قلب الطائرة، الطائرة في سماء الله سبحانه وتعالي.. نعم أسلم نفسي لله وحده، أسلم جسدي وروحي لكنني لا أنام.. أدور في الطائرة بحثاً عن صديق يقظ أتحدث إليه عما نحن فيه.. لم أجد، حتي جلال دويدار الذي كان يقظاً راح يتظاهر بالنوم حتي لا أسبب له إزعاجاً أكثر وهذا ما كتبه في مقالاته عن تلك الرحلة! وأخيراً وصلنا بسلامة الله.. وصلنا ليلاً.. ورغم أننا وصلنا إلي الفندق الكبير علي شاطئ البرازيل وعلي شاطئ أكبر مدينة فيها وهي مدينة تاريخية تحمل من التاريخ ما لا تحمله عاصمة البرازيل. بعد أن سلمنا حقائبنا لتذهب إلي غرفنا.. وتسلمنا مفاتيح تلك الغرف، إلا أنني خرجت من باب الفندق، إلي أرض الشارع.. أمشي عليه، وأنا أدق بقدميّ هاتين وكأنني أريد أن أتحقق أنني فعلاً علي أرض الجنوب الأمريكي، كما فعلت عندما ذهبت لأول مرة إلي جاكارتا في الجنوب الآسيوي، وفي النصف السفلي من الكرة الأرضية هنا لأتحقق أنني هناك، ولكني هذه المرة كنت أقول لنفسي »يالهذه المسافة، كم هي عدد آلاف الكيلومترات التي تفصل بين ريو دي جانيرو في جنوبأمريكاوجاكارتا في الجنوب الآسيوي، وما الذي هو كائن بين هنا وهناك من بلاد وأناس، وبحار، ومحيطات وكائنات حية تسبح في هذا الكون الكبير الكبير». وبدأ النوم يغلبني، فقلت أصعد إلي غرفتي أفضل حتي لا أنام علي أرض الطريق! وغلبني النوم، حتي علي فراش ليس هو فراشي، وعلي أرض ليست هي أرضي، ولكنني نمت. وأتصور أنني نمت أقل من المدة المعتادة.. واستيقظت وأنا في منتصف الليل المعتاد، ولكنه كان الصباح الباكر فقد جريت إلي النافذة لأفتحها، فوجدت النهار ليس متقدماً ولكنه الفجر. وضعت ملابسي لأنزل، لا يهم فالاستيقاظ في الفجر هي عادتي، ولو أنه لم يكن فجر الصباح في مصر.. لا يهم إنه الصباح علي كل حال. لم تكن الغرفة التي أقيم بها في دور مرتفع، فاتجهت إلي السلم، ونظرت فإذا هم يعدون طعام الإفطار، لا بأس أنزل إلي الشارع قليلاً.. بالفعل وجدت أنني في الشارع، والشكل مختلف.. الصباح يظهر كل شيء، رصيف الفندق، ثم الشارع العريض، ثم رصيف آخر.. يحده سور منخفض، ثم شاطئ البحر.. ولكن ما كل هذه الأصوات القادمة من هناك، هل توجد »خناقة» أو معركة، لكن الأصوات، ترتفع، بعضها يصرخ، وبعضها »ربما» يضحك.. لا بأس، أعبر الطريق لأري، فمهمتي هي أن أري وأن أسجل! وفعلاً، عبرت الطريق لأصل إلي الرصيف الآخر، وتقدمت إلي حيث يوجد السور، الله، إنه البحر، ولكن بين السور والبحر شاطئ عريض، عريض يكاد يمتد عرضه إلي قرابة المائة متر.. وأناس يلعبون.. نعم إنهم يلعبون الكرة، كرة القدم، سبحان الله! إنهم فريقان يلاعبان بعضهما بعضاً ومن هنا تأتي الصرخات وتعلو الأصوات. مشيت إلي الأمام قليلاً لأقترب من حارس مرمي الفريق الآخر.. لكن علي البعد