هذه المشاهد التي جرت علي الساحة، خلال شهور مضت تجاوزت عاماً كاملاً، وقد تعددت أشكالها وصورها، لم تكن مؤثرة أو صارخة فحسب، بل كان البعض منها محزناً والآخر مفزعاً، لا يليق بمقام »ثورة« ولا بأصالة شعب عريق، ولا يتفق مع احترام حيادية التاريخ السياسي المصري المعاصر علي مدي ثلاثين عاماً كاملة، انطلقت خلالها أصوات مدوية ولو كانت نادرة طالبت بالعدالة الاجتماعية والحرية، وحذرت من احتكار السلطة، ونددت بوجود الفساد بعد أن ضاقت به البلاد، وما أن اشتدت حلقاتها حتي انفرجت بانطلاق الثورة، لكن بعض المشاهد التي جرت بعدها، كانت مؤسفة محزنة تتطلب الإصلاح والتصحيح، احتراماً لمبادئها، وتقديراً لمن أطلقها وحماها من أبناء هذا الشعب العظيم، ومن هذه المشاهد ما كان اختزالاً للتاريخ.. ومنها ما كان خطايا الإعلان الدستوري.. ومنها حال الانتخابات البرلمانية وما بعدها. فلا يكفي أن نختزل التاريخ المصري المعاصر خلال الثلاثين عاماً التي مضت، في محاكمات ومناقشات لأحداث وأشخاص بذواتهم من زاوية شخصية، أو مناقشة قيود وأوصاف لاتهامات خارج الأسوار أو داخل القفص، أو الحديث عن متهمين بعينهم بين جدران السجون أو خارجها ولو كانوا مسئولين كبار، وقد ظلوا صامتين، ونستغرق الوقت كله في سباق بين الإعلام المقروء والمسموع والمرئي كل ليلة، وحوارات مستمرة تمتهن العدالة وتقيم التحقيقات والمحاكمات الموازية تنتهي بصدور الأحكام مقدماً، تلهب المشاعر وتؤجج بها الرأي العام، ثم نبكي علي اللبن المسكوب والمسروق، ونطلق البطولات والاتهامات في كل اتجاه، كل ذلك ونترك ما هو أولي وأشد بإهمال التنقيب عن الأسباب.. والمسببات.. بموضوعية وأصول علمية، وعن كيفية السبيل لإغلاق أبواب الفساد وسد منافذ التسلط ومنع الحيل، كيف لنا أيها السادة أن نستغرق الوقت ونبدد الجهد في مسائل شكلية أو مظهرية، ونترك البحث عن دراسة مفاتيح الشخصية المصرية التي تولت رئاسة البلاد لثلاثين عاماً بالتمام والكمال، وقد قبلت علي نفسها النوم مختبئة في قفص الاتهام صامتة عن الكلام أو البيان، لأن التنقيب عن الحقيقة فيه إعلاء لمصلحة التاريخ حتي ولو كانت ضد المتهم نفسه، سواء اعترافاً بالخطأ أو مواجهة الاتهام بشجاعة، ليقول لنا أمام الرأي العام كله عما دهاه.. وما الذي جري؟.. وإذا كان ذلك مفاجأة مذهلة أمام الرأي العام عن ذلك الحاكم الذي قبل علي نفسه وبلده بعد ثلاثين عاماً أن يقف في هذا المشهد بصمت وانكسار وخزي، فماذا عن المحكومين الذي قبلوا هذه الشخصية لثلاثين عاماً وهي بهذه الأوصاف.. فهل هي بطانة السوء.. أم هو النفاق.. أم السلبية واللامبالاة.. أم الضعف والهوان، أم هي المصالح الشخصية أم الخوف من بطش الاستئثار والتسلط، لأن بحث ذلك كله حق علينا لحماية التاريخ وحق للأجيال القادمة في المعرفة، فلا يصح اختزال التاريخ لهذه الفترة الطويلة في زاوية شخصية، أو في روايات وقصص لأشخاص بذاتهم وإنما علينا البحث والتحليل بالعمق والفهم وأصول علوم الاجتماع والسياسة بموضوعية وأمانة للتاريخ وللمستقبل وحق علينا للأجيال القادمة!! خطايا الإعلان الدستوري كذلك كان من المشاهد الصارخة في الحالة الراهنة.. ذلك التردد منذ البداية في معرفة الطريق، فكانت خطوة إلي الأمام وثلاث إلي الخلف، وبينها الغموض وعدم الإفصاح، فمنذ الإعلان عن تعطيل أحكام الدستور، ثم تشكيل لجنة لتعديل بعض مواده، أنزل عليها المجلس الأعلي سلطاناً لتعديلها حتي بلغت تسع مواد، ثم جري الاستفتاء عليها وبدا المشهد صورة للاستقواء.. وغزوة للصناديق، ثم الاستغناء بعد ذلك عن نتائج الاستفتاء بإعلان دستوري بلغت مواده 36 مادة، لا يعلم أحد من أعده وصاغه، جمع بعض الحسنات بسقوط العضوية أو بطلانها بحكم القضاء وعند تغيير الصفة، لكن الأخطر أن الإعلان الدستوري جمع بعض المبادئ وأغفل الأخري، فوقع في كثير من المطبات سهواً أو عمداً، فلا هو دستور مؤقت محسن بالاستفتاء، ولا هو مجرد إعلان دستوري