د. فوزى فهمى أحرقت وزارة الدفاع الأمريكية عشرة آلاف نسخة من الطبعة الأولي لكتاب »عملية قلب الظلام«، الصادر عام 0102 لمؤلفه الضابط السابق بالاستخبارات الأمريكية »أنتوني شافيز«، علي خلفية إدانة صاغها مسئولون من وزارة الدفاع والاستخبارات الأمريكية، أقروا ان الكتاب يمس المحظور، بما يكشفه من عمليات سرية جدا، تمثل احراجا، وتعد تهديدا، وتشكل خطرا كبيرا علي الأمن القومي الأمريكي. مارست وزارة الدفاع مبدأ التسوية، وفقا لمنطق الاقتصاد المحكوم بآليات الكسب والخسارة، التي لا تعرف التنازل عن المستحقات، إذ سددت للناشر تغطية كاملة لتكاليف الطباعة، وأحرقت النسخ بمعرفتها، وأجرت تعديلاتها حذفا لكل ما تراءي لها، ولا تستطيب ذكره، استنادا إلي أنه لا يستقيم نشره عاريا مكشوفا تحسبا لخطر الآثار التي تنجم عن ترويجه، ففي ضوء تقييمها رأت وزارة الدفاع ضرورة أن يتبدي متحصنا بالسرية التي لا توفر أي دليل، استدراكا لحماية الأمن القومي. صدرت بالفعل الطبعة المنقحة من الكتاب، لكن دلالات الواقعة ظلت مفتوحة علي أطروحات لافتراضات محمولة علي عدم نزاهة القصد من عملية الحذف، أو براءتها، أو تجردها، بل الرفض لشرعية الاجراءات التي اتخذها البنتاجون، بوصفها عدوانا علي حرية التعبير، ورقابة غير مسبوقة في مجال النشر، وما انفك الأمر يستفحل في المجتمع الأمريكي علي مستويات متعددة، إذ أعلن المؤلف ان شراء عشرة آلاف نسخة، وحرقها كإجراء قمعي في هذا العصر الرقمي، يعد أمرا مثيرا للسخرية، وصرح محامي المؤلف عن مقاضاة البنتاجون بشأن الانتهاكات التي مارسها بتعديلاته، وأطلقت »ويكيلكيس« تسريباتها عبر صيحة مدوية »أيها النازي الشرير، أحرق كل الكتب التي تريدها، فمازالت لدينا نسخ أخري غيرها«، وتتابعت التناولات الإعلامية للواقعة، وعقدت لقاءات حضرها المؤلف، وندوات ناقشت مواجهة ثقافة الاخفاء، وتشكلت لدي الجمهور ريبة مظانها أن ثمة تصميما من الرئيس أوباما والبنتاجون علي عدم السماح للمعلومات التي يحويها الكتاب بألا تصبح متاحة لجمهور أوسع، وراح الناس يتساءلون: ما الذي يتوجب علي المواطنين القيام به لمحاربة رقابة تأتي من باب خلفي؟ صحيح ان »شافيز« خلال مباشرته مهمته الاستخباراتية في أفغانستان ضد حركة طالبان، التي نال عنها النجمة البرونزية، التحم بالاجراءات العملية للحرب هناك، فاكتشف كل ما كان منذورا للكشف، إذ تبدت له حقائق غير مستوعبة، وفرص ضائعة، ومهاو ليست في ساحة النظر، وتناقضات غير مدركة، ومتاهات تفرض سلطانها، لذا جاء كتابه بمثابة لائحة اتهام موثقة بوقائع الأخطاء، ومتخمة بتفاصيل مذهلة، منها علي سبيل المثال اجهاض عملية اعتقال أيمن الظواهري عمدا من جانب المخابرات الباكستانية، قبل عام من كارثة الحادي عشر من سبتمبر، ولاشك ان طرح الواقعة يستهدف