"عاش خائنا و مات كافرا"..جملة شهيرة قالها الفنان عزت العلايلي للجاسوس "جابر" و الذي كان يجسد دوره النجم نور الشريف في فيلم بئر الخيانة. الفيلم مأخوذ عن قصة حقيقية ، و لكن بطلها يدعي "رجب عبد المعطي" ، فعادة تتناول الأعمال السينمائية القصص الحقيقية بشيء من التغيير سواء في أسماء الأبطال أو الأحداث أو بعض التفاصيل الدقيقة. و سواء كان جابر أو رجب فالحقيقة أنه كان شخصا خائنا باع نفسه لأعداء وطنه و أنهى حياته بيده فأستحق أن يحصد لقبي الخائن و الكافر. البداية كانت في أكتوبر 1937 و تحديدا في حي القباري بالإسكندرية ، حيث ولد رجب عبد المعطي لأب يعمل في التجارة ، ولد في مستوى اجتماعي مرتفع لم يكن ينقصه شيء و لم يكن المال عقبة بالنسبة له مثلما كان عقبة بالنسبة للكثيرين في هذا الوقت. و لكن حياة الترف تلك أصابته بالتكبر و الاستهتار ، لم يهتم بدراسته و لم يستطع حتى الحصول على الثانوية العامة. كان يرى أنه يستطيع أن يصل لأعلى المراتب من دون شهادة و لم يكن يشغله طوال الوقت سوى وهم تمثل في أن يصبح مديرا لشركة كبيرة. أراد والده أن يقومه و يجعلا رجلا معتمدا على ذاته و لديه مسئولية، طلب منه أن يعمل و توسط له للحصول على وظيفة بميناء الإسكندرية ، و لكن الابن المدلل رفض معتمدا على مال أبيه. منع عنه والده المال فاضطر للعمل مرغما و قبل وظيفة كاتب حسابات بميناء الإسكندرية. ظل يعمل في الميناء ثلاث سنوات و اكتسب خلالها خبرة لا بأس بها و لكن حلم المدير صاحب الشركة ظل يراوده، فرفض الاستمرار في وظيفة كاتب الحسابات و طلب من والده إمداده بالمال اللازم ليضع قدمه على أول الطريق. رفض والده بشدة في البداية و أمام إصرار الابن و تمرده وافق والده و أمده ببضعة ألاف يبدأ بها مستقبله. و كما توقع الأب لم ينجح رجب بسبب توسعه في أعماله و هو مفتقد للخبرة الكافية التي تؤهله للنجاح، فتزايدت عليه الديون. و ما زاد الأمر سوءا تزامن خسارته مع نكسة 1967 و التي مني بسببها بخسارة فادحة بسبب حالة الكساد التي انتشرت وقتها. و أمام فشله اتخذ قرار مغادرة مصر و السفر إلى اليونان ، لم يكن يعرف ماذا سيعمل هناك و لكنه سافر، نزل في أحد البنسيونات المتواضعة و استمر شهرا دون عمل. و أثناء تجوله في أحد الشوارع قابل شاب مصري يعمل في مصنع هناك و عرض عليه وظيفة عامل بالمصنع إلا أنه تكبر و رفض بشدة هذا العمل البسيط، فنصحه وقتها الشاب أن يعود إلى مصر حتى لا تصطاده المخابرات الإسرائيلية و تغريه بالأموال مثلما فعلت مع الكثيرين الذين لم يجدوا فرصة عمل. لم ينتظر رجب وصول رجال الموساد إليه بل بعث لهم خطابا يطلب منهم المساعدة و الوقوف بجانبه في محنته. و جاء الرد على خطابه سريعا محددين له ميعادا لمقابلته.. و حين ذهب إلى مقر السفارة الإسرائيلية بأثينا أعطوه استمارة ليملأها. و حين رأوا أنه عمل فترة في ميناء الإسكندرية وجدوا في ذلك أمرا هاما فطلبوا منه كتابة ما يعرفه عن الميناء فتعجبوا مما كتب عن أهمية الميناء من حيث الموقع إضافة إلى أهميته الاقتصادية و العسكرية. فبدؤوا يغدقوا عليه بالمال و نقلوه ليسكن في فندق كبير و خططوا له زيارة إلى تل أبيب.