قليلاً فريقان آخران.. إنهما يلاعب كل منهما الآخر، ومشيت أكثر.. فإذا بفريقين آخرين، كل يلاعب منهما الآخر، وأخذتني حاستي الصحفية، لأري مجموعات أكثر وأكثر ولكنني قلت، إنني حتماً سأضيع وقد لا أعرف طريق العودة، وأنه مجرد طريق طويل علي ساحل ممتد، وقلت لنفسي أرجع أفضل فالطريق قد يطول بي حتي يدركني التعب، ولا أقدر علي العودة! وهنا بدأت طريق العودة وأنا أسأل نفسي هكذا: يلعبون في فجر اليوم، وقد يستمرون إلي ما لا نهاية، أم تري أن هذه الأرض المبلولة قليلاً بحكم اقترابها من البحر حتي أسهل عليهم في اللعب، وأنهم أي كل هذه الفرق قد لا يجدون أرضاً للعب إذا ما تأخروا عنها إلي قلب النهار؟! وبدأت أحكي ما رأيت إلي زملائي الذي نزلوا إلي مائدة الإفطار متأخرين ساعتين عما نزلت أنا. وهنا رد علي إميل عزت مبتسماً: لا تنس أنك هنا علي أرض البرازيل، الملكة المتوجة للكرة علي أرض الدنيا! وجاء النهار، وجاءت رحلات اليوم الأول: لماذا ريو دي جانيرو؟! وجاءت الإجابة: كانت هذه الأرض كلها ربما منذ آلاف السنين للهنود الحمر، أو للقبائل الأصلية.. ثم كان غزو البحارة الاسبان أو البرتغال إلي الأرض الأمريكية. أرض أمريكية في الشمال.. وأرض أمريكية في الجنوب.. في الشمال كان الغزو البريطاني والفرنسي في نفس الوقت الذي جاء فيه كريستوفر كولومبس.. وفي الجنوب كان غزو الاسبان أكثر، قادتهم رحلاتهم ومغامراتهم إلي هذه الأرض، ربما بعد أن ضاعوا في البحار أو المحيطات لأشهر بعيدة، وهذا ما جعلهم يصلون إلي أي أرض يلمسونها لينزلوا إليها بحثاً عن أي شيء من الماء العذب، وأي رزق من طعام طيب. وصلوا إلي هذه النقطة، وصلوا إلي الشاطئ الذي وصلوا إليه ليجدوا، وبسرعة نهراً يصل إليها، نهر ماؤه عذب.. ليشربوا وهم يصرخون بإسبانيتهم: ريو دي جانيرو! أي أن هذا نهر شهر يناير، الذي وصلنا إليه. ريو هي النهر وجانيرو هو يناير.. ومن هنا قرروا أن يعسكروا هنا.. أن يبنوا أول بيت لهم هنا وأن يطلقوا علي هذا المكان »ريو دي جانيرو» فأصبح هذا اسم المكان الذي اختاروه وأن يصبح هذا الاسم هو اسم عاصمة الدولة التي أنشأتها البرازيل، نعم اسم العاصمة لمئات السنين القادمة، وقبل أن يختار البرازيليون الحاليون عاصمة أخري ينتقلون إليها هي »برازيليا» في قلب البلاد، عاصمة جديدة خالصة من كل ما حاق بالعاصمة القديمة.. من زحام ومشكلات، وبعد أن بدأ الانهيار الاقتصادي يلف العاصمة القديمة من كل جانب! شاطئ الكاريوكا وكما جاءت تسمية العاصمة »ريو دي جانيرو» من جانب المستوطنين الجدد »الاسبان» فقد جاء اسم هذا الشاطئ الطويل الجميل من جانب أهل البلد الأصليين »الهنود الحمر» كما يطلقون عليهم. جاء المستوطنون.. الرجال البيض بأسلحتهم وعتادهم.. خاف منهم أهل البلاد