جمال الغيطانى ما يعنيني ليس ذلك الوادي المنزوي، البعيد جدا بمقاييس الزمن القديم عن النهر والاماكن المطروقة، الذي لم يعد في عصرنا مجهولا، ما يعنيني تلك الجهود التي أدت إلي اكتشافه واختياره كمرقد أبدي لملوك الدولة الوسطي والدولة الحديثة، ما يعنيني الدوافع الدينية والفكرية والدلالية وطبعا الأمنية. لابد ان جهدا شاقا بذل حتي تم الوصول الي هذا الموقع الذي شكلته الطبيعة تشكيلا عبر عن الرؤية الفكرية والدينية للمصريين القدماء. عند الوصول إلي الوادي. والوقوف بمدخله. سنلحظ التكوين الفريد الذي صنعته الطبيعة. في المواجهة عند اعلي نقطة من المرتفع الصخري قمة هرمية، هرم من نحت الطبيعة، هرم ليس حاد الجوانب والاضلاع، بشكل ما يوحي بنهد الأنثي مكتمل التكوين. يذكرنا هذا المرتفع هرمي الشكل بأهرام الجيزة. الأهرام التي لم تكن مجرد عمارة انما فلسفة ايضا، فالمبني صاعد من الارض الي السماء. وجوده الاكثف تحت ومع الصعود الي اعلي يخف شيئا فشيئا حتي ينتهي إلي نقطة. مجرد نقطة يبدأ عندها كل شيء، كما ينتهي شيء كل ايضا. عندما انتقلت العاصمة الي الجنوب، الي طيبة »الأقصر الآن«، ظل الشكل الهرمي موجودا ولكن ليس في شكل عمائر عظيمة مثل اهرام الجيزة التي تتفاوت ارتفاعاتها وبداخلها غرف الأبدية، لقد اصبحت الاهرام رموزا، سواء كانت في قمة سلة أو هرما صغيرا فوق مقبرة، كما نري في مقابر الفنانين والعمال بدير المدينة. لم يكن الهرم مجرد شكل معماري، انما كان له مغزي ديني ومضمون روحي، ربما يرتبط بفكرة الصعود إلي أعلي أو الصلة بين الارض والسماء. أكاد اتخيل الانطباعات الاولي لدي اولئك الكهنة المجهولين لنا عند اكتشافهم مكان الوادي والذي تتحقق فيه جميع الشروط التي تضمن رقادا هادئا امنا لاعظم ملوك مصر. في حيواتهم الابدية. لم يكن منهجا لهم وجود هذا الهرم الطبيعي المهيمن علي الوادي، انما تكوين الوادي نفسه، ثمة شبه بين الجسد الانساني وانفراجة شطريه، فكأنه انثي ضخمة الحجم ترقد متأهبة للولادة. ولأن الموت في الفكر المصري القديم كان لا يعني النهاية، بل انه عبور من عالم إلي عالم آخر، من عالم تدركه حواسنا الي عالم نتخيله، رموزه مستمدة من تلك التي نعرفها. يطالعها الانسان في حياته اليومية. القارب، النهر الاشجار، النيران، والمخاطر. المحكمة التي تزن القلب ليحكم قاضيها الاعلي بالذنب أو البراءة المؤهلة لدخول الابدية التي تخلو من الامراض والمخاطر والجوع، الابدية الفواحة بازهارها واشجارها. الحقول التي لا يفني الزرع منها ابدا، كانوا يسمونها حقول يارو. الابدية التي تخلو أرضها من الاعداء، عالم بلا اعداء، هكذا وصفوا الآخرة علي جدران الدير البحري إنها الجنة ذاتها. الموت ولادة اخري، اذا كانت الولادة الأولي تجيء عبر رحم الأم، منه يخرج المولود الي العالم، يسعي في الدنيا الي لحظة محددة عندما يغمض عينيه الي الابد، عندئذ يتم تجهيز الجثمان لحفظه. ويتم دفعه الي رحم أكبر، رحم يسع الجميع، انه رحم الارض لذلك كانت الهيئة الانثوية للوادي مطابقة تماما للفكرة. ولذلك جاء تصميم المقابر علي هيئة ممر طويل، مستقيم أو متعرج، يشبه المهبل، يؤدي في النهاية الي حجرة الدفن التي تكون بيضاوية، اقرب الي شكل