و أثناء وجوده في تل أبيب تلقى التدريبات اللازمة و خضع لاختبارات اجتازها بنجاح و حصل على رتبة رائد بالموساد. قام بعدها بالسفر إلى الإسكندرية و تحديدا في شركة والده حيث بدأ مهام عمله كجاسوس. و تمثل عمله في نقل كافة المعلومات الصغيرة و الكبيرة إلى الموساد إضافة إلى تصوير الميناء و إرسال الصور إليهم و كان يتخذ من شركة انشأها عام 1971 تحت مسمى "شركة رجب للخدمات البحرية" ، ستارا لعمله الحقيقي. لم يكتفي الصهاينة بالتعامل مع رجب على أنه خائن كل همه المال ، بل أرادوا أن يجعلوه يعمل معهم باقتناع فحضر معهم محاضرات تتحدث عن إسرائيل التي تحب السلام و ترفض الحرب و أوهموه أن العرب هم المعتدين. مرت شهور و شهور و هو يعمل معهم يبعث لهم بالمعلومات و يستقبل منهم الرد ، حتى قامت حرب أكتوبر و انتصرت مصر و منيت إسرائيل بأكبر خسارة في تاريخها. كانت مصر و الأمة العربية في أسعد حالاتهم بعد النصر و استرداد الأرض ، عدا رجب الذي اعتبر نفسه واحدا من اليهود و حزن على خسارتهم حزنا شديدا. بعد نصر أكتوبر استمر عمله مع الموساد الذين أمروه بضرورة مراقبة السفن السوفيتية العابرة و ما تحمله من معدات عسكرية. كان ينزل إلى الميناء بكثرة بصورة لفتت إليه الأنظار. و بسبب ظروف الحرب في ذلك الوقت كان كل البريد الدولي مراقب ، فاكتشف الضابط المراقب لبريد أوروبا وجود رسائل مشفرة تبعث من الإسكندرية إلى أثينا ، فقامت المخابرات المصرية بمراقبة بريد رجب عبد المعطي و فتحت رسائله و كشفت أمره. و بعد تجميع كافة الأدلة المدينة له ، ألقي القبض عليه بمكتبه في صباح 13 يناير 1975 ، و وجدوا بحوزته جهاز فك الشفرات و خطاب حديث مكتوب فيه أنهم بصدد إرساله إلى أثينا في شهر مارس. وقف أمام محكمة عسكرية وجهت له تهم الخيانة و نقل معلومات للعدو أضرت بالوطن و التخابر مع دولة معادية بهدف الإضرار بمصالح الوطن العسكرية إضافة إلى حمله لجواز سفر يهودي و رتبة عسكرية إسرائيلية. وحكمت المحكمة على الخائن بالإعدام شنقا و صدق الرئيس و مفتي الجمهورية على الحكم.. نقل إلى أحد السجون تمهيدا لتنفيذ الحكم الصادر ضده و قد لقى هناك أبشع أنواع المعاملة من النزلاء الذين كانوا يسبونه و يضربونه، فمهما كانت جرائمهم كانوا يرون أن خيانة الوطن هي أكثر الجرائم خسة. وفي صباح أحد الأيام تم العثور على رجب ملقى على الأرض داخل زنزانته و بيده جرح قطعي غائر وسط بركة من الدماء و بجانبه قطعة زجاج من نظارته الطبية مهشمة، لم ينتظر تنفيذ الإعدام فأنهى حياته بنفسه. هكذا انتهت سيرة رجب عبد المعطي، الجاسوس الخائن الذي نشأ في بيت عز و ترف لم ينقصه شيء و لم يعاني من شيء ، باع نفسه لعدو وطنه مقابل المال..عاش وهم الدولة التي لا تقهر و بالنهاية انتحر يائسا من رحمة الله.