الأصليين، جروا بعيداً.. لم يجد المستوطنون الجدد مقاومة. راحوا يبنون بيوتهم.. بطريقة بدائية نعم، لكن هذه هي البداية فقط، وراح أهل البلاد يبتعدون عنهم.. ينظرون إليهم من بعيد، ويحذرون بعضهم البعض ليبتعدوا عنهم أكثر وأكثر وهم يقولون: هذا مكان بيت الرجل الأبيض، بلغتهم: الكاريوكا.. نعم الكاريوكا، هو: بيت الرجل الأبيض، وليس له علاقة بحال من الأحوال بالفنانة الكبيرة »تحية كاريوكا». ولكن هذا الشارع الطويل الطويل، والذي أصبح أشهر شوارع البرازيل قاطبة أصبحت له شهرة عريقة، فأنت لم تر البرازيل إلا إذا جئت إلي ريو دي جانيرو.. أصل الحضارة الحديثة علي هذه الأرض، وأشهر شوارعها، شارع الكاريوكا أو شاطئ الكاريوكا. هذا الشاطئ الرائع، تري أمامك وأنت تمشي فيه فرق كرة القدم البرازيلية التي أصبحت أسطورة الدنيا، وفي المساء تري شيئاً مختلفاً. هؤلاء هن: بنات البرازيل، اللائي يقطن حول هذا الشاطئ، وهن يتمخطرن بأجسادهن الجميلة جماعات وفرادي، علي رصيف هذا الشاطئ.. سود البشرة نعم.. ولكنهن جميلات، لا يتمتعن بالجمال فقط ولكن بخفة الظل أيضاً.. وإذا ما قررت أن تسير في هذا الشارع أو علي هذا الشاطئ وحدث أن التقيت ببعضهن، فلابد أن تلقي بكلمة أو كلمتين استحساناً وإعجاباً، وإلا نالك منهن بعض الألفاظ السخيفة إذا ما فهمتها قد تكون بمعني: احنا مش عاجبينك واللا إيه؟!. هذه هي الروح البرازيلية الخفيفة التي تتحلي بها جميلات الجزء الجنوبي من الأرض، علي شواطئ البرازيل! بعيداً عن هذا، فإن ريو دي جانيرو مازالت تتمتع بصفة العاصمة الاقتصادية للبرازيل بعيداً عن العاصمة »برازيليا»، وهي أيضاً موطن للقادمين الجدد علي امتداد عشرات السنين الماضية من أبناء مصر وسوريا ولبنان، وهذا ما يجعل الطعام الشرقي موجوداً جنباً إلي جنب مع الأطعمة الأمريكية والأطعمة البرازيلية التي تتمتع بحرارة أكثر، مثل الأطعمة المكسيكية والأرجنتينية. نعم هذه هي كوبنهاجن البوابة إلي الشمال الاسكندنافي، وهي بوابة كل الطرق إلي السويد، والنرويجوفنلندا أيضاً لم تكن هذه هي المرة الأولي التي أعبر بها الخط الفاصل بين شمال الدنيا إلي جنوبها.. »الاكويتور» أو »خط الاستواء».. لأن المرة الأولي منذ سنوات قبل ذلك وأنا في طريقي من جنوب شرق آسيا.. أتصور من ماليزيا إلي إندونيسيا.. وقتها عندما أعلن قائد الطائرة الهولندية أننا: الآن نعبر خط الاستواء.. ونظرت من شرفة الطائرة وكأنني سأري شيئاً غريباً لكنني رأيت أن السماء هي السماء والأرض تحتنا والبحار هي الأرض والبحار لا شيء غريب علي الإطلاق إنما هي الجغرافيا وعندها كما رسمت خرائط الدنيا خط »الصفر» بين الشمال والجنوب، وعندها ينقلب الشتاء إلي الصيف، أو ينقلب الصيف إلي شتاء.. هذا هو الواقع الوحيد الذي يمكن