هذه السطور ليست برثاء له بل الرثاء لنا نحن يا كل عرفوا قدره فافردوا له منزلة عالية في وجدانهم، صاحب السمو والرقي الذي بلا نظير : د. ثروت عكاشة الغائب الحاضر . رحمه الله في عيد الاضحي الاخير طلبته تليفونيا كعادتي مع كل عيد لأقول له كل سنة وانتم بألف خير ولأسأل كذلك عن آخر أخبار تحفته المنتظرة عن الفنان الفرنسي العالمي شاجال كما سبق وعرفت منه .. كان شغوفا بشاجال وأنا ايضا أشارك في هذا الشغف، وفوجئت بتسجيل : مرفوع من الخدمة مؤقتا، فلما تكرر لليوم التالي توجست، وعرفت أنه علي غير ما يرام ، ثم علمت بان حالته ساءت ... وكان رحمه الله حتي شهور قليلة قبلها مكتمل اللياقة الذهنية حتي ان كل محبيه لم يكونوا ليملكوا الا التكبير باسم الله ... وحدث المكتوب علينا جميعا ورحل. بعدما أدي رسالة كبري له أرادها وانتواها و.. عزم علي ان يتممها ولقد فعل وبكل امانة : رسالة تنوير ثقافي لشعوب تقرأ العربية .. مشروعه الموسوعي الفريد بما ينوء به كاهل أي باحث يمكن ان يتصدي له من الشرق كان أم الغرب . قبل المضي لابد من التنويه بتجاوزه عالم التأليف والترجمات والبحوث الي عالم التأسيس والمنشئات، حيث تولي انشاء البنية الأساسية التحتية للثقافة في مصر من خلال تقلده الوزارة مرتين . ..أنشأ أكاديمية الفنون بمعاهدها للمسرح والسينما والموسيقي والباليه والتذوق الفني .. غير أوركسترا القاهرة السيمفوني وفرقتي الباليه والاوبرا وعروض الصوت والضوء التي استحدثها في مصر، ولم ينس الثقافة الشعبية فانشأ ما يعرف بقصور الثقافة الجماهيرية .. أما ذروة انجازه الوطني فهو انقاذ معابد النوبة السبعة عشر معبدا من الغرق أثر بناء السد العالي، في مقدمتها معبدي أبوسمبل وفيله .. فكانت هي المرة الاولي التي يسجلها التاريخ ويقبل فيها العالم علي المشاركة في انقاذ تراث دولة ما باعتبار أنه تراث للانسانية جمعاء. أما موسوعة د. ثروت عكاشة في فنون الحضارات التي قدمها في عشرين جزءا هذه فهي عمل لا مثيل له ولم تعرفه المكتبة العربية في تاريخها ولا في الغرب ... قضي أحقابا من عمره في دراسات ميدانية تأملية سائحا جوالا بين المكتبات العالمية والمتاحف الكبري ومعالم وآثار، مقتحما للتاريخ يعب بما يزخر به من شواهد العمران وفنون الحضارات، منقبا مدققا في أركان الكون، وبحس عال ينتقي عناصر ومشاهد الفن والجمال، متوقفا متأملا للقيم الفنية في العمارة الاسلامية والشرقية والغربية وكل ما كان له ابلغ الاثر علي مر العصور، بدءا من سكان الكهوف في العصر الحجري القديم الي الفن المصري والعراقي والفارسي والاغريقي والروماني، ثم متابعا المعمار والزخرف الاسلامي العربي والفن الاسلامي التركي والفارسي والمغولي بكل شمولهم من رسوم وتصاوير ومعمار ولوحات وقيم جمالية سواء في الفن البيزنطي أو فنون العصور الوسطي، ثم النهضة رينسانس وباروك وروكوكو، بكل شمولها العمارة والنحت والتصوير بل والموسيقي وكأن بدع الدنيا بفنونها قد فتحت ذراعيها امام موسوعته.. فنون ثقافات متكاملة أسجيت بين ضفاف كتب مبهرة تحتويها وتحتويك ... عشق الفنون عبر هو نفسه عنه بأروع تعبير في موسوعته المكتملة هذه التي شملت تاريخ الفن منذ البدء بما لم يقدم عليه او يقدر أحد أن يؤديه لا من قبل ولا من بعد ، فهو الوحيد الفريد في العالم الذي استكمل حلقات سلسلة الحضارات الانسانية كاملة في موسوعته تلك "العين تسمع والاذن تري" ... متعة قلب وعقل لمحبي آداب اللغة والأسلوب الرفيع من حيث اختيار الكلمات وصياغة العبارات .. اما انه كمثقف بارادته، وبنزعته للكمال فقد حمل نفسه مسؤولية العالم المدقق في علمه، فوق حساسية الفنان المرهف .. هكذا يستطيع بكتبه أن يحتوي قارئه ويرتفع به الي ذرا ذهنية نبيلة ومتع بصرية نقية.. ما زلت كلما تفقدت احدي جواهره المصفوفة - حصريا - علي الرف العلوي لمكتبتي فأعيد تصفح كتاب له أجدني لفرط الروعة والدهشة أعاود وكأنها القراءة الاولي .. ليست مجرد كتب هذه بل هي لي ملاذ ومرفأ ألجأ اليه كلما تطلبت روحي سكينة أو ابتغت هدنة من انفعالات الحياة، هنا أنسلت من عالمي الي عالم ملون زاخر بالفضول والدهشة ... كتب د. ثروت عكاشة بحسنها ورفيع ذوقها وحجمها تتباهي كلها بالفخامة والابهة بما يليق وما تحمل بين دفتيها من مضمون .. معظم اعماله من القطع الكبير 30*30 تعتبر تحفا فنية تشرف بحمل كنوز من ثقافة تاريخية و متع فنية وبصرية يندر ان لم يتعذر ايجاد نظير لها مجمع بهذا النحو والتعبير البديع في دنيا الكتب بأسرها .. فموسوعته هذه هي أدق وأروع ما عرفته المكاتب العربية والغربية من موسوعات شملت مثل هذا الكم والحجم من المسح الحضاري الشامل .. مرة وصلني احد كتبه واقسم بالله لو أن تحفة من مجوهرات بولجاري هي ما وصلتنا لما شهقت لها واحتفيت بها كمثل ذلك الكتاب الموسوعة في فنون التصوير الاسلامي ... أما " ثنائية " مصر في عيون الغرباء " هذان الكتابان التوأمان عن مرحلة شديدة الثراء والخصوصية من تاريخ المنطقة في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، وهما عن الرحالة من الكتاب والشعراء والفنانين الاوروبيين ممن حطوا الرحال في مصر وبلاد الشمال الافريقي والشام وتركيا لفترات، فتأثروا وانفعلوا فنا وأدبا وتاريخا وتصويرا .. هذان الكتابان جمعا باقة من أبدع اللوحات الفنية، مع انطباعات المؤلف وتأملاته عن المرحلة وتلك الاعمال وظروفها التاريخية.. تحفتان وتنضمان لسائر كنوزه الاسطورية... اسهامات جليلة جعلته جديرا بمكانته الرفيعة في دنيا الثقافة والفنون، ويكفي أنه الذي وضع حجر الاساس لثقافة تنوير لكل البلاد التي تتحدث بلسان عربي، كأنه يقدم هديته لقراء العربية بتصميه هذا الثقافي الشامل الي كل من يتطلع وينشد الوصول الي ثقافة عليا ومكتملة.