تبيان ما يمثله الارتباط الوظيفي لزمن اجهاض اعتقاله، بجدلية تأثيره في احداث كارثة سبتمبر، وأيضا يؤكد »شافيز« بأنه تبين عبر مسارب الاختراق ان ثمة علاقة تواطؤ، وتآمرا بين جهاز الاستخبارات الباكستانية وحركة طالبان، وتتعدد مصفوفة المعلومات والأخطاء الكاشفة عن سياسات فاشلة، تجلت في غياب الاستراتيجية، وسوء الفهم، وبيروقراطية فاسدة متحكمة، شكلت سمة الوجود العسكري والاستخباراتي الأمريكي في أفغانستان، الممتد تواتره حتي إدارة أوباما، وصحيح أيضا أن كتاب »شافيز« خضع لحسم منطق المحظورات، فأجريت له جراحات باترة لعدد (052) موقعا من متنه، لكن الصحيح كذلك أنه وفقا لظاهرة التوافقات المتزامنة، صدر في نفس عام 0102 كتاب »حروب أوباما الصراع بين الإدارة المدنية ووزارة الدفاع الأمريكية«، لمؤلفه الصحفي الشهير »بوب ودوورد«، حيث سرد فيه تفاصيل الجدل الذي تحول إلي نزاع، دارت حلقات معاركه في أروقة البيت الأبيض، بين أوباما وجنرالاته والقيادات المدنية بشأن أفغانستان، طارحا الرؤي كافة، ما تجانس منها وما اختلف في مواجهة مطلب أوباما بضرورة البحث عن استراتيجية خروج من أفغانستان، لاعتبارات ذات علاقة بالسياسة الداخلية، وقد تطلب الأمر استعراض شواهد، وتشخيص ظواهر الواقع، وفحص خطوطه، واخضاعها للتحليل، فإذا بالافتصاح يتبدي جزما دون شطط، بأن ما كشفت عنه مصادر »بوب ودوورد« تنعطف بالتوافق علي أوضاع الوجود الأمريكي العسكري بأفغانستان، كما شخصها »شافيز« في كتابه المحروق، فعلي سبيل المثال، يذكر »ودوورد« أن أوباما في أول جلسة له مع »مايكل مولن« رئيس هيئة رؤساء الأركان المشتركة، فوجئ بأنه ليست ثمة استراتيجية للحرب بأفغانستان، كما يروي المؤلف أيضا تفاصيل زيارة سرية قام بها نائب الرئيس »جوزف بايدن«، والسيناتور الجمهوري »ليندسي جراهام« إلي إسلام أباد وكابول في بداية ولاية أوباما، أفصحت عن عجز الرئيس الباكستاني عن امتلاك علاج لمسألة العلاقة بين الاستخبارات الباكستانية وحركة طالبان. لاشك ان تلك الأوضاع تعكس عدم ضبط علاقة واقع الوجود الأمريكي بتحقيق هدف ايجابي للحرب في أفغانستان، ثم تتجلي المعضلة في ظل احتدام الصراع الدائر بين القيادات، ومحاولات القادة العسكريين اجبار أوباما علي ارسال أربعين ألف جندي إلي أفغانستان. صحيح ان الكتاب يفصح عن أن استمرار الحرب مطلب القادة العسكريين، وكأنهم يدفعون عن أنفسهم مسئولية النتائج الفاشلة، ويلقون علي أوباما بمسئولية الامداد بالأدوات، وصحيح أيضا أن تصريحات أوباما بالكتاب، تؤكد انه ضد استمرار الحرب، لكن الصحيح كذلك ان ذلك جاء عبر الكشف عن وثائق ومقابلات سرية للغاية، ومع ذلك لم يحرق الكتاب، وأيضا لم يعلق البيت الأبيض علي ما به من تفاصيل. تري أهو دهاء سياسي، أم الازدواج الأمريكي للمعايير؟