للإنسان أن يلمسه، لكن غير هذا لا شيء علي الإطلاق، الأرض هي الأرض والسماء هي السماء، والجو هو الجو، ربمابد هناك وحر ها هنا أو العكس.. والناس هم الناس يعيش الناس في الجنوب كما يعيش الناس في الشمال، ربما هم أكثر حركة بحكم الجو، أكثر اعتدالاً، لكن هذا كله لا يؤثر في حركة التقدم أو التأخر، بالعكس، ربما كان الناس في الشمال أكثر تقدماً لأن البرد يدفعهم إلي حركة أكثر، فيعملون أكثر ويتقدمون أكثر ويحققون أكثر، لكن هذا ليس الذي رأيته علي أرض البرازيل.. التي رأيت وتابعت فيها العجب!.. ولكن دعوني أبدأ من البداية لهذه الرحلة! كوبنهاجن نقطة الانطلاق! ولأنني كنت علي الطائرة الاسكندنافية فقد كانت كوبنهاجن هي نقطة الانطلاق.. وصلناها ليلاً لنبيت في واحد من أشهر فنادقها في قلب المدينة وهو في نفس الوقت يحمل نفس علامات الطائرة الاسكندنافية. نمنا وصحونا.. لنجد أننا في بوابة اسكاندنافيا نعم هذه هي كوبنهاجن البوابة إلي الشمال الاسكندنافي، وهي بوابة كل الطرق إلي السويد، والنرويجوفنلندا أيضاً، ربما ولو أن فنلندا تتبع قليلاً حلف الشمال الغربي للاتحاد السوفيتي سابقاً، الروسي حالياً، وهي فعلا تحمل معالم القطب الشمالي من ناحية ليل الشتاء الطويل، ولو أن النرويج يصل إلي ما هو أبعد عنها شمالاً، وأكثر الدول الاسكندنافية جميعاً ولوجاً في القطب الشمالي. الصباح هنا في قلب كوبنهاجن يختلف، هنا وسط المدينة، الشارع يمتلئ حركة ونشاطاً، والمحلات التي تحيط بجوانب هذا الفندق الكبير تدلك علي ما يمكن أن تراه أو تشتريه من هذه العاصمة الذائعة الصيت!.. لكن رائحة قهوة الصباح تجذبك أكثر، واقتراب موعد الطائرة يدعوك لأن تسرع في كل ما تقوم به حتي لا يفوتك موعد إقلاعها! الإفطار ينتهي ويأتي صوت إميل عزت، ياللا كل واحد يجيب شنطته بسرعة وينزل فاضل نصف ساعة علي موعد الطائرة. وبالفعل كنا نسرع حتي لا يفوتنا موعد الطائرة، علي الرحلة معنا عدد من الأصدقاء خاصة الذين جاءوا إلي بيتي منذ سنوات قليلة لنرسم معاً خطة تأسيس أول مجموعة متخصصة في الكتابة السياحية التي دعا إليها صديقنا الراحل الكريم عادل عبد ربه دسوقي وقتها كان مديراً كبيراً في »مصر للسياحة».. وهو الآن مستشار سياحي لمصر، وفوميل لبيب، وأمير فهيم المذيع السياحي الشهير وجلال دويدار وآخرون. المهم.. انه عندما التقت حقائبنا وضعناها في قلب درهة الفندق، وقال إميل عزت: خلاص كده، اعتبروها ركبت الطائرة.. وكانت هذه أول مرة نسلم فيها حقائبنا لإدارة الفندق لوضعها في الطائرة لكي تريحنا من عناء الذهاب بها إلي المطار ووزنها، ووضعها علي »السير» الواصل لداخل الطائرة. وأبعد من هذا، كان تسلمنا »البوردنج باس» أو تذكرة الركوب علي الطائرة ومعها رقم القيد لكل واحد منا.. نوعاً