بسيط يجمع أهم الأساسيات، لهذا أخطأ واضعوه في مواطن عدة، فشكل الدولة غامض.. ونظامها غائب.. والبرلمان بجناح قائم والآخر نائم بغير سلطة أو اختصاص تشريعي أو رقابي يكشف عن ردة إلي الوراء، والعلاقة بين السلطات باهتة، وإجراء الانتخابات التشريعية أسقطت المساواة وتكافؤ الفرص، وخضعت لضغوط بعض التيارات والقوي السياسية فاتسمت بعدم الدستورية، وجرت الانتخابات في ظروف غير طبيعية.. وعطلت الحياة القضائية لعدة شهور بلغت سنة قضائية كاملة، وأخيراً مطعون علي النصوص بعدم الدستورية بموجب قضاء المحكمة الإدارية العليا، ومعرضة للبطلان، فكان المشهد صارخاً مؤثراً في الحياة الراهنة، ثم نشاهد جلسات البرلمان بجناحيه أحدهما كامل.. والآخر منقوص العدد.. ولسوف يجتمع المجلسان.. لاختيار الجمعية التأسيسية لوضع الدستور.. وهي أحد المطبات والخطايا للإعلان الدستوري.. والتي كانت توجب خلق الدستور أولاً.. ثم إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية.. بعد صدوره والاستفتاء عليه، ليكتمل البيان الدستوري في البلاد بقوام الدستور وأحكامه وفقاً لطبائع الأمور.. وقواعد الشرعية الدستورية، وهو مشهد من المشاهد المؤثرة في الحالة الراهنة!! ولسوف تظل آثاره متلاحقة تهدد استقرار البلاد. الانتخابات البرلمانية وهي أحد المشاهد الصارخة في الحالة الراهنة، فقديماً قالت لنا لجنة دستور 0391 بعد تعطيل أحكام دستور 32 وحل البرلمان، »إننا لا نريد مجلساً طاغياً.. ولا مجلساً مطيعاً، وأن الانتخابات قد أفرزت وقتئذ صراعاً حزبياً علي السلطة، وتوزيعاً للغنائم، اقتضت حل البرلمان.. وتعديل الدستور«، ونحن هنا نهيب بالديمقراطية.. ونتائج صندوق الانتخابات، حتي ولو جرت في ظروف أمنية واقتصادية وسياسية غير عادية، وكان الشعب تواقاً ليري نواب الشعب تحت القبة معبرين عن مصالحه وقضاياه القومية المزمنة، مرتفعين فوق الانتقام أو الوعيد والتشفي مهما كانت الأسباب والأعذار، بعيداً عن أي صراع أو طغيان، فماذا يعني ضياع الوقت والنقاش تحت القبة فيما لا طائل منه، والتغول علي سلطة القضاء في التحقيقات والمحاكمات.. والانحراف في محاسبة أحد أعضائه أو مناقشة قضايا حزبية أو شخصية أدت إلي احتدام الخلافات السياسية والحزبية تحت القبة، ثم ماذا تعني الانتخابات التي جرت تحت قبة مجلس الشوري.. لترشيحات للرئيس والوكيلين لا يقابلها منافساً واحداً وكأنها قرارات حزبية بالتعيين واحتكار للسلطة داخل المجلس.. بعد أن انعقد منقوصاً بعدد 09 عضواً بالتمام والكمال، ومع ذلك جري اختيار الرئيس والوكيلين وجميع اللجان النوعية وهيئات المكاتب.. ويجري الاجتماع المشترك لاختيار الجمعية التأسيسية لوضع دستور جديد للبلاد.. ثم يجتمع بعد ذلك ليمارس اختصاصه الذي عاد إلي الخلف باجتماعات منقوصة تنال من صحة اجتماعه.. وسلامة أعماله!! وهي مشاهد تنذر بكل أسف باحتكار السلطة عودة إلي الماضي.. وتسلط الأغلبية الكاسحة، بما من شأنه أن يؤثر علي الحالة الراهنة في البلاد!! ثم ماذا بعد ثم ماذا عن طريق المستقبل، في ظل هذه المشاهد الصاخبة ومازال هناك غيرها الكثير مثل الفوضي الامنية وقضايا السلام الاجتماعي.. والاقتصاد.. والتنمية.. واختيار اللجنة التأسيسية.. ووضع الدستور.. واختيار رئيس للبلاد.. كل ذلك قضايا ومشاهد مؤثرة في الحالة الراهنة، فنحن امام مفترق طرق لثورة مجيدة صارت ملكا للشعب، بدت بعدها بعض المشاهد الصاخبة لنكتشف سرقتها من جانب بعض القوي السياسية الغالبة ومتاجرة البعض الاخر بشعاراتها.. ثم ما لبثت ان تصارعت القوي والتيارات السياسية وبدت وكأنها توزع الغنائم والسلطات والمناصب وامتدت الصراعات علي طول الطريق.. فما لم تهدأ وترتفع فوق الصراعات والاتهام والانتقام، وتضع القضايا القومية فوق الرؤوس بعيدا عن الصراعات الحزبية والتسلط والاحتكار، فلسوف ينهض الشعب مرة ومرات لمقاومتها وتصحيح مسارها.. ليظل وحده هو صاحب السيادة ومصدر كل السلطات!