كانت فتاة ريفية سافرت الي العاصمة الأرجنتينية بحثا عن الشهرة في مجال السينما وهي لازالت في سن المراهقة، لكنها تعثرت وعاشت حياة بائسة حتى اكتشفها المسئولون عن الإذاعة لتقديم برنامج على الهواء صار من أشهر البرامج على الإطلاق.. وبعد انقلاب عسكري ناجح وقع أحد القادة في غرام المذيعة المشهورة التي نصحته بالتقرب من الفقراء، فزادت شعبيته مما أثار حقد زملائه ضده فتآمروا عليه وأدخلوه السجن فإذا بإيفيتا تقود المظاهرات من أقصى الأرجنتين الى أدناها وتشعلها نارا وتصبح الثورة الشعبية حديث وكالات الأنباء مما دفع قادة الجيش للإفراج عن بيرون الذي رد الجميل لإيفيتا بالزواج منها فور الإفراج عنه ثم صار رئيسا للأرجنتين بعد شهور قليلة فأقنعته إيفيتا بإفراغ خزائن الدولة وتوزيع المساعدات على الفقراء فأطلقوا عليها لقب القديسة وأقاموا لها التماثيل!! توالت المفاجآت بسرعة في حياة المرأة صغيرة السن التي جاءت من أعماق الفقر الى قمة الثراء واستولت على قلوب الناس قبل أن تكمل عامها الثلاثين.. كانت تسافر الى أوروبا فيخرج الأوروبيون لاستقبالها استقبال الأبطال، ليس لكونها زوجة رئيس دولة، وإنما للتاريخ الذي صنعته بيديها، وكفاحها، وإصرارها على النجاح في الأهداف الثلاثة التي جعلتها هدفا لها.. النجومية والحب.. والانتصار للفقراء ورفع المرأة حتى تتساوى بالرجل! والغريب أن ايفيتا كانت تقوم بنفسها بإبرام المعاهدات بين الأرجنتين ودول أوروبية أخرى ايطاليا وأسبانيا وفرنسا.. ورغم أن البعض في الأرجنتين حاول أن يشوه صورتها أمام الشعب بنشر بعض اللقطات التي كانت تظهر فيها ايفيتا وهي تتحلى بالذهب والألماظ، إلا أن الشعب الأرجنتيني يهب على قلب رجل واحد لينشر صورها وهي توزع الملابس على البسطاء وتقوم بزيارة الفقراء وتمكث معهم ساعات في بيوتهم المتواضعة.. وهكذا نجح المؤيدون لايفيتا في إلحاق هزيمة نكراء بالذين حاولوا تشويه مكانتها في قلوب الناس.. وصار لقبها الشهير هو "القديسة الشريفة"! لكن بدأت الرياح تأتي بما لا تشتهي السفن.. وينزل خبر إصابة ايفيتا بمرض السرطان كالصاعقة على الشعب الذي أحبها لدرجة الجنون.. كانت ايفيتا تستقبل عامها الثاني والثلاثين من عمرها حينما اكتشف الأطباء توغل هذا المرض الخبيث في جميع أنحاء الجسد الرقيق! تسوء صحة ايفيتا مع الأيام.. ويترشح زوجها بيرون للرئاسة لفترة ثانية.. وتصر إيفيتا على أن تشارك في الحملة الانتخابية رغم أنها لم تعد قادرة على أن تفرد جسدها ولو لحظة واحدة.. وأمام إصرارها وعنادها يضطر الأطباء الى أن يسندوا ظهرها بالكرسي المتحرك بمادة الجبس!!.. وكان المشهد مؤثرا وهي تطوف الأرجنتين تؤازر زوجها وتسانده في حملته الانتخابية بينما جسدها مسنود بالجبس الى الكرسي المتحرك! كان طبيعيا أن يفوز بيرون بالانتخابات الرئاسية وأقيم حفل كبير داخل القصر الوردي.. وبينما حضرت إيفيتا هذا الحفل وهي تخفي آلامها الفظيعة عن زوجها والحاضرين من كبار رجال الدولة وقف خلف مقعدها المتحرك رجل لم تره هي من قبل ولا يعرفه الحاضرون.. الوحيد الذي كان يعرف شخصيته ومكانته العلمية هو بيرون الرئيس الذي كان يعلم أن زوجته تحتضر دون أن تشعر، وأن لها موعدا مع الموت خلال ساعات، لهذا قام باستدعاء أكبر طبيب وخبير في شئون التحنيط ليظل واقفا خلف الكرسي المتحرك لإيفيتا انتظارا للحظة حاسمة ولا مفر منها.. وبالفعل أطلقت إيفيتا صرخة مدوية انطلق معها بيرون في فزع من مقعد الرئاسة الوثير الى المقعد المتحرك الذي زلزلته صرخة زوجته إيفيتا!.. ويتحرك في نفس الآونة الطبيب الكبير فيتأكد أولا من أن إيفيتا فارقت