من التقدم الذي شهدناه لأول مرة. وعندما حدث هذا، رحت أفكر برأسي وأنظر إلي السماء البعيدة كيف نطير إليها، ونطير في رحابها لتحملنا السماء الأمريكية أولاً، ثم إلي جنوب الدنيا، نعم الأرض الضاربة في الجنوب، إلي البرازيل التي تحتل قلب واجهة الجنوب الأمريكي، بعيداً بعيداً عن كل ما نعرفه، بل إنها بعيدة جداً عن أمريكا وسواحل أمريكا لنعبر كل شرق الولاياتالمتحدةالأمريكية إلي النقطة الفاصلة بينها وبين أمريكا اللاتينية أمريكاالجنوبية ونخترق بلدانا أو شواطئ كثيرة لنصل إلي قلب الجنوب، إلي قلب البرازيل، وبوابتها أن يطلقون عليها »ريو دي جانيرو». »ريو دي جانيرو» نعم.. أربع عشرة ساعة كاملة كان وقت الطيران من أقصي الشمال »كوبنهاجن» إلي قلب الجنوب شاطئ البرازيل من مشكلاتي الحقيقية أنني باختصار لا أنام وأنا في قلب الطائرة، الطائرة في سماء الله سبحانه وتعالي.. نعم أسلم نفسي لله وحده، أسلم جسدي وروحي لكنني لا أنام.. أدور في الطائرة بحثاً عن صديق يقظ أتحدث إليه عما نحن فيه.. لم أجد، حتي جلال دويدار الذي كان يقظاً راح يتظاهر بالنوم حتي لا أسبب له إزعاجاً أكثر وهذا ما كتبه في مقالاته عن تلك الرحلة! وأخيراً وصلنا بسلامة الله.. وصلنا ليلاً.. ورغم أننا وصلنا إلي الفندق الكبير علي شاطئ البرازيل وعلي شاطئ أكبر مدينة فيها وهي مدينة تاريخية تحمل من التاريخ ما لا تحمله عاصمة البرازيل. بعد أن سلمنا حقائبنا لتذهب إلي غرفنا.. وتسلمنا مفاتيح تلك الغرف، إلا أنني خرجت من باب الفندق، إلي أرض الشارع.. أمشي عليه، وأنا أدق بقدميّ هاتين وكأنني أريد أن أتحقق أنني فعلاً علي أرض الجنوب الأمريكي، كما فعلت عندما ذهبت لأول مرة إلي جاكارتا في الجنوب الآسيوي، وفي النصف السفلي من الكرة الأرضية هنا لأتحقق أنني هناك، ولكني هذه المرة كنت أقول لنفسي »يالهذه المسافة، كم هي عدد آلاف الكيلومترات التي تفصل بين ريو دي جانيرو في جنوبأمريكاوجاكارتا في الجنوب الآسيوي، وما الذي هو كائن بين هنا وهناك من بلاد وأناس، وبحار، ومحيطات وكائنات حية تسبح في هذا الكون الكبير الكبير». وبدأ النوم يغلبني، فقلت أصعد إلي غرفتي أفضل حتي لا أنام علي أرض الطريق! وغلبني النوم، حتي علي فراش ليس هو فراشي، وعلي أرض ليست هي أرضي، ولكنني نمت. وأتصور أنني نمت أقل من المدة المعتادة.. واستيقظت وأنا في منتصف الليل المعتاد، ولكنه كان الصباح الباكر فقد جريت إلي النافذة لأفتحها، فوجدت النهار ليس متقدماً ولكنه الفجر. وضعت ملابسي لأنزل، لا يهم فالاستيقاظ في الفجر هي عادتي، ولو أنه لم يكن فجر الصباح في مصر.. لا يهم إنه الصباح علي كل حال. لم تكن الغرفة التي أقيم بها في دور مرتفع، فاتجهت إلي السلم، ونظرت فإذا هم يعدون طعام الإفطار، لا بأس أنزل