الرحم، في وسطها تماما التابوت الذي يحوي الجثمان والذي يمكن اعتباره رمزا مصغرا للكون كافة، علي الغطاء من الداخل صور النجوم، ورمز السماء، الالهة نوت، امرأة ترفع بيديها النجوم والشمس والقمر، علي سقف المقبرة توجد الالهة نوت ايضا، تمتد من اقصي السقف الي أدناه، جسدها مرصع بالنجوم، ومنها تولد الشمس، والقمر ايضا، اجمل رسم رأيته لها، في سقف غرفة الدفن بمقبرة رمسيس السادس والتي توجد فوق جدرانها مشاهد ونصوص مقدسة تشكل كتبا كاملة تخص العالم الآخر، اما الرسم الثاني فيوجد في سقف بهو الأعمدة بمعبد دندرة الذي وصل الي عصرنا سليما بدرجة كبيرة. أنسنة العالم، وعولمة الانسان، مبدأ أساسي في الفكر المصري القديم، ليس الانسان إلا ذرة تتجسد فيها جميع خصائص الكون الفسيح. وليس العالم إلا تركيبا من نفس العناصر التي تكون الانسان، لهذا جاء تصور المصريين القدماء للاله صورا رمزية لما يوجد في العالم، كان المصري القديم يؤمن بوحدانية الاله من خلال ايمانه بوجود مركز، طاقة خفية تحرك الكون. وتسير الأمر كله، اما تعدد الالهة الذي فهمناه خطأ فليس رموزا إلي الحقيقة الاصلية الواحدة. وهذه الرموز مستخلصة مستمدة من الواقع. لذلك لم يعبد المصريون الحيوانات كما فهم المتأخرون خطأ، أو كما اشاع الاعداء الرئيسيون للحضارة المصرية القديمة، اقصد العبرانيين. وهذا العداء مازال قائما، يعملون من ناحيتهم بنفس الهمة القديمة، ولكن مع استغلال العلم وموضعة المزاعم المختلقة المختلطة بالاسطورة. ومن ناحيتنا لم ندرك خطورة ذلك بعد إلا في نطاق محدود جدا من المثقفين الذين يصرح بعضهم بما أدرك. أو يتحاشي البعض الآخر لحساسية الأمر ودقته وصعوبة الخوض فيه. في مقابر الوادي المخصصة للملوك نري فنا مختلفا عما رأيناه في مقابر الفنانين بدير المدينة، هنا فن ديني في المقام الأول. يعبر عن العقائد، واذا كان الفن في مقابر دير المدينة يمكن ان نعده وسطا بين الرؤية الدينية، وتصوير مظاهر الحياة، فإن الفن في مقابر الوادي ديني بحت، الملك يعبر المراحل المتوالية، إله يسلمه إلي آخر، يجتاز العقبات بما زود به متون وتعاليم، إلي ان يمثل امام المحكمة الالهية حيث يوزن القلب في كفة، وفي الكفة الاخري ريشة ماعت، ريشة الحقيقة، فاذا ثقلت موازينه فان الوحوش الضارية تلتهم القلب علي الفور، واذا خفت يعبر للمثول امام. أوزير، الذي نراه دائما ملفوفا في الكفن الابيض، يرتدي تاج الوجهين ويمسك بالصولجان والعصا، رموز الحكم، المثول امام الاله اوزير يعد الخطوة الاخيرة، بعدها نري الملك أو الملكة ممسكا بعلامة عنخ، اي مفتاح الحياة، لقد اندمج بأوزير وضمن الخلود، والحياة الأبدية. الجدران داخل المقابر تعد نصوصا لكتب من الحجر، إذ دون عليها نصوص كاملة. ومنذ فك اسرار اللغة القديمة علي يدي شامبليون، بدأت أسرار العقائد تتكشف وتعد جهود العالم السويسري اريك هورننج الابرز حتي الآن في اتجاه فهم العقائد المصرية القديمة. وقد حدد هورننج النصوص الموجودة علي جدران مقابر الوادي كما يلي. كتاب الاموات، ويعني »ما يوجد في العالم الآخر« الهدف منه تعريف الميت بعجائب العالم الآخر، يتكون من اثني عشر جزءا. كل منها مقسم إلي ثلاثة سجلات كل سجل تسيطر