الحياة ثم يبدأ في المهمة المسندة إليه!! قام الطبيب الكبير بسحب الدماء من عروق زوجة الرئيس ثم حقنها في نفس الوقت بسوائل تمنع الجسم من التحلل! وكانت هذه هي رغبة الزوج الذي وقف يبكي زوجته أمام الجميع.. أراد أن يبقى الجثمان كما هو وأن يحتفظ بزوجته الى الأبد حتى لو عاشت معه دون روح!! كانت الصدمة مروعة على الشعب الأرجنتيني الذي كان يحسد رئيسه على أنه مازال قادرا على النظر الى زوجته وأن يحدثها حتى لو لم ترد عليه! مضت ثلاث سنوات فقط وانقلب الجيش على بيرون.. ربما وجدوا أن الرجل صار ضعيفا بعد أن رحلت عنه المرأة الأسطورة.. وربما لأن المصائب لا تأتي فرادى كما تقول الأمثال.. تم نفي بيرون الى أسبانيا.. وأراد قادة الانقلاب الجديد أن يتخلصوا من أسطورة ايفيتا بتدمير جثمانها المحفوظ في تابوت بالغرفة رقم 63 في المبنى الخاص باتحاد العمال في الأرجنتين.. لكن لم يمهل القدر قائد الانقلاب الذي انقلب عليه ضباط آخرون وتولوا السلطة ورفضوا النداءات المتتالية لبيرون وهو بالمنفى لاسترداد جثمان زوجته! يمر ستة عشر عاما والرئيس الأسبق في المنفى والانقلابات تتوالى وقادة كل انقلاب يتفننون في إخفاء جثمان المرأة التي رفض الشعب نسيانها وكانت مصدر إزعاج وقلق لكل حاكم جديد رغم أنها مجرد جثمان داخل تابوت.. فالشعب كان يسقط قادة هذه الانقلابات واحدا بعد الآخر كلما عادت إليهم ذكريات ايفيتا التي فشلت قوات الدولة في أن تمسحها من ذاكرة الشعب! أخيرا.. ينجح بيرون في العودة الى حكم الأرجنتين.. وكان قراره الأول البحث عن جثمان زوجته حتى كشفت المخابرات عن مكانه الذي حفظت فيه في سفارة الأرجنتين بروما!.. عاد الجثمان وأخرجوه من التابوت في حضور الرئيس بيرون العائد للسلطة بعد ستة عشر عاما.. وتتجه العيون كلها نحو بيرون وهو ينظر الى زوجته التي لم يتحلل جسدها ويبكي هامسا بجملته المشهورة أمام شعرها الأصفر: لا تزعجوها.. إنها نائمة!! لم يعش بيرون سوى سنوات قليلة وفارق الحياة هو الآخر، ومن باب الوفاء له ولزوجته قرر كبار رجال الدولة دفن جثمان إيفيتا بطريقة تمنع المساس به مدى الحياة وتحفظه بعيدا عن الحاقدين.. حفروا قبرا على مسافة ثلاثة عشر مترا تحت الأرض، وضعوا داخله الجثمان وأغلقوا عليه بالأسمنت المسلح حتى سطح الأرض! وقبل سنوات كادت الأرجنتين أن تشهر إفلاسها ومرت بضائقة مالية أصابت اقتصادها في مقتل، فاقترحت صحيفة من كبريات الصحف إخراج جثمان إيفيتا ووضعه في متحف ليصبح مزارا سياحيا تسدد منه الدولة ديونها.. لكن يهب الشعب من جديد على قلب رجل واحد ويكاد يحطم مقر الصحيفة فيضطر جميع العاملين فيها الى الهروب من الأبواب الخلفية.. ولا ينقذ الصحيفة سوى هذا الاعتذار المذل الذي قدمته للشعب، ولذكرى قديستهم الراحلة! وفي منتصف التسعينات تقرر إحدى كبريات شركات الإنتاج السينمائي تحويل قصة ايفيتا الى فيلم سينمائي تلعب بطولته المطربة "مادونا".. وتحشد الشركة كل امكانتها لتظهر مادونا في شكل مطابق لإيفيتا بدءا من تسريحتها المعروفة حيث يكون شعرها مشدود الى الوراء ومزموم بشنيون.. ومرورا بلون الشفاه والأظافر وهو اللون الأحمر الناري.. وانتهاء بفستانها الأسود الذي كانت تعشق الظهور به! ومناديلها التي اشتهرت بها.. والتماثيل التي صنعت لها.. بالإضافة الى أحذيتها وعطورها!! ورصدت الشركة في هذا الوقت مائتي مليون دولار لتكلفة الفيلم على أمل إيراد متوقع يزيد على ألف مليون دولار!.. لكن هاج وماج الشعب الأرجنتيني ضد مادونا.. ومزقوا صورها.. وشنوا ضدها حملات لأنها تجرأت وهي نجمة إغراء على أن تمثل قصة حياة القديسة الشريفة!