إلي الشارع قليلاً.. بالفعل وجدت أنني في الشارع، والشكل مختلف.. الصباح يظهر كل شيء، رصيف الفندق، ثم الشارع العريض، ثم رصيف آخر.. يحده سور منخفض، ثم شاطئ البحر.. ولكن ما كل هذه الأصوات القادمة من هناك، هل توجد »خناقة» أو معركة، لكن الأصوات، ترتفع، بعضها يصرخ، وبعضها »ربما» يضحك.. لا بأس، أعبر الطريق لأري، فمهمتي هي أن أري وأن أسجل! وفعلاً، عبرت الطريق لأصل إلي الرصيف الآخر، وتقدمت إلي حيث يوجد السور، الله، إنه البحر، ولكن بين السور والبحر شاطئ عريض، عريض يكاد يمتد عرضه إلي قرابة المائة متر.. وأناس يلعبون.. نعم إنهم يلعبون الكرة، كرة القدم، سبحان الله! إنهم فريقان يلاعبان بعضهما بعضاً ومن هنا تأتي الصرخات وتعلو الأصوات. مشيت إلي الأمام قليلاً لأقترب من حارس مرمي الفريق الآخر.. لكن علي البعد قليلاً فريقان آخران.. إنهما يلاعب كل منهما الآخر، ومشيت أكثر.. فإذا بفريقين آخرين، كل يلاعب منهما الآخر، وأخذتني حاستي الصحفية، لأري مجموعات أكثر وأكثر ولكنني قلت، إنني حتماً سأضيع وقد لا أعرف طريق العودة، وأنه مجرد طريق طويل علي ساحل ممتد، وقلت لنفسي أرجع أفضل فالطريق قد يطول بي حتي يدركني التعب، ولا أقدر علي العودة! وهنا بدأت طريق العودة وأنا أسأل نفسي هكذا: يلعبون في فجر اليوم، وقد يستمرون إلي ما لا نهاية، أم تري أن هذه الأرض المبلولة قليلاً بحكم اقترابها من البحر حتي أسهل عليهم في اللعب، وأنهم أي كل هذه الفرق قد لا يجدون أرضاً للعب إذا ما تأخروا عنها إلي قلب النهار؟! وبدأت أحكي ما رأيت إلي زملائي الذي نزلوا إلي مائدة الإفطار متأخرين ساعتين عما نزلت أنا. وهنا رد علي إميل عزت مبتسماً: لا تنس أنك هنا علي أرض البرازيل، الملكة المتوجة للكرة علي أرض الدنيا! وجاء النهار، وجاءت رحلات اليوم الأول: لماذا ريو دي جانيرو؟! وجاءت الإجابة: كانت هذه الأرض كلها ربما منذ آلاف السنين للهنود الحمر، أو للقبائل الأصلية.. ثم كان غزو البحارة الاسبان أو البرتغال إلي الأرض الأمريكية. أرض أمريكية في الشمال.. وأرض أمريكية في الجنوب.. في الشمال كان الغزو البريطاني والفرنسي في نفس الوقت الذي جاء فيه كريستوفر كولومبس.. وفي الجنوب كان غزو الاسبان أكثر، قادتهم رحلاتهم ومغامراتهم إلي هذه الأرض، ربما بعد أن ضاعوا في البحار أو المحيطات لأشهر بعيدة، وهذا ما جعلهم يصلون إلي أي أرض يلمسونها لينزلوا إليها بحثاً عن أي شيء من الماء العذب، وأي رزق من طعام طيب. وصلوا إلي هذه النقطة، وصلوا إلي الشاطئ الذي وصلوا إليه ليجدوا، وبسرعة نهراً يصل إليها، نهر ماؤه عذب.. ليشربوا وهم يصرخون بإسبانيتهم: ريو دي جانيرو! أي أن هذا نهر شهر يناير، الذي وصلنا إليه. ريو هي النهر وجانيرو هو يناير.. ومن هنا قرروا