عليه فكرة مركزية، كل ساعة من هذه الساعات تقابل ساعة من الليل، ويعتبر اقدم نص نقش في الوادي ويعتبره هورننج استكشافا علميا للابدية. كتاب الكهوف، يتصل ايضا بما يوجد في العالم الآخر، وينقسم العالم فيه إلي ستة اجزاء، كل منها به مناظر تتعلق بجوانب محددة للابدية مسجلة في كهوف أو حفر يمر فوقها إله الشمس، واطول النصوص تتضمن ابتهالات لاوزير. كتاب »الخروج إلي النهار« أو كتاب »القادم الي النهار« والذي عرفناه في العصر الحديث خطأ باسم كتاب الموتي. وتلك تسمية خاطئة ولا وجود لها بالاصل ولكن علماء المصريات في الغرب اطلقوها وانتقلت إلينا، وتصحيح مثل هذه الاخطاء يحتاج الي عشرات السنين مع بذل الجهود العلمية، فما البال بتصحيح الاخطاء المرتبطة بحضارة كاملة، اخطاء استمرت آلاف السنين أدت إلي مناصبة احفاد هذه الحضارة لها العداء. يقول هورننج ان كتاب »الخروج الي النهار« ليس نصا فعليا انما فكرة، يضم عددا من التعاويذ، وبعضها اساسي، مثل التعويذة الخاصة باعلان براءة الميت من الذنوب، الغرض الاساسي هو الحفاظ علي الميت من الاخطار في العالم الآخر، ومن هذه النصوص يمكن فهم تصور المصري عن الأبدية والمخاوف التي تراوده حولها. ثمة نصوص اخري مثل كتاب »البقرة السماوية« وكتاب »النهار« الذي يصور الدورة الشمسية، وكتاب الارض الذي يتناول رحلة الشمس في الليل، وكتاب البوابات، والمقصود هنا البوابات التي تفصل بين ساعات الليل الاثني عشر، ويحوي تعريفا مكثفا لما يوجد في الابدية، مثل الزمن، والعدالة، والتكوين الجغرافي للابدية، وكتاب »الليل« حول رحلة الشمس في العالم الآخر، وكتاب »السماوات«. يقول هورننج انه لم تجر أي محاولة حتي الآن لنشر النص الكامل لاحد هذه الكتب، ومنذ ان بدأ اهتمامي بهذه النصوص رحت اتابع الدراسات الخاصة بفكر المصريين القدماء في الجامعات المصرية، وفي جامعة اسكندرية عثرت علي رسالة علمية لنيل الماجستير اعدتها الباحثة سامية توفيق تحت اشراف الدكتور عبدالمنعم عبدالحليم استاذ الحضارة المصرية، وقدمت فيها نصوصا كاملة لكتاب »الامدوات« و»البوابات« مع شرحهما، وآمل ان تجد هذه الرسالة العلمية طريقها الي النشر. لقد امضيت ساعات طويلة اتأمل الرسوم والمناظر التي يفصلنا عن بعضها اكثر من سبعة وثلاثين قرنا، كثير من المشاهد يعلق بالذهن، بعضه يبدو غامضا، والبعض الآخر يبدو دانيا من المطلق، أما ما تأثرت به فتلك المناظر التي لم تتم، خاصة في مقبرة سيتي الاول ومقربة حور محب، يبدو ان كلا من الملكين توفي قبل اتمام مقبرته، فظلت مناظر كاملة بدون اكتمال، واحيانا يثير الناقص خيالنا اكثر من الكامل، لكم امضيت الوقت امام الخطوط السوداء التي تحدد الشكل. والخطوط الحمراء التي تصحح. لكن الشكل لم يتخذ النهائية، اتخيل الفنان الذي خط بالأسود، والمعلم الذي صحح بالأحمر، أما العلامة التي اثرت عندي احتراما ورهبة. فعلامة صغيرة في الجدار الاخير من مقبرة حور محب العميقة تحت الأرض، في غرفة الدفن علامتان. الاولي تحدد الجنوب الشرقي والثانية الشمال الغربي، هنا تكمن الفلسفة المصرية القديمة، فالانسان بعد رحيله الابدي يجب ان يظل علي علاقة بالكون، بدورة الفلك، فليس وجوده في النهاية إلا جزءا منها.