أن يعسكروا هنا.. أن يبنوا أول بيت لهم هنا وأن يطلقوا علي هذا المكان »ريو دي جانيرو» فأصبح هذا اسم المكان الذي اختاروه وأن يصبح هذا الاسم هو اسم عاصمة الدولة التي أنشأتها البرازيل، نعم اسم العاصمة لمئات السنين القادمة، وقبل أن يختار البرازيليون الحاليون عاصمة أخري ينتقلون إليها هي »برازيليا» في قلب البلاد، عاصمة جديدة خالصة من كل ما حاق بالعاصمة القديمة.. من زحام ومشكلات، وبعد أن بدأ الانهيار الاقتصادي يلف العاصمة القديمة من كل جانب! شاطئ الكاريوكا وكما جاءت تسمية العاصمة »ريو دي جانيرو» من جانب المستوطنين الجدد »الاسبان» فقد جاء اسم هذا الشاطئ الطويل الجميل من جانب أهل البلد الأصليين »الهنود الحمر» كما يطلقون عليهم. جاء المستوطنون.. الرجال البيض بأسلحتهم وعتادهم.. خاف منهم أهل البلاد الأصليين، جروا بعيداً.. لم يجد المستوطنون الجدد مقاومة. راحوا يبنون بيوتهم.. بطريقة بدائية نعم، لكن هذه هي البداية فقط، وراح أهل البلاد يبتعدون عنهم.. ينظرون إليهم من بعيد، ويحذرون بعضهم البعض ليبتعدوا عنهم أكثر وأكثر وهم يقولون: هذا مكان بيت الرجل الأبيض، بلغتهم: الكاريوكا.. نعم الكاريوكا، هو: بيت الرجل الأبيض، وليس له علاقة بحال من الأحوال بالفنانة الكبيرة »تحية كاريوكا». ولكن هذا الشارع الطويل الطويل، والذي أصبح أشهر شوارع البرازيل قاطبة أصبحت له شهرة عريقة، فأنت لم تر البرازيل إلا إذا جئت إلي ريو دي جانيرو.. أصل الحضارة الحديثة علي هذه الأرض، وأشهر شوارعها، شارع الكاريوكا أو شاطئ الكاريوكا. هذا الشاطئ الرائع، تري أمامك وأنت تمشي فيه فرق كرة القدم البرازيلية التي أصبحت أسطورة الدنيا، وفي المساء تري شيئاً مختلفاً. هؤلاء هن: بنات البرازيل، اللائي يقطن حول هذا الشاطئ، وهن يتمخطرن بأجسادهن الجميلة جماعات وفرادي، علي رصيف هذا الشاطئ.. سود البشرة نعم.. ولكنهن جميلات، لا يتمتعن بالجمال فقط ولكن بخفة الظل أيضاً.. وإذا ما قررت أن تسير في هذا الشارع أو علي هذا الشاطئ وحدث أن التقيت ببعضهن، فلابد أن تلقي بكلمة أو كلمتين استحساناً وإعجاباً، وإلا نالك منهن بعض الألفاظ السخيفة إذا ما فهمتها قد تكون بمعني: احنا مش عاجبينك واللا إيه؟!. هذه هي الروح البرازيلية الخفيفة التي تتحلي بها جميلات الجزء الجنوبي من الأرض، علي شواطئ البرازيل! بعيداً عن هذا، فإن ريو دي جانيرو مازالت تتمتع بصفة العاصمة الاقتصادية للبرازيل بعيداً عن العاصمة »برازيليا»، وهي أيضاً موطن للقادمين الجدد علي امتداد عشرات السنين الماضية من أبناء مصر وسوريا ولبنان، وهذا ما يجعل الطعام الشرقي موجوداً جنباً إلي جنب مع الأطعمة الأمريكية والأطعمة البرازيلية التي تتمتع بحرارة أكثر، مثل الأطعمة المكسيكية والأرجنتينية.